لم يكن بمصر أرضٌ مثلها استواء وطيب تربة، وكانت جناناً ونخلاً وكرْمًا وشجرًا ومزارع، وكانت فيها مجار على ارتفاع من الأرض، ولم يرَ الناسُ بلدًا أحسن من هذه الأرض، ولا أحسن اتصالاً من جنانها وكرومها، ولم يكن بمصر كَورة يقال إنها تشبهها إلا الفيوم، وكان الماء منحدرًا إليها لا ينقطع عنها صيفا ولا شتاءً يسقون جنانهم إذا شاءوا.

المسعودي في كتابه «مروج الذهب» واصفًا جزيرة تِنِّيس – القرن الرابع الهجري.

كانت تِنِّيس من المدن المصرية ذائعة الصيت منذ ما قبل الفتح الإسلامي؛ فقد اشتُهرت هذه المدينة العريقة بصناعة الملابس واعتاش أهلها على اصطياد الأسماك، وقامت حياتهم على تخزين المياه العذبة وقت انخفاض النيل عنها، فأين كانت تِنّيس؟، ولماذا أصبحت أطلالاً؟


أين تقع تِنِّيس؟

يذكر الجغرافيون العرب أن تنّيس كانت جزيرة تقع بين الفرَما ودمياط، قال ياقوت الحموي: «جزيرة في بحر مصر قريبة من البرّ ما بين الفَرَما ودمياط، والفرما في شرقيّها». ومن قبله يُقرر الإصطخري: أن بين «الفرما إلى تنّيس نحو فرسخين في البُحيرة». والفرَما هي منطقة بورسعيد حاليًا، والفرسخان يُقدران بعشرة كيلو متر تقريبًا.

حدّد الجغرافيون القدامى موضع جزيرة تنيس، شمال شرق بحيرة المنزلة الآن، حيث تقع منطقة بورسعيد القديمة في شرقها، ودمياط في الغرب.

أما اليعقوبي فيؤكد أنها جزيرة «يحيط بها البحر الأعظمُ المالح وبحيرة يأتي ماؤها من النيل»، ومن خلال وصف الجغرافيين لهذه الجزيرة/ المدينة نجد أنها كانت تقع في الشمال الشرقي من بحيرة المنزلة الآن، حيث تقع منطقة بورسعيد القديمة في شرقها، ودمياط في الغرب.

لقد نزل بعض الجغرافيين إلى هذه الجزيرة المصرية القديمة وإلى بحيرة المنزلة التي كانت تُعرف قديمًا باسم بحيرة مصر أو بُحيرة تِنِّيس، ووصفوا أحوالها في الصيف والشتاء، فيذكر الاصطخري أن «بأرض مصر بحيرة يفيضُ فيها ماء النيل تتّصل ببحر الروم (البحر المتوسط) تُعرف ببحيرة تِنّيس، إذا امتد النيل في الصيف عذُبَ ماؤها وإذا نقص في الشتاء إلى أوان البحر غلبَ ماء البحر عليها فملُح ماؤها، وفيها مدن مثل الجزائر تطيف البحيرة بها فلا طريق إليها إلّا في السُّفن».


تنّيس: أسماك بُحيرتها وطيور جزيرتها

كانت تنِّيس واحة من الجمال الطبيعي، تحطُّ عليها أنواع كثيرة من الأسماك والدلافين بل وبعض الحيتان.

ولأن تِنِّيس كانت جزيرة في بحيرة يحيط بها الماء من كل مكان؛ فقد كان غالب طعام أهلها من الأسماك بمختلف أشكالها وأنواعها، بل في زمن العزيز بالله الفاطمي (344- 386هـ) اصطاد أهل تنيس «حوتًا طوله ثمانية وعشرون ذراعًا ونصف، طول رأسه تسعة أذرع، ودائر بطنه مع ظهره خمسة عشر ذراعًا، وفتحة فَمه تسعة وعشرون شبرًا، وعرض ذَنبه خمسة أذرع ونصف … فأمر أمير تِنيس أبو إسحاق بن لوبة فشقّ بطنه، ومُلّح بمائة أردب ملح، ورفع فكَّه الأعلى بعُود خشب طويل، وكان الرجلُ يدخل إلى جوفه بقفاف الملح، وهو قائم غير منحن وحُمل إلى القصر (في القاهرة) حتى رآه العزيز بالله».

ويبدو أن اصطياد أهل تنيس للحيتان كان في فترة متأخرة من القرن الرابع الهجري أو الخامس، فقد كانت البُحيرة في زمن الجغرافي الاصطخري في القرن الرابع الهجري «قليلة العُمق، وبها سمكة تُسمّى الدُّلفين في خلقة الزقّ المنفوخ، وسمكة إذا أكلها الإنسانُ رأى منامات هائلة».

