عند الحديث عن الاقتصاد التعاوني تذهب العقول إلى الفكرة الاشتراكية، ويظن البعض أنها دعوة لليسارية. ولكن هذا المفهوم الخاطئ والفهم الغير الواعي لمفهوم الاقتصاد التعاوني بمثابة اغتيال ثقافي وفكري وعلمي لإسلامية مبدأ التعاون وتطبيقه على الاقتصاد.

ويعتبر البعض أن الاشتراكي روبرت أوين (1771م – 1858م) هو الأب الروحي للاقتصاد التعاوني وهو مصلح اجتماعيويلزي، وأحد واضعي أسس الاشتراكية المثالية إلا أن اعتباره مؤسسا لـ الحركة التعاونية اعتبار خاطئ ينم عن قصر النظرة. وقد حاول روبرت أوين تطبيق أفكاره الإصلاحية التي تعبر عن فكرته، وهي الاشتراكية المثالية، عن طريق جمع جهود العمال تعاونيا؛ إلا أن محاولاته أظهرت إخفاقه في تطبيق نظريته، وذلك لغياب قيم و مبادئ أساسية. وفي هذا الإطار سوف أعرض لكم إسلامية الاقتصاد التعاوني.


حقيقة إسلامية الاقتصاد التعاوني:

من الحقائق الثابتة أن الإنسان مدني بطبعه، يعيش داخل جماعة ومجتمع وأمة، ويصعب عليه أن يعيش منفردا عن الناس. كما يصعب عليه أن يستقل بنفسه، في تحصيل مطالب الحياة، فهو بحاجة إلى المساعدة لأن القصور في طبعه، والعجز من شأنه (وخلق الإنسان ضعيفا).

ولسد هذا القصور شرّع الإسلام مبدأ التعاون والتكافل والمشاركة، لاسيما في حل المشكلات والأزمات الكبيرة: «مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه البخاري. و الحديث الشريف «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا» رواه مسلم.

شرع الإسلام مبدأ التعاون والتكافل والمشاركة، وإهماله أدى إلى ظهور السلبية واللامبالاة وعدم الإحساس الجماعي بسبب النظرة الضيقة إلى مفهوم التعاون

وإهمال هذا المبدأ، أدى إلى ظهور السلبية واللامبالاة، وعدم الإحساس الجماعي، بسبب النظرة الضيّقة إلى مفهوم التعاون، حيث أصبح الفرد لا يقتنع بالتعاون إلا إذا كان على أساس الدفع أو المقابل وبشرط أن يكون في عمل دون آخر.

وإذا نظرنا إلى الإسلام وجدنا التعاون يمتد إلى آفاق واسعة، ويتسع ليشمل الجانب الروحي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فهو شامل شمول الإسلام، ولا يقتصر على جانب فائدة مادية فقط. بل التعاون يعني العطاء في كافة الاتجاهات وجميع الأحوال، وهو تقاسم خدمة عامة واشتراك الجميع للوصول إلى الهدف النبيل وأنبل الأهداف، ما كان فيها حفظ للدين والنفس والعرض والمال والعقل مما يحقق الأمن والإيمان.

والتعاون هو أيضا الإحجام عن فعل الشرور، والأعمال السلبية، ومقاومتها خاصة العدوان الذي يسقط الكرامة الإنسانية المكفولة بحق الله علينا: ”ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”.

وفي بيان هذا المفهوم الحقيقي للتعاون قال تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان». ويأمرنا الإسلام بالعطاء، وإن لم يكن من ورائه مقابل مادي أو تحقيق مصلحة شخصية عاجلة «والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه» رواه مسلم.

و الحديث الشريف «من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته». ويدعونا إلى تقديم النفع بصرف النظر عن المنتفع «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، ولا يرزؤه ـ ينقصه ـ أحد إلا كان له صدقة» رواه مسلم.

و الحديث الشريف:”من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر اللّه عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” ”ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم” الآية 158 سورة البقرة. هذا هو التعاون الحقيقي الذي يبني المجتمع، ويحمي الأمة، ويقيم الشهادة.

