لقد مات الإنسان، وتحيا الأشياء!

ليس هنالك ما يزيد شناعة على موت الإنسان روحيًا وهذا يُعدّ تجلّيًا للشر في صورة كاملة؛ فعندما يفقد المرء قدرته في السيطرة على الأشياء يصبح محكومًا لها. حول ذلك كان يتحدث إيريك فروم في «كينونة الإنسان» فالإنسان المعاصر إن كان حيًا فيزيولوجيًا غير أنه ميت روحيًا وعندئذ يغدو خاضعًا للتآكل ويصبح كذلك خطيرًا.

 إن هذا الموت الاختياري مثّله بصورة كاملة رجل السرداب في رائعة ديستوفيسكي «في سردابي» لقد كتب لنا هذا المؤلف الكبير قصة رجل قابعٍ في مستنقع الماديّة والجهالة وحبّ الظهور والافتتان بالذات والفسوق واستعراض الملابس والمدّخرات رغم ضيق الحالِ والوظيفة البسيطة.

ففي نقده اللاذع للحضارةِ الماديّة هذه وفي شخصيّاته الروائيّة التي باتت أسيرة الحيوانيّة والدونيّة نرى أننا نرفع أيدينا بعد أن كدنا نموت غرق تلك الموبقات، أملًا في الإنقاذ وفي العودة إلى حياة رحمانيّة، إننا جميعًا هذه الشّخصية القابعة في سرداب الماديّة في زمن يُمجّد الاستهلاك ويُعلي من الذات ويُحمّل الإنسان أمراضًا سيكولوجيّة تبدو غريبة عن الإنسان الأول! إننا نحرّك أجنحتنا التي خانتنا نريد الهرب من أيدي الصيادين. تلك تمامًا مأساتنا؛ أي مأساة الإنسان كما شبّهها الشاعر الفرنسي «بودلير» فهو كطائر «الباتروس» في السماء حر طليق وفي الأرض يصبح طعامًا للصيّادين.

الطيرُ في الأدب

 قد حضرت رمزيّة الطيرِ في مختلف أدبيات الشعوب والحضارات فلا نجدُ رمزيّة بودلير هذه غريبة عن التراث والأدب الإسلاميّ؛ ففي الأدب الصوفي نرى أنّ الروح والنفس الإنسانيّة شُبهت بـ«الطير» وفي معجم اصطلاحات الصّوفيّة يقول الكاشاني: «الورْقاء هي النفس الكلية التي هي قلب العالم وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين». حيث تريد هذه النفس الانعتاق من لذات الجسد ومكرهات الحياة والتحرّر من ذلك كله لتصل إلى مرحلة سامية عالية وحبّ عظيم خالٍ من المصالح والمنافع، فقد كان الطير رمزًا مشرقًا يحمل دلالة التجربة والرحلة التي خاضعها الصوفي في معركته مع مغريات الحياة وقوى الشر في نفسه «الشهوانية والغضبية والتخييلية والحدسية».

إن هذا الرمز الذي يوحي بدلالات عديدة وإيحاءات غامضة قصدت التعبير عن تجربة تعجز اللغة العادية عن إدراك معانيها، وتعطي الشيء الظاهر معاني باطنيّة يعجز إلا أهلها عن فهمها وتغربُ عن فهمِ عوام النّاس، فلغة الصوفي في رمزياتها تفرط عن مقدارٍ من الروح الإيحائي والغموض وهذا ما يتطلبه الشعر الجيّد كما يُنبّه بودلير.[1]

إنًّ المشاعر والأحاسيس تمثّلا اللبنة الأساسية والجوهرية في محاولة الشاعر لاكتشاف مكنونات النفس وسبر أغوارها، اعتمادًا على التصور والخيال، فلا يمكن تصور شعر خال من عنصر التصوير أو ما يسمى الصورة الشعريّة.[2] ثم إن الجاحظ قد نبّه إلى أن الشعر وسيلة البيان ومعرض من معارض البلاغة.

رحلة الطير في الأدب الصوفي

نجد إبداع المتصوّفة فيما أجادوه من شعرٍ ونثرٍ في التشبيه والتصوير والتعبير عن رحلة النفس الإنسانية وتقلبها في شهوات الدنيا وسماوات الحب والمعرفة، فعبّر ابن سينا والغزالي والعطار وسنائي في منطق الطير والبسطامي عبّر عن ذلك في المعراج والحلاج في الطواسين والرومي وابن عربي وابن الفارض وغيرهم من أعلام الصوفية.