لقد كانت تنِّيس واحة من الجمال الطبيعي، تحطُّ عليها أنواع كثيرة من الأسماك والدلافين بل وبعض الحيتان كما مرّ بنا، وينقل ياقوت الحموي عن «تاريخ تنيس» – وهو تاريخ مفقود لم يصل إلينا للأسف الشديد- أسماء الطيور كانت تحط على هذه الجزيرة، يقول: «قال صاحب تاريخ تنيس: ولتنِّيس موسم يكون فيه من أنواع الطيور ما لا يكونُ في موضع آخر، وهي مائة ونيّف وثلاثون صنفًا».


جَنّات تِنّيس!

لم تكن تنيس جزيرة قاحلة يعتاش أهلها على الأسماك والطيور فقط، بل كانت أيضًا منطقة زراعية وصفها الرحّالة بالجنّات المثمرة البهيجة، لقد انبهر المسعودي في القرن الثالث الهجري بها كما نرى ذلك في تاريخه «مروج الذهب»، ورآها «أرضًا لم يكن بمصر مثلها استواء وطيب تربة، وكانت جناناً ونخلاً وكرْمًا وشجرًا ومزارع، وكانت فيها مجار على ارتفاع من الأرض، ولم يرَ الناسُ بلدًا أحسن من هذه الأرض، ولا أحسن اتصالاً من جنانها وكرومها، ولم يكن بمصر كَورة يقال إنها تشبهها إلا الفيوم، وكان الماء منحدرًا إليها لا ينقطع عنها صيفاً ولا شتاءً يسقون جنانهم إذا شاءوا».

لكن يبدو أن تدفق الماء العذب إلى تنيس قد انقطع بانخفاض منسوب مياه النيل في البحيرة ليحل مكانه ماء البحر المتوسط المالح فيما بعد زمن المسعودي، فقد قال ابن بطلان فيما ينقله عنه المقريزي: «وشُرْب أهله من مياه مخزونة في صهاريج تُملأ في كلِّ سنة عند عذوبة مياه البحر بدخول ماء النيل إليها، وجميع حاجاتها مجلوبة إليها في المراكب، وأكثر أغذية أهلها السمك والجبن وألبان البقر».

ومن عجيب ما يُحكى عن الغنى والثراء الذي وصلت إليه هذه الجزيرة في القرن الرابع الهجري، أن عامل (محافظ) تِنّيس أرسلَ مالاً كان قد تجمّع عنده من الضرائب والتجارة بلغ «ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم اجتمعت من ارتفاع البلد لثلاث سنين»، وكانت سِت الملك أخت الحاكم بأمر الله الفاطمي قد استولت على هذه الأموال واستعانت من خلالها على شراء الولاءات، وربما كانت السبب في قتل الحاكم بأمر الله الفاطمي!.


صناعة النسيج والملابس التنِّيسية

شبّه المؤرخون جزيرة تنيس بالجنّة العامرة المثمرة، وتجاوزت عائداتها التجارية مليون دينار ومليونَي درهم.

أما الأهمية التجارية والصناعية لهذه المدينة، فقد اشتُهرت منذ بداية العصر الإسلامي بصناعة النسيج والملابس، وكانت دار طراز (مصانع الملابس والنسيج) تنِّيس تأتي في المقدمة على دور الطراز في القاهرة والإسكندرية، حتى إن بعض الخلفاء العباسيين كانت تُصنع أثوابهم في دار طراز تنيس، فـ «كان يُصنع فيها للخليفة ثوب يقال له: البدنة لا يدخل فيه من الغزل سداء ولحمة غير أوقيتين، ويُنسج باقيه بالذهب بصناعة مُحكمةٍ لا تُحوج إلى تفصيل ولا خياطة، تبلغ قيمتُه ألف دينار

كانت تنيس مدينة صناعية وتجارية عالمية حرّة يفد إليها التجار من الشام وصقلية وقبرص والمغرب؛ لاشتهارها بصناعات النسيج والملابس الراقية.

وإننا نجد في بعض تواريخ مكة المكرمة وحديثها عن كسوة الكعبة المشرفة إشارات واضحة على أن تنِّيس كانت مصدرًا أساسيًا لصناعة تلك الكسوة؛ فقد رأى الفاكهي مؤلف كتاب «أخبار مكة» ومؤرخها «شُقة من قَبَاطي (نسيج) مصر في وسطها، إلا أنهم كتبوا في أركان البيت بخطٍّ دقيق أسود: مما أمر به أمير المؤمنين، المأمون سنة ست ومائتين. ورأيتُ كسوة من كسا المهديّ مكتوبا عليها: بسم الله بركة من الله لعبد الله المهديّ محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع في طراز تِنِّيس على يد الحكم بن عبيدة سنة اثنتين وستين ومائة. ورأيتُ كسوة من قباطي مصر مكتوبا عليها: بسم الله، بركة من الله مما أمر به عبد الله المهديّ محمد أمير المؤمنين أصلحه الله محمد بن سليمان أن يصنع في طراز تِنِّيس كسوة الكعبة على يد الخطَّاب بن مسلمة عاملِه سنة تسع وخمسين ومائة».

