يظنونني مُختبئًا في الظل، لكنني أنا الظل، أنا الانتقام.

في حديثه عن «باتمان» أكد المُخرج «مات ريفز» أن نُسخته لن تحوي قصة الأصل التي أخلصت الأفلام القديمة في إظهارها، حيث الطفل يرى مصرع والديه أمام عينيه على يد مُجرم عابر، كذلك لن يحوي الفيلم فارس ظلام مُحنكًا خبيرًا يعي ثُقل ردائه.

كان مارتن ريفز معنيًا بالمرحلة الوسيطة، الفتى الذي لم يتعاف بعد من صدمة الطفولة ولم ينضُج بعد ليصير فارسًا، لذا اختار أن يكون فيلمه Noir.

النوار ليس نوعًا سينمائيًا بقدر ما هو حالة بصرية شعورية قاتمة وهو نتاج تأثر هوليوود بثلاثة تيارات، التعبيرية الألمانية واتسمت بالمود البصري الأقرب لدواخل نفس مشوشة مُخلصة لدرجات الرمادي أكثر من الأبيض والأسود، الواقعية الفرنسية التي منحت لهذا التيار شخوصًا ليسوا أشرارًا ولا أتقياء بل مزيجًا تغلب عليه المرارة ومُحاولة تعريف الذات أمام اختبارات لا ترحم، وأخيرًا تيار الرواية الأمريكية الذي ساد الثلاثينيات وكان بطله مُحققًا وجريمة وأجواء سوداوية.

رسم مات ريفز شخصية باتمان الفتى بمزيج من التيارات الثلاثة فنرى في الصورة البصرية فيلمًا أقرب لأجواء الجريمة مثل Se7en وزودياك. بينما أول تعريف يُقدمه البطل عن نفسه أنه شخصية تسكن الرمادي والظلال، يقدم ريفز بطله من دون التشظي النصفي بين بروس وباتمان، الفيلم بأكمله مخلص لشخصية باتمان بينما حضور بروس هامشيًا، يكاد يكون هو القناع بينما ثقل الكينونة كاملًا يقع على عاتق البطل الليلي في إشارة لكينونة ما زالت منكفئة على ذاتها عاجزة على وصال ما هو أبعد من حدود صدمتها.

تأثر ريفز الأخير بالنوار هو منح باتمان سمت المُحقق، باتمان هنا أقرب لشيرلوك هولمز يتتبع الخيوط ونحن خلفه، يملك الفيلم حصة أقل من الأكشن إخلاصًا لنمط المُحقق الذي جعل البطل في صراع عقلي مع ألاعيب ذهنية، ربما إخلاص ريفز لفكرة المُحقق البوليسي هو ما جعل شخصية «ريدلر» هو الشرير المثالي لتلك النُسخة فهو من بين كل أعداء باتمان يملك جسمًا مراهقًا يرتدي عوينات لكن براعته في عقله.

بطل بلا عاطفة

لا سُلطان للفضيلة بلا ترويع
روبسبير

يقدم الفيلم فتى مُحطمًا مجذوبًا للظلال، لا يحمل من ماضيه سوى غضب مكبوت نجح «روبرت باتينسون» في تجسيده بجمل قصيرة مُقتضبة ثلجية تُخفي أكثر مما تُعلن. باتمان هنا غير معني بصورته للعامة ولا بهويته كبروس واين، يفعل ما بوسعه فحسب ليُكمل إرث والده بطريقته في تطهير جوثام من الفساد، يُكمل الابن طريقه بالعاطفة الوحيدة التي ورثها من صدمة طفولته، الغضب الذي يصبه على مجرمي المدينة ليلًا.

يعلم باتمان أنه لا يستطيع أن يوجد في كل مكان، لكنه يُعول على الترويع، وهو خوف المُجرم من حضوره، تشبه جوثام البانوبتيكون سجن فلسفي دائري في مُنتصفه برج مُراقبة، يرى منه الحارس المجرمين في زنازينهم ولا يروه، لا حاجة للحارس أن يراقب الجميع، يكفي حضور البرج أو كشاف باتمان في حالتنا وسيخشى المُجرمون القيام بأي مخالفة لأنهم لا يدرون، هل ينظر لهم في تلك اللحظة من علٍ أم لا؟

يسكن واين قصرًا مظلمًا أقرب لرواية قوطية، لا يبوح بدواخله سوى لمُذكراته التي يكتب فيها أنه الانتقام وأن الليالي تمتزج خلف قناع روحه. يبدو المكان بأكمله أقرب لمصح نفسي مُجهز بقدرات تكنولوجية لا أكثر يقطنه خفاش آدمي يحاول فيه الخادم ألفريد أن يُضفي حكمة أبوية لا تُفلح أمام فتى عززت الصدمة حصونه النفسية جيدًا.

