يشهد التاريخ على معارك كثيرة انتصرت فيها -أو على الأقل صمدت- جيوشٌ صغيرة على جيوشٍ تفوقها عدة وعتادًا؛ فالمسلمون انتصروا في معركة نهاوند بجيش صغير قوامه 30 ألف جندي على جيش الفرس المكون من 150 ألف جندي، وفي معركة كابيونج (إحدى معارك الحرب الكورية) استطاعت كتيبة مكونة من 700 جندي فقط مقاومة 5000 جندي صيني على الأقل.

وفي الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في معركة المارن الأولى، استطاعت القوات البريطانية والفرنسية هزيمة القوات الألمانية التي تفوقها بنحو نصف مليون جندي، وقبل هذه المعركة بالتحديد، حدثت معركة مشابهة بين البريطانيين والألمان في الحرب العالمية الأولى أيضًا، هذه المعركة هي معركة مونس، وقصتها العجيبة تستحق أن تُروى.

فعلى عكس الأسباب المنطقية التي فازت بسببها الجيوش الصغيرة على الجيوش التي تفوقها عددًا في المعارك التي أوردناها، سنجد أن أسباب صمود البريطانيين أمام الألمان في معركة مونس يُنسب إلى الماورائيات، وبالتحديد إلى ادعاءٍ بعيد كل البعد عن المنطق؛ مفاده أن الملائكة قد تدخلوا في هذه المعركة وأنقذوا البريطانيين من قبضة الألمان.

فرنسا: لقمة ألمانيا السائغة

في عام 1891، تحالفت فرنسا مع روسيا القيصرية فيما عُرف بالتحالف الفرنسي الروسي، وهذا ما جعل ألمانيا تتخوف من حرب مستقبلية ضد الحليفين، خصوصًا وأن حربها الأخيرة مع فرنسا (الحرب الفرنسية البروسية 1890) قد أنهكتها، وأن موقعها الجغرافي تحده روسيا من الشرق وفرنسا من الغرب.

هذا التخوف دفع رئيس أركان الحرب الألماني، ألفريد فون شليفن، إلى وضع خطة استراتيجية في حالة وقوع حرب تضطر بلاده فيها أن تصارع على الجبهتين. في هذا الوقت كانت ألمانيا جزءًا من حِلف يضمّها إضافة إلى إيطاليا والمملكة المجرية النمساوية، فيما عُرف بالتحالف الثلاثي.

بالفعل، وضع شليفن خطته التي تقتضي الهجوم الفوري على فرنسا (عن طريق بلجيكا) واحتلالها بأسرع وقت ممكن قبل أن تتمكن القوات الروسية من تنظيم نفسها والزحف تجاه الحدود الألمانية، وكان هذا في حالة وقوع حربٍ على بلاده بالطبع، وهذا ما حدث في الحرب العالمية الأولى، التي كانت الاختبار الحقيقي الأول لخطة شليفن.

بريطانيا تدافع عن فرنسا

اندلعت الحرب العالمية الأولى، أو كما تُسمى الحرب العُظمى، في الثامن والعشرين من يوليو عام 1914، وذلك عندما أعلنت المملكة المجرية النمساوية الحرب على صربيا إبّان اغتيال ولي العهد فرانس فردناند. وبعد 6 أيام فقط من التاريخ المذكور، تدخلت الكثير من الدول الأوروبية في هذه الحرب الشعواء مُعلنة الحرب على غيرها من الدول المعادية لمصالحها ولاتفاقياتها.

اصطفت الدول ذات المصالح المشتركة مع بعضها ونتج في النهاية فريقان؛ فريق دول المحور بقيادة المملكة النمساوية المجرية، وألمانيا، والدولة العثمانية، وفريق دول الحلفاء بزعامة الفرنسيين، والروس، ومعقل حديثنا اليوم، البريطانيين.

