اعتمدت الفلسفة الطبيعية (والبحث العلمي) دوما على النظر لعمق الأشياء، سواء كان ذلك بواسطة ميكروسكوب كما فعل «ليفينهوك»، تليسكوب كما فعل «جاليليو»، أو حتى بمحاولة إيجاد القوانين الرياضية التي تقبع في قلب الطبيعة كما فعل «إقليدس» و«أرخميدس» وغيرهم. مثل ذلك أزمة تسببت في جعل الهواء عسيرا على الفهم. لم يكن هناك ما يمكن النظر إليه.

ظل الهواء لزمن طويل بعد الثورة المعرفية على النظام الأرسطي مجرد «وسط» متجانس أولي لا مكونات له ولا تعريف، يحمل جسيمات شديدة الصغر من المواد المعروفة. لا أهمية لخواصه رغم استمرار الاعتقاد بكونه من مكونات الكون الأساسية حتى عند الفلاسفة الساعين نحو نظرية حديثة ونظام له القدرة على التفسير، ويمكن اختباره تجريبيا والاستفادة منه من أمثال «يوهان بيكر» صاحب نظرية الفلوجستون لتفسير الاحتراق وخليفته «جورج شتال». استمر الحال على هذه الشاكلة حتى استرعى الأمر اهتمام مجموعة من العلماء يعرفون في تاريخ تطور العلم باسم «كيميائيو الغاز pneumatic chemists».


البداية: الهواء الثابت يعكر ماء الجير

رغم صياغة «فان هيلمونت» لكلمة «غاز» من اللفظ الإغريقي لكلمة فوضى، إلا أن معظم الفلاسفة الطبيعيين استمروا في إطلاق كلمة «هواء air» على الغازات المختلفة التي نتجت عن تجاربهم. وللتفرقة بين بعضها وبعضها الآخر، جاء تقسيم الهواء إلى «أهوية airs» تسبق كل منها كلمة تصف سلوكها أو تميزها عن الهواء العادي (common air). بهذه الطريقة تلقى الغاز الأول اسمه الأقدم «الهواء الثابت fixed air». نقول غاز أول لأنه أول غاز يتم تمييزه عن الهواء العادي في تاريخ العلم. بالطبع لم تكن صيغته الكيميائية قد عرفت بعد ولكن كينونته كهواء مختلف عن الهواء العادي كانت قد تم اكتشافها. بدأ الأمر من محاولة ابن تاجر النبيذ إيجاد علاج لحصوات الكلى.

ولد «جوزيف بلاك» في بوردو بفرنسا لأب أيرلندي يعمل بتجارة النبيذ وأم إسكتلندية. تولت أمه تعليمه حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، انتقل بعدها إلى بلفاست ثم إلى جلاسجو ثم إدنبرة حيث قام بدراسة الطب لسنوات عدة قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراه برسالة تدرس مدى فعالية استخدام ملح كربونات الماغنيسيوم (كان يطلق عليه ماجنيزيا ألبا آنذاك) لعلاج حصوات الكلى بلا جراحة. انتهت الدراسة إلى عدم فعالية هذا الملح عكس ما ظنه الكثيرون من معاصريه لكن تجاربه أفضت إليه بأمر آخر مثير للاهتمام.

لاحظ بلاك أن إضافة الحمض لملح لماجنيزيا ألبا (أو أي ملح من مجموعة أملاح أطلقوا عليها الأقلاء المعتدلة mild alkalis كانت في الحقيقة كلها أملاح كربونات) يسبب ظهور فقاعات لا يعلم سببها مع تكوين الناتج. قام بلاك بعدئذ بتسخين ماجنيزيا ألبا (تحولت بذلك من كربونات إلى أكسيد) ثم مفاعلتها مع الحمض فوجد أنها تعطي نفس الناتج بدون ظهور فقاعات. قرر بلاك بعدها أن يقوم بتسخين الملح مع حبس الغاز الناتج للتعرف عليه مفترضا لأول مرة أن هذا الغاز هو أحد مكونات الملح.