إن الإسلام دين الواقعية، فهو لا يصادم الفطرة أبدا. ولذلك فهو عندما يدعونا إلى التعاون البنّاء في إطار الجماعة أو المجتمع لا يمنع الإنسان من النظر في حاجاته المادية، بل يدعوه إلى تخليصها بشرط أن لا يكون ذلك على حساب الجانب الروحي أو الإيماني.

ومن هنا وجب على المسلم أن يوازن بين حاجاته الضرورية وبين ما يدعوه إلى حسه الإيماني: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين» الآية 77 سورة القصص، وفي الأثر «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».

وبهذا التوازن بين مطالب الروح ومطالب المادة يمضي المجتمع في طريق النماء والبناء والعطاء؛ فأصحاب المال يقدمون المال، وأصحاب الفكر يقدمون الرأي، وأصحاب الإمارة يقدمون القرار، وأصحاب الجهد يقدمون الجهد. والكل مستجيب لنداء الله تعالى: «فمن تطوّع خيرا فهو خير له» الآية 184 سورة البقرة.

وأما من اعتقد بأنه يستطيع أن يستقل بنفسه ولا يشارك الآخرين في تحقيق مصالح البلاد والعباد وبأنه قادر على حل المشكلات فهو مغرور، يصادم منطق الحياة وطبيعة البشر الناقصة: «كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى» الآيات من 6-8 سورة العلق.


نظرة علمية في الاقتصاد التعاوني:

الاقتصاد التشاركي (اقتصاد المشاركة أو الاقتصاد التعاوني) هو نظام اقتصادي مستديم يقوم على مشاركة الأصول البشرية والمادية، ويشمل الإبداع والإنتاج والتوزيع والإتجار والاستهلاك التشاركي للبضائع والخدمات بين مختلف الأفراد والمنشآت التجارية.

الاقتصاد التشاركي هو نظام يقوم على مشاركة الأصول البشرية والمادية ويشمل الإبداع والإنتاج والتوزيع والإتجار والاستهلاك التشاركي للبضائع والخدمات

وتأخذ تلك الأنظمة العديد من الأشكال إلا أنها تعمل في مجملها على تعزيز تقنية المعلومات من أجل تزويد الأفراد والمؤسسات الحكومية وغير الربحية بالمعلومات التي تساعد في توزيع البضائع والخدمات ومشاركتها وإعادة استغلال الطاقات المهدرة والفائضة. وثمة اعتقاد سائد بأن مشاركة المعلومات المتعلقة بالبضائع والخدمات، سيزيد من قيمتها على مستوى المؤسسات والأفراد والمجتمع.

ويكون هيكل ذلك النظام الاقتصادي ممثلا في شكل الجمعية التعاونية. وهي عبارة عن جماعة مستقلة من الأشخاص يتحدون اختياريا وليس جبرا لتلبية احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتطلعاتهم المشتركة، من خلال الملكية الجماعية لمشروع تتوافر فيه ديمقراطية الإدارة والرقابة.

يضم الاقتصاد التشاركي مجموعة واسعة من الأنظمة الربحية وغير الربحية والمقايضة والأنظمة التعاونية، ويتيح إمكانية الوصول إلى المنتجات والخدمات والمواهب خارج نطاق الملكية الفردية، وذلك ما يعرف أحيانًا باسم «اللاملكية»، حيث تشارك المؤسسات والحكومات والأفراد بفعالية كمشترين وبائعين ومقرضين أو مقترضين في هذه الأنظمة المتنوعة والمتطورة، علمًا بأن العروض القائمة على المشاركة ترتكز على مجموعة من القيم كالثقة والشفافية والتمكين الاقتصادي والتعبير الخلاق والأصالة والمرونة المجتمعية والترابط بين البشر.

تستند التعاونيات على قيم الاعتماد على النفس، والتشاور، والمساواة، والعدالة والتضامن. ولا بد من إيمان أعضاء التعاونيات بالقيم الأخلاقية كالأمانة والصراحة والمسئولية الاجتماعية، والاهتمام بالآخرين. وفي ذلك الإطار تم وضع عدة مبادئ كخريطة إرشاد يمكن عن طريقها وضع قيم التعاونيات موضع التنفيذ

المبدأ الأول: العضوية الاختيارية المفتوحة:

التعاونيات منظمات اختيارية، تسمح بانضمام جميع الأشخاص القادرين على وضع إمكانياتهم في خدمة الجمعية، وقبول مسؤوليات العضوية دون أية تفرقة سواء في الجنس -رجل أو امرأة- أو في المركز الاجتماعي، أو المعتقدات السياسية والدينية.