ظل موقف بريطانيا من دخول الحرب محايدًا إلى أن قررت ألمانيا تطبيق خطة شليفن؛ غزو فرنسا عن طريق بلجيكا قبل وصول القوات الروسية، وفي تلك اللحظة، وتحديدًا في الرابع من أغسطس لعام 1914، قررت بريطانيا التدخل؛ وذلك لانتهاك ألمانيا حُرمة الأراضي البلجيكية المحمية بموجب اتفاقيات دفاع بين بريطانيا وبلجيكا المستقلة والمعترف بها دوليًا بموجب اتفاقية لندن.

لم تكن اتفاقيات الدفاع بين بلجيكا وبريطانيا هي السبب الوحيد لدخول الأخيرة إلى أرض المعركة، وإنما كان للعلاقات الاقتصادية والسياسية مع فرنسا وروسيا دورٌ في هذا القرار، فضلًا عن التخوفات من توسع ألمانيا وتهديدها للأمن القومي البريطاني.

استطاعت ألمانيا احتلال بلجيكا، ولكنها لم تستطع أن تحتل فرنسا بفضل وصول بريطانيا أخيرًا، التي تمثلت أولى مقاوماتهم للألمان في معركة مونس، أولى المعارك الحقيقية في الحرب العالمية الأولى، التي حدثت بتاريخ 23 أغسطس 1914.

معركة مونس

كبَّد الألمان الجيش الفرنسي الخامس خسائر فادحة وكاد يقضي عليه كُليًا، ولكن الجيش البريطاني لم يكن ليسمح بذلك؛ فبقيادة الجنيرال الإنجليزي، السير جون فرنش، توجهت كتيبة من نخبة جنود الاستطلاع البريطانية إلى مدينة مونس الواقعة بجنوب بلجيكا وحشدت قواتها هناك لتوقف زحف الألمان.

اتخذت القوات البريطانية مواقعها واستعدت جيدًا لإيقاف الجيش الألماني، ولكنها سرعان ما تفاجأت بأن العدو يفوقهم في كل شيء، بل وما زاد الطين بلة هو أن الجيش الفرنسي الخامس قد انسحب بشكل مفاجئ وترك الجناح الأيمن البريطاني عُرضة لطلقات الألمان.

لم يقوَ الجيش البريطاني على الصمود أمام الألمان الذين سرعان ما قهروا دفاعات الإنجليز وأجبروهم على التراجع؛ فالجيش الألماني فاق الجيش البريطاني عدة وعتادًا؛ إذ وصل عدد الجنود الألمان إلى 150 ألف جندي مقابل 75 ألف بريطاني فقط.

انتهت المعركة بانتصارٍ تكتيكي للجيش الألماني ولم يستطع الجيش البريطاني أن يحول بين الألمان ودخول الأراضي الفرنسية، وكل ما فعلوه هو أنهم أبطأوا من تقدم الألمانيين، ولكن المثير في الأمر هو أن البريطانيين يعتبرون هذه النتيجة انتصارًا؛ إذ إن أحداث المعركة نفسها كانت قاسية جدًا عليهم؛ فالألمان قد أحاطوا بهم وحصروهم في مناطقهم وكانوا على وشك ألا يذروا منهم أحدًا.

ملائكة مدينة مونس تنقذ البريطانيين

تقول الأسطورة إن سبب نجاة الجيش البريطاني، وتعرضه لهزيمة تكتيكية فقط بدلًا من هزيمة نكراء كادت أن تبيدهم عن بكرة أبيهم، هو أن الإله قد أرسل ملائكة من السماء لتوقف رجال القيصر عندما اقتربوا من البريطانيين.

ويستشهد من يصدق بهذا الادعاء بأقوال بعض الجنود الذين زعموا أنهم رأوا ملائكة تتجسد على هيئة رُماة، كما أنهم سمعوا أصوت صهيل خيول الألمان بشكل مرعب وكأنها تنهق على جيش من كائنات مخفية، وهذا ما عطَّل الألمان وأعطى للإنجليز الفرصة لينسحبوا فيما وُصف بعد ذلك بـ«الانسحاب العظيم» أو «Great Retreat».

