توجهت الكثير من الأنظار نحو فيلم «الملاك – The Angle» الذي عرض، أمس، على النتفليكس لأول مرة، وهو ممثل للرواية الإسرائيلية لدور «أشرف مروان» الاستخباراتي الغامض بالنسبة للجمهور العربي.

وبعيدًا عن التحليل والنقد الفني للفيلم، الذي تضمن الكثير من الانتقادات الفنية الواضحة؛ فإنه يبقى من حيث البعد المعلوماتي متضمنًا للكثير من الإشارات والدلالات التي ينبغي الوقوف عندها.


عمالة أشرف مروان كردة فعل لرعونة عبد الناصر

اندفع الفيلم بتصدير صورة مختزلة للغاية لشخصية جمال عبد الناصر، وجعل في سياق درامي غير مباشر وغير محبوك؛ سبب توجه زوج ابنته منى، أشرف مروان، إلى التعامل المتعجرف والأرعن لعبد الناصر مع آراء أشرف مروان واستشرافاته.

بالإضافة إلى الزج بفكرة «العمالة المزدوجة» في إحدى المحاضرات التي كان يحضرها مروان في جامعته بلندن، إذ عرض المحاضر في هذا المشهد بطولة العميل البريطاني المزدوج «غاربو»، الذي كون شبكة مخابراتية كبيرة، وسعى من أجل تحقيق السلام في خضم الحروب الدموية المتتالية في أوروبا، وحصل بالفعل على تكريمين، أحدهما ألماني والآخر بريطاني.

مثلت هذه الفكرة مع معاملة عبد الناصر له بطريقة سيئة، بل طلب عبد الناصر من ابنته مني الطلاق من مروان؛ مثلتا مولجًا لتفكير مروان في التواصل مع السفارة الإسرائيلية في لندن كردة فعل متوقعة لشاب طموح وذكي في عمر مروان حينها.

بل إن تجسس مسئول الشئون الخارجية لعبد الناصر، سامي شرف، على دقائق حياة مروان؛ كان أيضا عاملًا مرسخًا لبغض وكراهية مروان لأسلوب عبد الناصر ورجاله، وهو ما زاد، وفق الرواية الإسرائيلية، من ولادة فكرة العمالة المزدوجة في وجدان مروان.

لا يغفل الفيلم حاجة مروان للمال، نظرًا لتضييق وتحكم عبد الناصر في ذلك، كأحد مولدات توجه مروان لفكرة العمالة المزدوجة، وهي في سياق انتقاصي شديد من مروان نفسه، ومن رجل من المفترض أن يكون زوج بنت الرئيس، فضلًا عن كونه دبلوماسيًا ليس بالهين في البعثة الدبلوماسية المصرية في لندن!


أشرف مروان من مُهَمّشي عبد الناصر إلى حَوارِيّ السادات

في نقلة درامية غير محبوكة وسريعة؛ ينتقل الفيلم بمروان من مرحلة أشرف مروان المهمش في ظل حكم عبد الناصر، إلى أبرز رجالات السادات وأقرب الناس إليه في صناعة القرار كما سيصور الفيلم في أكثر من مشهد، ويتسلق مروان لهذه المكانة في النظام الساداتي من خلال إبلاغه السادات مباشرة عن فساد رجال عبد الناصر المقربين كسامي شرف وغيره.

وينطلق مروان في هذه الحقبة في تواصله مع الموساد، مع تصوير الصراع الداخلي بين جناحي الموساد؛ المدرسة العنيفة والمدرسة المرنة، إن جاز التعبير، حيث اختار رئيس الموساد العميل الإسرائيلي المرن ليتعامل مع هذا الصيد الثمين كما يصورونه، بينما بقي العميل العنيف رهن الإشارة إذا فشلت استراتيجية التعامل المرن مع مروان في الحصول على معلومات دقيقة وموثوق فيها.

لا يغفل مخرج الفيلم المرور على بشاعات السجون المصرية آنذاك، وبالتحديد سجن طرة، في مشهد عابر خلال تواصل عميل مخابرات مصرية مع سامي شرف في السجن، مبينًا مدى نفوذ شرف وبقاء بعض رجاله في نظام السادات، بل استمرار تلقي شرف وهو داخل الحبس الانفرادي لتطورات ومعلومات دقيقة عن أشرف مروان وتحركاته في لندن وروما، وهو في حقيقة الأمر مشهد واقعي، لكنه متحيز بصورة كبيرة.

إذ لماذا يركز المخرج آرييل فرومين على السجون المصرية، من دون الإشارة ولو بطرف خفي إلى أي تصور عن الانتهاكات الإسرائيلية الكثيرة في سجونها ضد الفلسطينيين؟ أو التعاطف ولو بصورة مواربة مع حق منطقي وبدهي للفلسطينيين والمصريين والسوريين في أراضيهم، وبالطبع الرواية الإسرائيلية المتحيزة بتطرف ينبغي أن تكون كذلك كالعادة.