كان الغاز الذي اكتشفه بلاك هو ثاني أكسيد الكربون. انكب بلاك على أبحاثه بخصوص هذا الهواء الغامض فوجد أنه يقوم بتعكير ماء الجير تماما كما يفعل الهواء الناتج عن حرق الخشب أو عن التخمير بل والتنفس أيضا، كما أنه لم يكن يساعد على الحياة عكس الهواء العادي. ولأنه اعتقد انه مكون ثابت من مكونات ماجنيسيا ألبا فقد تمت تسميته باسم «الهواء الثابت». لم يكن «اكتشاف» ثاني أكسيد الكربون هو الإنجاز الوحيد في هذه العملية. فقد تمكن بلاك لأول مرة من تبيان حالة لعب فيها هواء/غاز دورا كيميائيا محوريا عكس ما كان شائعا من كون هذه الأهوية لا قيمة لها في التغيرات الكيميائية. كان ما بينه بلاك دون أن يدري هو تحويل ملح الكربونات إلى أكسيد مع تصاعد ثاني أكسيد الكربون، ثم تفاعل الأكسيد مع حمض لتكوين ملح الحمض متبوعا بتفاعل إحلال ثنائي لإعادة إنتاج الملح الأصلي.


أهوية فلوجستونية

لم يضطر «كافنديش» –الذي كان ابنا للورد وحفيدا لدوق- للعمل طيلة حياته. كان هذا مناسبا لميوله العلمية وغرابة شخصيته وميله للانزواء. أُطلق عليه لقب أغنى المتعلمين والأكثر علما بين الأغنياء رغم أنه لم يعتد أبدا حياة البذخ فعاش ميسورا لا يحتاج للقلق بخصوص المال. فقط مات كما عاش.. وحيدا.

كان كافنديش يعيش في وقت سيطرت فيه نظرية الفلوجستون على التفكير الكيميائي بحيث كان يتم تفسير معظم الاكتشافات طبقا لها. عند اكتشافه لهواء يتولد من تفاعل الحمض (كبريتيك وهيدروكلوريك) والمعدن (زنك وحديد وقصدير) وقابل للاشتعال بشدة، اعتقد كافنديش بأن ما اكتشفه هو الفلوجستون ذاته، زد على ذلك أن شتال كان قد ذكر أن المعادن تتكون من الكلس (المادة في صورتها الأكثر نقاء) والفلوجستون. وهكذا ظن كافنديش أن الحمض قام بتحرير الفلوجستون من المعدن تاركا الكلس وراءه. من المعروف الأن ان ما اكتشفه كافنديش هو غاز الهيدروجين وان الكلس هو في الواقع أكسيد المادة (ناتج اتحادها مع الأكسجين) وليس صورتها النقية.

هنا يظهر بعض التعقيد التاريخي فيما يخص التسمية. سيطلق كافنديش على الهواء الذي قام باكتشافه اسم الهواء القابل للاشتعال (inflammable air) بينما سيطلق عليه بريستلي بعد عدة سنوات اسم الهواء الفلوجستوني (phlogisticated air). يعود السبب في ذلك إلى أن بريستلي قام باكتشاف ما اسماه بالهواء منزوع الفلوجستون (dephlogisticated air) وبالتالي بما أن خواص غاز كافنديش كان مضادة لخواص غاز بريستلي، فإن بريستلي عزم على إظهار ذلك بإعطاء غاز كافنديش هذا الاسم.

المشكلة هنا هي أن كلمة الهواء الفلوجستوني لم تكن تستخدم للإشارة بشكل حصري لغاز كافنديش بل أيضا للإشارة لغاز آخر كان الجميع –شييل وبريستلي وكافندش- قد اكتشفه في وقت واحد تقريبا ولكن سبقهم جميعا إلى النشر «دانييل راذرفورد». لم يكن هذا الغاز قابلا للاشتعال أو داعما للحياة بل بدا خاملا للغاية، الأمر الذي دعا راذرفورد لتسميته بالهواء السيئ (noxious air) إلا أن بريستلي أطلق عليه أيضا الهواء الفلوجستوني مسببا المزيد ارتباك.