ونتيجة لاشتهارها بصناعات النسيج والملابس الراقية، فقد كانت تنيس بمثابة مدينة/جزيرة صناعية وتجارية عالمية حرّة يفد إليها التجار من الشام وصقلية وقبرص والمغرب، قال اليعقوبي: «وهي مدينة قديمة تُعمل بها الثياب الرفيعة الصفاق، والرقاق من الدبيقي والقصب والبرود والمخمل والوشي وأصناف الثياب، وبها مَرْسى المراكب الواردة من الشام والمغرب».

ونظرًا لجودة منتجاتها النسيجية، رأى الجغرافي أبو إسحاق الإصطخري (ت 346هـ) أن ثياب تنيس كانت أغلى أنواع الثياب المصرية والعربية قاطبة، وأرفعها شأنًا في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وتدعمه في ذلك أدلة أخرى منها كثرة دار الطراز والملابس التي انتشرت في تلك المدينة/الجزيرة.

ومن حسن حظّنا أن الرحالة الإيراني ناصر خسرو (ت 481هـ) قد زار تنيس في القرن الخامس الهجري، وأعطى لنا وصفًا مفصلاً لهذه الجزيرة الجميلة، وتقريرًا جيدًا عن صناعة الملابس والنسيج فيها التي أخذت بألباب العقول، حتى إن ملوك العالم كانوا يتمنون حيازة ملابس من مصانع الخلفاء الفاطميين في تلك الجزيرة، وكانت تلك المصانع حكرًا على الفاطميين دون غيرهم، لا يخرج منها ملبوسًا إلا لمن يريدون فقط، قال خسرو: «وينسج بتنِّيس القصب الملوَّن من عمامات ووقايات وممَّا يلبس النِّساء، ولا ينسج مثل هذا القصب في جهة ما غير تنيس، والأبيض منه ينسج في دمياط، وما ينسج منه في مصانع السُّلطان (يقصد الخلفاء الفاطميين) لا يباع ولا يعطى لأحد، وقد سمعت أن ملك فارس أرسل رسله إلى تنِّيس بعشرين ألف دينار ليشتري له بها حلَّة من كسوة السُّلطان وقد بقي رسله هناك عدَّة سنين ولم يستطيعوا شراءها».

وقف أيضا ناصر على الصناع المهرة الذين كانوا يعطون العطاء الجزيل والمال الوفير نتيجة مهارتهم الفائقة التي أوصلت تنيس إلى العالمية في صناعة الملابس والنسيج، قال: «وبتنيس صنَّاع مختصَّون بنسيج ملابس السُّلطان، وقد سمعت أن عاملا نسج عمامة السُّلطان فأمر به بخمسمائة دينار ذهب مغربي، وقد رأيت هذه العمامة ويقال إنها تساوي أربعة آلاف دينار مغربي». وهذه مبالغ طائلة إذ من المعروف بين المتخصصين أن الدينار الفاطمي كان الأجود والأثقل في تاريخ النميات الإسلامية.

ورأى ناصر خسرو أن مما اختصّت به تنيس، ولم يوجد في مدينة أخرى كله صناعة نسيج «البوقلمون»؛ «الَّذي لا ينسج في مكان آخر من جميع العالم وهو قماش ذهبي يتغيَّر لونه بتغير ساعات النَّهار، وتحمل أثوابه من تنِّيس إلى المشرق والمغرب، وسمعت أن سلطان الرّوم كان قد أوفد رسولا ليعرض على سلطان مصر أن يعطيه مائة مدينة على أن يأخذ تنِّيس فلم يقبل السُّلطان، وكان قصده من هذه المدينة القصب والبوقلمون».

وبهذا الوصف للرحالة الإيراني لمدينة وجزيرة تنِّيس نكون قد انتهينا من مقالنا الأول في هذه السلسلة عن هذه المدينة الضائعة الماضية، ونستكمل بإذن الله حديثنا عنها في مقالنا القادم.

المراجع
  1. 1. أبو إسحاق الإصطخري: المسالك والممالك، الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة.
  2. 2. المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تحقيق أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان – لندن، 2013م.
  3. 3. ناصر خسرو: سفر نامه، تحقيق يحيى الخشاب، دار الكتاب الجديد، الطبعة الثالثة – بيروت، 1983م.
  4. 4. ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار صادر، الطبعة الأولى – بيروت، 1995م.
  5. 5. اليعقوبي: البلدان، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى – بيروت، 1422هـ.