المبدأ الثاني: الشورى بين الأعضاء الإداريين والرقابيين:

التعاونيات منظمات شورية يديرها ويراقبها أعضاؤها، وهم يشاركون بحيوية في وضع السياسات واتخاذ القرارات. ويتم مساءلة الرجال والنساء المنتخبين كممثلين أمام الأعضاء. وللأعضاء في الجمعيات الأساسية حقوق متساوية في التصويت (كل عضو له صوت واحد) ويتم تنظيم التصويت في التعاونيات ذات المستوى الأعلى بطريقة شورية.

المبدأ الثالث: المشاركة الاقتصادية للأعضاء:

يسهم الأعضاء بعدالة في الرقابة، وفي رأس مال تعاونياتهم، ويعتبر جانب من رأس المال على الأقل مسلكية مشتركة. و يحصل الأعضاء على عائد محدود مقابل رأس المال الذي اشتركوا به بموجب شروط العضوية. ويخصص الأعضاء فوائض عن طريق تكوين احتياطات، للأغراض الآتية: تنمية جمعيتهم التعاونية، ويكون جانب من هذه الفوائض غير قابل للتقسيم، وجانب كعائد للأعضاء بتناسب مع معاملاتهم، وجانب لتدعيم غير ذلك من أوجه النشاط الذي يوافق عليه الأعضاء.

المبدأ الرابع: الشخصية الذاتية المستقلة:

التعاونيات لها شخصيتها المستقلة التي من سماتها العون الذاتي ورقابة الأعضاء. وفي حالة إجرائها تعاقدات مع المنظمات الأخرى، بما فيها الحكومات، أو في حالة زيادة رأسمالها من مصادر خارجية، فإنها تراعي الاشتراطات التي تؤكد ديمقراطية الرقابة للأعضاء وصيانة استقلالها.

المبدأ الخامس: التعليم والتدريب والمعلومات:

تتولى التعاونيات تعليم وتدريب أعضائها، والممثلين المنتخبين، والمديرين، والموظفين لكي يسهموا بفاعلية في تنمية تعاونياتهم. كما تقوم التعاونيات بإحاطة الرأي العام بطبيعة وفوائد التعاونيات وعلى وجه الخصوص الشباب، وقادة الرأي.

المبدأ السادس: التعاون بين التعاونيات:

تخدم التعاونيات أعضاءها بأكبر قدر ممكن من الفعاليات، بالإضافة إلى تدعيم الحركة التعاونية وذلك عن طريق عمل هياكلها معا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

المبدأ السابع: الاهتمام بشؤون المجتمع:

تعمل التعاونيات على التنمية المناسبة لمجتمعاتها من خلال السياسات التي يوافق عليها الأعضاء.

و يعد هذا استعراضا للمفاهيم التي وضعتها الأمم المتحدة عام 2012 لتكون السنة الدولية للتعاونيات، وعند تفسير كل تلك المفاهيم، نجد أنه لا تعارض في المفهوم بين ما تم وضعه من مفهوم للاقتصاد التعاوني ومفهوم التعاون في الإسلام. ولذلك فإن مبدأ التعاون في الاقتصاد هو مبدأ إسلامي يتم اغتياله بمصطلح الاشتراكية المثالية أو الاتجاه اليساري.


التجربة التعاونية على المستوى الدولي:

وعند النظر لجدوى التعاونيات على المستوى الدولي نجد أن هناك نتائج واقعية وحقيقية لنجاح التجارب التعاونية في مجتمعات استطاعت تحقيق مستوى من الرفاهية لقاطنيها، ومعظم هذه الدول تسير على النهج الرأسمالي، وهذا يوضح عدم تعارض الاقتصاد التعاوني مع الرأسمالية.

وبالتالي، فقد هنا الصراع بين الرأسمالية والاقتصاد التعاوني أدلجته التناحرية بين الاشتراكية والرأسمالية، وباتت القضية هنا إفشالا للنظام التعاوني الإسلامي واتهاما له بالرجعية ومحاولة الاغتيال الحقيقي لإسلامية الاقتصاد التعاوني لعدم توجيه الدول الغربية عامة إلى تطبيق منظور قيمي إسلامي اقتصادي.