أهوية غير فلوجستونية

جوزيف بلاك
جوزيف بلاك

عاش «كارل فيلهيلم شييل» حياة بعيدة عن أضواء المجتمع بطوائفه منكبا على تجارب كان يجريها في الصيدليات القديمة التي تشبه حوانيت العطارين، بينما عاش بريستلي في مركز دائرة العمل العلمي والسياسي أينما كان متحديا إنجلترا فما يخص سياستها الاستعمارية، ومتحديا الكنيسة فيما يخص الثالوث المقدس. لم يحصل شييل على التعليم الجامعي لعدم قدرة عائلته المتواضعة على دعمه ماديا في حين تلقى بريستلي تعليمه العالي ليصبح قس ممارسا المهنة لمدة 6 سنوات، قبل أن يتجه نحو الفلسفة الطبيعية بسبب تدريسه للعلوم وقيامه بكتابة مخطوط عن تاريخ الكهرباء. استمر هذا التباين بين عالم شييل وعالم بريستلي في الظهور حتى في الطريقة التي حصل بها كل منهما على الأكسجين لأول مرة.

كتب بريستلي عن تجربته المفصلية انه لا يستطيع تذكر السبب وراء إجراءه لها. لم يكن منطقيا –بالنسبة لأتباع نظرية الفلوجستون– أن ينتج أي شيء من تسخين مادة أكسيد الزئبق والتي عرفت حينها باسم Mercurius calcinatus per se للاعتقاد بأن الزئبق قد فقد ما يحتويه من فلوجستون عند تسخينه متحولا هذه المادة. على أية حال قام بريستلي بتسخين الأكسيد بشدة في عدسة مكنته من تركيز أشعة الشمس على الأكسيد للوصول لدرجة حرارة شديدة الارتفاع متمكنا بذلك من حبس غاز جعل الشمعة تزداد توهجا والتنفس أكثر سلاسة من الهواء العادي. لم يعن ذلك أن بريستلي كان أول من اكتشف الغاز –الذي أطلق عليه اسم dephlogisticated air أو الهواء منزوع الفلوجستون- عام 1774م.

غلاف كتاب بريستلي كيمياء الهواء
غلاف كتاب بريستلي

كان شييل قد سبق بريستلي لهذا الاكتشاف بثلاث سنوات. تدخلت الصدفة مرة أخري في صورة تأخر نشر الصيدلي البسيط لتجربته الدقيقة مما أدى لضياع أسبقيته. على عكس بريستلي، كان شييل قد قام بتجربته عن وعي تام وقام بهندستها بدقة معتمدا على نظرية مبدئية. اعتقد شييل أن الهواء العادي يتكون من نوعين من الاهوية، هواء بإمكانه امتصاص الفلوجستون وأسماه هواء النار fire air وهواء لا يمتلك هذه المقدرة، وأسماه الهواء الرديء foul air وعزم على فصلهما. قام شيل بتفاعل هيدروكسيد البوتاسيوم مع حمض النيتريك مكونا النيتر أي نترات البوتاسيوم تلا ذلك تسخين الناتج مع حمض الكبريتيك وامتصاص أكسيد النيتروجين الناتج في ماء الجير. هنا تصاعد هواء النار القادر على جعل الشموع تشتعل أفضل من الهواء ذاته. كان هواء النار هو الأكسجين.

كيمياء الغازات
جهاز شييل المستخدم في حبس الأكسجين الناتج بواسطة مثانة حيوان كما كان من المعتاد في المختبرات

عند هذه المرحلة ومع كل هذه الاكتشافات التي لم تستغرق أكثر من بضع سنوات، كان من الطبيعي أن يقوم كافنديش وبريستلي بوضع نموذج يجعل من الهواء الجوي خليطا من الأهوية/ الغازات لأول مرة بعدما أصبح من السهل تحديد كمية كل منها في عينات الهواء المختلفة بدقة. تلك الدقة التي قادت كافنديش لعزل غاز غريب لا يتفاعل مطلقا ويمثل 1% من عينة الهواء الجوي، الغاز الذي سيسمي باسم «الأرجون» بعد قرن. هنا اكتسب الهواء طبيعته التي نجدها الآن في كل الكتب والمختبرات. لم يعد الهواء مجرد وسط صامت كما اعتقد أرسطو وباراسيلوس وبيكر. كان هذا هو الإيذان بمولد ما سيصبح لاحقا الحالة الثالثة للمادة، الحالة الفوضوية، الحالة الغازية.

المراجع
  1. The history of chemistry: john Hudson
  2. J. R. Partington: A History of Chemistry Vol3
  3. Discovery of oxygen, part 2 – translated to English from the original «A chemical treatise on air and fire» by Carl Wilhelm Scheele