لا تُفلت نظرة حنان واحدة من خلف القناع الجليدي لباتمان إلا للطفل الذي شهد مصرع والده عُمدة المدينة «دون ميتشل» أمام عينيه، لم يسمح ريفز بإعادة قصة الأصل في نسخته لكنه منحنا طيفًا منها في الطفل الذي تعرض لذات مأساة بروس، يحضر كطيف ليمنحنا شرخًا في كينونة قاتمة يمنح عبره الطفل حنوًا بصريًا بلا كلام.

هذا كل ما نجح بروس واين في تطويره من إرث الصدمة خاصته، مزيج من الانتقام والترويع والإرعاب وهي عواطف حتى لو توجهت لمُجرمين قُساة لكنها في جوهرها لا تُقدم أي أمل للناس العاديين. يحتاج الأمل أن ينضج الفتى ويعبر للضفة الأخرى خارج عواطفه المظلمة.

يُشبه باتمان الفتى روبسبير الثوري الساخط على باريس فاسدة مثل جوثام لكنه لم يملك عاطفة مٌضيئة واحدة، قدم لمدينته مزيدًا من الرؤوس المُتطايرة عبر المقصلة حتى صارت رأسه في النهاية ضحيتها.

الشرير مرآة البطل

سمح لي قناعي أن أكون نفسي، دون عار، القناع هو حقيقة ذاتي، أنت ألهمتني ذلك.

تنويه: المقال يحتوى في الفقرات على معلومات قد تكون حرق لأحداث الفيلم

كانت وسيلة ريفز لمنح الفتى النضج المطلوب ليكون البطل الذي تحتاجه المدينة هي خلق ظل لشخصية باتمان.

ريدلر أو «إدوارد ناشتون» هو فتى يتيم في نفس عُمر بروس تقريبًا، بينما احتضنت المدينة طفلها المُحبب بروس واين بعد موت أبيه كان إدوارد يتعفن في ملاجئ جوثام، يحيا مع ثلاثين طفلا في زنزانة لا ينجو إلا نصفهم من صقيع الشتاء، لا ينجو أحدهم إلا بالحياة كجرذ فاقد لإنسانيته في مجارير مدينة لا تعبأ بنظافتها.

بزل دانو في شخصية ريدلر من فيلم The Batman

يكبر بروس واين كارهًا الجريمة التي قتلت والديه ويكبر إدوارد كارهًا كل مسئول تركه يحيا كجرذ يتيم في المجارير، يصير إدوارد مُحاسب لأرقام وأموال لا يملكها أبدًا، فقط يرى شعارات المدينة مثل التجديد، الشعار الذي رفعه توماس واين قبل موته وتبعه آلاف الشعارات التي لم تتحقق. يتأثر إدوارد بشخصية باتمان ويُقرر ارتداء قناعه ليكافح الجريمة بطريقته.

نجح مات ريفز في صُنع كينونة إدوارد لتكون المُعادل الأفقر طبقيًا لبروس واين فالأخير خُفاش أخلاقي مقبل من ثراء المدينة ومُحمل بجرح ذاتي يخصه، أما إدوارد فخُفاش حقيقي قادم من قاع المدينة مُحملًا بجرح طبقي يخص الجميع.

يقتل إدوارد بأحجياته رموز القانون الفاسدين في جوثام وصولًا للأحجية الأخيرة عندما يُدرك بروس واين أن أباه هو إحدى أُحجيات جوثام الفاسدة.

عكس انعزالية باتمان كان ريدلر متصلًا بجمهوره، يحول غضبهم من الأكاذيب لفعل، يمنحه الجمهور المُباركة ليكون مُقتصهم الذاتي، يمنحونه النصائح لصنع المُتفجرات.كان ريدلر يطوف جوثام مُكثفًا الخيبة والغضب الجماعي الشعبي وكل العواطف المظلمة التي حركت باتمان ذاته راسمًا منها لوحة انتقامه الكبرى التي ستنتهي بتدمير سد المدينة وإغراقها لتطهيرها من خطاياها.

يصل مات ريفز هنا لذروة حبكته، مدينة مسكينة ونخبة فاسدة، ومُقتصان كلاهما يرتدي القناع، وكلاهما يستهدف الفاسدين، وكلاهما يتغذى على عواطف المدينة الغاضبة، ما الفارق بينهما؟!

للعدالة وجوه كثيرة

يُمكن أن تكون قاسية، أن تكون شعرية، أن تكون عمياء.

تلك الأحجية الأساسية لفيلم مات ريفز، هناك مدينة تحتاج للعدالة لكن للعدالة وجوه كثيرة، أدرك باتمان أن رمزيته يُمكن بقليل من الرتوش أن تكون رمزية قاتل مُختل مثل ريدلر وأن كينونته أقرب للظلام منها للنور، وأنه لو لم يملك ما يُقدمه للمدينة سوى عواطف نرجسية غاضبة لفتى لم يُجاوز صدمته، فهناك من يُمكن أن يلهمه القناع لعواطف أكثر ثقلًا مثل ثاناتوس عاطفة التدمير الفرويدية المزروعة فينا جوار عاطفة الحب. يخلع باتمان القناع عن أحد أتباع ريدلر ويسأله عن كينونته فيخبره «أنا الانتقام»، ذات الشعار الذي اختاره باتمان لنفسه في البداية.