وتشير آنا ماري شيمل في كتابها «الإسلام وعجائب المخلوقات» إلى أنه من الخير تحريرُ الطير من قفصه. وينسجم ذلك مع التشبيه الصوفي الذي يرى الروح طائرًا سجينًا في الجسد مثلما يسجن الطائر في القفص. فالروح تنتظر تلك اللحظة السعيدة التي يتحقق فيها الخلاص من سجنِ البدن.[3]

البلبل والبراق والهدهد

من الطيور التي تحظى بمكانة خاصة في الأدب الصوفي «البلبل» وقد وصف الشاعر الصوفي التركي يونس إمري شكاية بلبل في قصيدة وكان يكرّر في قصيدته: لماذا نواحك أيها البلبل؟

فالبلبل أفضل رمز للروح ولتجسيد الشوق والحبّ، حتى لا تخلو قصيدة في الأدب الفارسي والتركي من الجمع بين الوردة والبلبل كحبّ خالدٍ. بل إنّ قطرات الندى على الورد ما هي إلا دموع البلبل في توقه وحرمانه.

أمّا عفيف التلمساني الشاعر الصّوفي الرقيق فقد أعطى للحمامة دلالة غير التي تبدو لنا ظاهرًا، ففي أبيات له يقول:

وللأغصان هيمنة تحاكي          حبايب رقّ بينهم العتاب
تثنت والحمام لها يُغني            كشربِ مدامة شربوا وطابوا

فيعبّر التلمساني عن معنى باطنيّ وأسرار صوفيّة تشير إلى الارتقاء الذي يطمح له الصوفي؛ فمثلما تُحلق الطيور فرحًا وغناء كذلك نفس الحال بالنسبة له، فإذا ما انتشت الحمامة فقد حلت عليها الواردات، وإذا ما بكت فكان بكاؤها بكاء الأرواح التي غرّبت عن موطنها الذي ألفته.[4]

أما عند البسطامي فتحظى رمزية الطير بصورة أشبه ما تكون بـ«البراق» كما في المعراج النبوي ففي بداية الرؤيا كما يذكر ينشر له طير أخضر جناحه ليصعد إليه ويطير به إلى السماء الدنيا ويضعه بين صفوف الملائكة ويمضي ثم يُكمل معراجه فإذا وصل إلى السماء السابعة صيّره الله طيرًا، وقال حينئذ يصف نفسه: «كأن كل ريشة من جناحيّ أبعد من الشرق إلى الغرب ألف ألف مرة». [5] ثم يكمل رحلته وهو طير كذلك.

كما أخذت طيورٌ عدة رمزًا للتعبير عن رحلة الإنسان فهذا اللقلق ينظر له المسلمون على أنه طائر ورعُ يتوشّح بالبياض مثل الحُجّاج، مداومُ على ترديدِ الشهادة، يقبع في المآذن عادة. أما الديك فهو صورة الإنسان سيئ الخلق المغرم بالملذات الحسيّة، لا يترك دجاجة إلا ويطاردها، ولا يعرفّ إلى الوفاء سبيلًا

فيما يؤدي الهدهد في الأدب الصوفي مكانة مهمة فهو الذي ذكره الله في القرآن كناقل للأخبار وقد أطلقت عليه كنية «أبي الأخبار» وأدّى في منطق الطير مهمة القائد الذي سيقود الطيور في رحلتهم إلى ملك الطيور «سيمرغ» -وهذا الأخير طائر خيالي أسطوري أشبه بطائر العنقاء- وكان الهدهد يقودهم بحكمة ويجيبهم عن أسئلتهم ويعلمهم

ويُعدّ الفيلسوف ابن سينا أول من رمز إلى الروح بـ«الورقاء» في عينيته التي يقول فيها:

هبطت إليك من المكان الأرفع   ورقاء ذات تعزز وتمنع

ففي القصيدة هذه يبيّن ابن سينا رحلة النفس الإنسانية ومأساتها لمّا هبطت إلى العالم الدنيوي فباتت أسيرة الجسد. أما في رسالته «رسالة الطير» فتظهرُ الحمامة الورقاء في صورة مختلفة، فالرسالة صوّرت طيورًا عديدة تسافر جميعها طلبًا للخلاص، في رحلة الأنفس نحو الانعتاق. وتُظهِر الرسالة صراع النفس الإنسانية بين تعلقها بالدنيا والأوبة إلى الله، بأسلوب فنيّ وقصصيّ مميّز. [6]