قصة الطفل والذئب كمورد لاستراتيجية أشرف مروان الاستخباراتية

الصراع النفسي الذي كان يصوره الفيلم عند أشرف مروان؛ جعله يتأمل ويتعمق في الكثير من الأمور والأحداث، بحيث تشكل هذه التأملات أبرز وأهم أفكاره الاستراتيجية كعميل مخابراتي.

فاصل كبير بين حكاية مروان لابنه جمال قصة الطفل والذئب، والتي تعبر عن معنى أهمية الصدق كقيمة ينبغي زرعها في عقول الأطفال، وبين تصوير مشهد مروان وهو يطبق فكرة القصة كاستراتيجية خداعية للعدو الصهيوني قبيل تنفيذ حرب أكتوبر 1973، حيث استقبل مروان فكرة تكرار الطفل الكذب لمرتين في شأن الذئب، وصدقه في الثالثة، كأسلوب ناجز لخداع الإسرائيليين في جدية السادات والعرب في شن حرب حقيقية على إسرائيل، بينما عانى بصورة كبيرة مع وجهه الآخر في الموساد بسبب تطبيقه هذه الاستراتيجية معهم، وهنا أحد مكامن محاولة الفيلم تعقيد شخصية مروان، وعدم تصويره كعميل لطرف واحد ومن دون أهداف رسالية.

حاول الفيلم تصوير مروان بكونه عميلًا دفعته عدة عوامل إيجابية وسلبية لسلوك هذا المسار، حيث إنه بالإضافة لضغوط عبد الناصر ضده ومخالفته لرؤية عبد الناصر بخصوص الحليف السوفيتي، فضلًا عن حاجته للمال؛ فقد أضاف الفيلم في أكثر من مشهد وبصورة متكررة من أكثر من ممثل كون مروان كان صادقًا في وقف احتمالية نزيف الكثير من الدماء البريئة من الطرفين العربي والإسرائيلي، وهو ما حرص مخرج الفيلم على تأكيده بأكثر من طريقة درامية.

في مشهد متناقض تمامًا مع محاولة الفيلم ترسيخ البعد الرسالي لدى أشرف مروان ورغبته المتكررة في وقف احتمالية نزيف الكثير من دماء الأبرياء؛ يضحي مروان في عملية خداعية للرئيس الليبي معمر القذافي بثلاثة فلسطينيين في لحظات إثر ترتيبه عملية فاشلة لضرب طائرة مدنية إسرائيلية في مطار روما مع التنسيق مع المخابرات الإيطالية لتظهر لدى القذافي كأنها اصطفاف معه في رغبته في الانتقام لضرب الإسرائيليين، وفق روايتهم، طائرة مدنية ليبية من طريق الخطأ، بينما قصد مروان مع السادات كسب القذافي في صفهم في حرب أكتوبر مع كبح جماحه الانتقامي لتهدئة الوضع قبل الحرب.


هل كان أشرف مروان عميلًا مزدوجًا؟

لم تبد الجهات المصرية أية ردود حاسمة بعد صدور كتاب «الملاك» بالعربية بداية العام الحالي، كما أنها لم تتخذ بعد أية ردود أفعال مقنعة تجاه الرواية الدرامية الإسرائيلية، وهو ما قد يسبب إشكالًا في بنية الحس الوطني والثقة التي ينبغي أن تترسخ لدى أجيال المصريين والعرب الشباب البعيدين بصورة كبيرة عن الارتباط بالقضية الفلسطينية.

الرواية الإسرائيلية، سواء في الكتاب أو الفيلم، لاتزال تاركة الباب لمصر لتسليط الضوء على حقيقة عمالة مروان المزدوجة كونه أفاد مصر كما أفاد إسرائيل؛ لأنه، وفق الرواية الإسرائيلية، رجل ذو بعد رسالي إنساني يريد تحقيق أقل قدر من الخسائر للطرفين، وهذا من مكامن محاولة الرواية الإسرائيلية التذاكي وتقليل مساحة الإحراج للجانب المصري.

تبقى آفاق التأمل في هذا الشخص الغامض، في حياته وفي مماته، مفتحة على الكثير من التأويلات والتحليلات، وستبقى مساحة مثيرة للجدل والنقاش حتى تنطق الرواية المصرية بوجهة نظرها، أو تبقى متحفظة لدواعي الأمن القومي المصري حسبما يرون.

بينما لا يمكن إغفال الرغبة الملحة لمخرج الفيلم في ترسيخ سياق منطقي عقلاني لضرورة تطبيع العلاقات، وقبول المغتصب الإسرائيلي من نافذة الحجج الإنسانية الواهية التي يقفز منها مروجو التطبيع اليهود وحلفاؤهم العرب، فوق أبسط قواعد وأسس العقلانية والمنطقية والبدهية، ليتم استعمال مبدأ «الزن على الودان أمرّ من السحر» كمدخل لتشويه معتقدات الناس والبسطاء في شأن القضية العربية والإسلامية والفلسطينية السياسية والاجتماعية الأهم في راهننا.