يُدرك باتمان أن عليه أن يكون أكثر مما هو عليه، أن الانتقام لا يغير الماضي والندوب إما أن تمنحنا القوة لنتجاوز مأساتنا الشخصية أو نحولها لكابوس جماعي.

يهب باتمان لإنقاذ مدينته ويحضر الكادر الأسطوري المُحبب لأفلام DC حيث يحمل المنقذ الشُعلة وفي نورها يسير الأتباع، هنا يتخلص بروس من أثقال بشريته ويصير للحظات المسيح الذي تحتاجه المدينة، تمثل الشعلة عاطفة مضيئة جديدة ولدت من جرحه الشخصي.

معضلة باتمان

من فيلم The Batman 2022

يمكن للعدالة التي تحتاجها المدينة أن تكون قاسية كعدالة ريدلر ويمكن أن تكون شعرية كعدالة باتمان، ولكن ماذا عن حقيقة ما يجب أن تكون عليه العدالة؟ عمياء بنظام قانوني بلا مقتص بطل أو شرير!

أزمة باتمان أنه خارج كل بريقه لا يزال مقتصًا ذاتيًا يصعب تمييزه عن المجرمين وسر ثراء تيمته هو ذاك الخيط الرفيع بين المنتقم والبطل.

حاول كريستوفر نولان حل معضلة باتمان كونه مقتصًا ذاتيًا يعمل خارج القانون بأن يدعم هارفي دينت ممثل القانون وينسحب حضور المقتص الذي بقدر ما يلهم غرائز جوثام النبيلة يلهم رذائلها في صورة أبطال مقنعين مثل الجوكر، لكن فشل هارفي وبقيت المدينة في حاجة لبطلها.

أزمة شخصية باتمان أن كمال رسالتها هو نهاية وجودها، لا بد أن يحقق باتمان العدالة الشعرية لمدينة عاجزة قانونيًا، لا بد أن يعاني من أشباه يحققون العدالة القاسية، ولا بد أن تظل عدالة القانون العمياء سؤال جوثام الغائب لإن بإجابته لا يُمكن أن يحتاج القانون لإقرار عجزه بتسليط الضوء للسماء و طلب المساعدة من مقتص.

في النهاية لم يقدم لنا مات ريفز حل جديد لمعضلة باتمان لكن قدم لنا نسخة نوار جيدة واستخدم التناقض الأصيل في شخصية باتمان وسؤال العدالة خاصته ليقدم لبروس واين الشاب كابوس من إيجو بديلة لا تحمل للمدينة سوى عواطف سوداء ليدرك بروس أن عليه أن يخرج من النوار ويحمل عواطف مضيئة لتنقذ مدينته، كان هذا سفر الخروج خاصته، وختم النجاح لنسخة جيدة من عوالم مقتص ذاتي يحيا على الخط بين البطولة والشر.

ريدلر أصولي في ثوب مُهرج

تُرى ما الفارق بين الجوكر وريدلر؟

لا يزال جوكر نولان هو أعقد شخصية في أشرار باتمان، يشبهه ريدلر في ألاعيبه السيكوباتية، فالمُهرج ولاعب الأحاجي كلاهما يخرجان من عباءة الترفيه أو تمرير الوجود في لعبة، ربما الفارق أن جوكر نولان هو مجنون يُريد إثبات رؤيته النيتشوية للجنس البشري كجنس معيوب مهما صنع بنى فوقية من أديان وأنظمة أخلاقية وادعى الخضوع لها، عند الاختبار الوجودي وعلى المحك سنرتد لخللنا.

أما ريدلر فأقل تعقيدًا فلسفيًا بكثير، هو يحمل نزعة طهورية أصولية لا تختلف كثيرًا عن مقاتلي داعش أو النازيين، رغبة عارمة في تطهير المشهد من الشوائب حد إفناء الذات والآخرين إخلاصًا لرؤية مثالية للعالم تخصه، جرذ تربى في المجارير يحلم بأن يطهر تلك المجارير للأبد، لذا دلالة انتقامه مثقلة بالرمزية الدينية في صورة طوفان توراتي.

يُحسب لمات ريفز أن بقدر كون ريدلر أقل تعقيدًا من الجوكر إلا أنه أكثر انتشارًا في الواقع بكثير، شخصية الجوكر شديدة التعقيد والروعة لتكون حقيقية، أما ريدلر خارج بريقه الهوليوودي فنجد في قناعه البدائي ولذة وقوفه أمام الكاميرا تشابه متطابق مع أقنعة الدواعش جوار ضحاياهم وأقنعة الإرهابيين في رسائل الترويع خاصتهم، هو شرير أقل تعقيدًا لكنه متصل بعالمنا أكثر.