وبذلك يتم رفض وضعية الرأسمالية بالإسلامية التعاونية واكتفوا بتوجيه النظرة اليسارية الاشتراكية له لإفقاده هويته الإسلامية.

وعلى غرار ذلك يتم عرض ما حققته التجربة التعاونية في المجتمعات الأوروبية والمجتمعات في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية.

أولا: على صعيد التفاعل مع التعاونيات:

– في كيبك – كندا 70 % من السكان أعضاء في تعاونيات.

– في فنلندا 62 % من السكان أعضاء في تعاونيات.

– في فرنسا 35 % من السكان أعضاء في تعاونيات، و 75% من المنتجين الزراعيين مؤسسات تعاونية.

– في النرويج 58 % من السكان أعضاء في تعاونيات.

– في الولايات المتحدة الأمريكية 350 مليون عضو في التعاونيات.

ثانيا: على الصعيد الاقتصادي:

– في بلجيكا 19.5 % من المنتجات الدوائية تنتج من خلال مؤسسات تعاونية.

– في البرازيل 37.4% من إجمالي الناتج المحلي يتم إنتاجه بالمؤسسات التعاونية.

– في فنلندا المؤسسات التعاونية مسئولة عن 74 % من إنتاج اللحوم ومصنعاتها، وإنتاج 96 % من المنتجات الغذائية اليومية، وإنتاج 50 % من البيض، و 34.2% من التعاملات المصرفية.

– في فرنسا القطاع التعاوني يتعامل في حدود 181 مليار يورو، حيث يتعامل في 60 % من تجارة التجزئة المصرفية، و40% من الإنتاج الزراعي والغذائي، و25% من تجارة التجزئة.

– في الكويت يتعامل القطاع التعاوني في 70% من تجارة التجزئة.

– في نيوزيلاندا شارك القطاع التعاوني في 22 % من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، حيث يسيطر على 95% من سوق المنتجات اليومية، و95% من صادرات المنتجات اليومية، و70% من سوق اللحوم، و70% من سوق الأسمدة، و75% من سوق تجارة المنتجات الدوائية بالجملة، و62% من سوق البقالة.

– في النرويج يتعامل القطاع التعاوني في 96% من سوق الألبان، و55% من سوق الأجبان، وأكثر من 70% من سوق البيض، و52 % من سوق الحبوب، و 15 % من سوق البناء تصل إلى 40% في مدن مثل أوسلو، و 30% من سوق التأمين على غير الحياة.

ثالثا: على الصعيد الاجتماعي:

الاقتصاد التعاوني الإسلامي الحر قادر على أن يساهم في نمو الاقتصاد القومي ومواجهة تحديات الوطن والمواطن بأفكار تأتي من خارج الصندوق التقليدي

يوفر القطاع التعاوني 100 مليون وظيفة على مستوى العالم، وهذا أكثر من 20 % مما توفره الشركات الدولية والتي تمارس نشاطها على مستوى العالم.

مفهوم الاقتصاد التعاوني الإسلامي الحر قادر على أن يساهم في نمو الاقتصاد القومي كما يعمل على مواجهة تحديات الوطن والمواطن بأفكار تأتي من خارج الصندوق التقليدي، فالمال والآمال يفرضان علينا حزمة تفكير مستقبلي تضع التحديات التي نواجهها في مواجهة حلول غير تقليدية لمواجهة شظايا التخلف والتدهور الحضاري لبناء جيل جديد يتجاوز فكر الماضي إلى واقع المستقبل.

لا يوجد هناك أي تعارض بين المفاهيم الإسلامية والقضايا العلمية أو الاجتماعية وما يتم توجيهه من سهام كعدم إمكانية مزج العلم بالإسلام إنما هو اغتيال لحقيقة العلم في الإسلام فالإسلام نظام اجتماعي عادل ومنظومة اقتصادية ناجحة وسياق سياسي منظم يسعى إلى التجميع لا التفريق بعيد كل البعد عن الخديعة والكذب والإتجار ولذلك يسعى كل مستشرق إلى طمس هويتنا و حقيقة إسلامية العلوم.