إن ابن سينا في قصيدته العينية يعبّر عن حالة من الاغتراب الوجوديّ للنفس الإنسانيّة، فشكل الحياة في نظره انفصال وجودي إذ انتشلت النفس من عالمها وغرّبت في عالم المادية والجهالة، وما رحلة النفس في هذه الحياة إلا صورة دفع هذه الغربة وزحزحتها للوصول إلى أصلها الإلهي، وفي ذلك يقول ابن العربي: فمن كان وطنه العدم في القديم، كانت غربته الوجود.[7]

رسائل ومنظومات الطير الصوفية

في رسالة الغزالي «الطير» يُشبّه سالكي طريق التصوف وأسفارهم بالطيور ورحلتها صوب ملكتهم العنقاء، فتتفّق الطيور أن العنقاء ملك لها وعليها أن تسير نحو جزيرته في الغرب، فتخلّف البعض عن الرحلة ومضى الباقون، وقد عانت الطيور من مشقة وأهوال في الطريق فلم يصلْ منهم إلا القليل.[8]

ومن أعظم ما نُظم في الأدبِ الصّوفي منظومة «منطق الطير» لفريد الدّين العطّار وعبّر عن ذلك المستشرق الإنجليزي فبراون الذي يقول: «إن منطق الطير من أعظم مثنويات الصوفية وأكثرها انتشارًا».

استفاد العطار عنوانه من الآية القرآنية: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ.(النمل- 16) وقد انطق العطار الطيرَ بدلًا من الإنسان وجعلها تسعى جاهدة لتدرك الاتصال بالله، وأسقط معتقداته على الطيور من غير أن يُخلّ بطباعها وخصائصها، وكانت كلماته نابضة بالحياة غير جافة، وعرض أفكاره بطريقة مسرحيّة تجذب انتباه القارئ، وبدأ الكتاب كعادة الشعراء في زمانه بالمناجاة ثم بمدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم بمدح الخلفاء الراشدين الأربعة، ثم بذمّ التعصّب وإلى هنا تنتهي المقدمة. وفي هذه المقامات التي نسجها العطار طريق لكلّ حائر قابعٍ في السرداب، يقول العطار عن منظومته: «وهذه المقامات طريق كل حائر، كما أنها ملاذ لكل مضطرب..»[9]

وثمة طيور عديدة بأطباعها المختلفة أضاف لها الصوفية معاني تجربتهم الروحية وسعيهم للانفكاك من عالم المادة وسرداب الجهالة ليتصلوا بالمعاني الإلهية الخالية من كل منافع دنيوية ولذة زائلة. إنّ وقع هذا الأدب وسيرة هذه الطيور خليقة بأن تكون عزاء الرجل في السرداب ليخرج منه ويتقلّل من خراب الدنيا ويعمرَ في قلبه جنة السرور والفرح التي تدفع عنها كل منكرات العصر وتسري في النفس معاني الخير والمثل الجميلة.

المراجع
  1. انظر: القعود، عبد الرحمن محمد، الإبهار في شعر الحداثة (العوامل والمظاهر وآليات التأويل) عالم المعرفة: الكويت، ص 260
  2. غراب، سعيد، شعر المناسبات الدينية ونقد الواقع المعاصر، العلم والإيمان للنشر، ص 10
  3. شيمل، آنا ماري، الإسلام وعجائب المخلوقات، ص 20
  4. حسين، نجاة، جمالية الرمز في الشعر الصوفي -عفيف الدين التلمساني نموذجًا-، ص 173
  5. القشيري، أبو القاسم عبد الكريم، المعراج، ص 129-135
  6. عبد اللاوي، وفاء، الطير في الأدب الصوفي قراءة رمزية في نماذج مختارة، ص 413
  7. منصف، عبد الحق، أبعاد التججربة الصوفية الحب- الإنصات والحكاية، ص 55
  8. انظر: المرجع نفسه، ص 415
  9. انظر: العطار، فريد الدين، منطق الطير، دراسة وترجمة: بديع جمعة، دار الأندلس: بيروت، ص 50-55