استمرّت معركة مونس لحوالي 9 ساعات، وراح ضحيتها حوالي 1600 جندي بريطاني مقابل 5000 جندي ألماني، وعلى الرغم من أن البريطانيين هُزموا تكتيكيًا واضطروا إلى الانسحاب، إلّا أنهم لعبوا دورًا كبيرًا في منع الألمان من دخول فرنسا لأنهم عطَّلوهم وأعطوا فرصة للجيش الفرنسي لإعادة تنظيم نفسه والذود عن بلاده.

الحقيقة وراء ملائكة مونس

في ذلك الوقت، كان كاتب الخيال العلمي الإنجليزي، آرثر لويلن جونز والشهير بآرثر ماشن، يعمل ككاتب لدى صحيفة المساء The Evening البريطانية؛ يكتب مقالات متنوعة ما بين الواقع والخيال.

عندما سمع هذا الكاتب الشهير بما حدث في معركة مونس وكيف أن البريطانيين نجوا من هزيمة ساحقة على يد الألمان، أعجبته القصة، وقرر أن يكتب قصة خيالية قصيرة مستوحاة من هذه المعركة، والنتيجة كانت قصة خيالية بعنوان «الرُماة» أو «The Bowmen».

تأثر الكاتب بما حدث في معركة مونس وصور بطل القصة على أنه جندي بريطاني يناجي القديس جورج لينقذهم من الألمان، وبالفعل، يستجيب له القديس ويُرسل رماةً يعرقلون الجيش الألماني ويسمحون للبريطانيين بالانسحاب.

انتهى آرثر ماشن من كتابة القصة وسلّمها للصحيفة، ولكنه لم يقل إنها قصة من وحي خياله، ومن هنا كانت بداية اشتهار هذه الأسطورة الخيالية، أسطورة ملائكة مونس، بين الكثيرين.

في عام 1915، دعَّم شرطيٌّ هذه القصة عندما تحدث إلى مجلة الخوارق «Light» وقال إن عددًا من الجنود رأوا بالفعل «ظاهرة تثير الفضول»، وفيها تشكلت سحابة غريبة حالت بين الألمان والإنجليز، وبدا وكأن السحابة تحمي الجيش البريطاني من العدو.

انتشرت قصة «The Bowmen» سريعًا وترسخت في عقول كثير من القراء على أنها حقيقة، حتى إن الكاتب تلقى خطابات عديدة تطالبه بتقديم مزيد من الأدلة على هذه القصة الإعجازية، فضلًا عن طلبات من محررين يعملون في مجلّات أخرى بإعادة نشر هذه القصة في مجلاتهم.

سعد آرثر ماشن باشتهار قصته وظل يحاول مرارًا وتكرارًا أن يُفهَّم الناس أنها قصة خيالية، ومع ذلك، ظلت فئة كبيرة مقتنعة بحدوثها لدرجة أن أحد القساوسة طلب من الكاتب أن يزوده بالمزيد من الدلائل الدامغة على حدوث القصة، فرد عليه آرثر بأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لأنها ببساطة قصة خيالية، ليأتيه الرد مفاجئًا من القسيس بأنه واثق أن القصة حقيقية ولا بد أن الأمر اختلط على الكاتب.

ولإرادة ماشن المستمرة ورغبته في أن يقنع كل من يعتقد بصدق هذه القصة بأنها لم تحدث، أعاد نشرها من البداية في كتاب كاملٍ بمقدمة جديدة نفى فيها كل ادعاءات وجود الرماة والملائكة والتدخل الإلهي، وللمفارقة، أصبح هذا الكتاب الأكثر مبيعًا وقتها وظل هناك من يصدقها.

ولما يئس آرثر ماشن من تمسك عددٍ ليس بقليل من الأشخاص بهذه الأسطورة، قال: «لقد فشلت في فن الأحرف -يقصد الكتابة-، ولكنني نجحت -بغير قصدٍ- في فن الخداع».