هل تعلم ماذا كنتُ أشاهد اليوم على التلفاز في الواحدة صباحـًا؟ أفلام عن هتلر. في تلك اللحظة كنتُ مُحبطـًا، وأفكر في الانتحار، لكنها كانت إشارة من الله أن أشاهد هذه الأفلام. لا تضيع وقتك في النظر إلى الشباك واستمع إليّ، إنه حي، في هذا الألبوم المليء بصوره، أعمارهم تقترب من الثالثة عشرة، الأولاد هم نسخ جينية طبق الأصل منه. لن أضيع وقتي في إطلاعك كيف قمتُ بذلك، لأنني أشك أنك تمتلك القدرة على فَهم ما فعلت، لكن ثق في، لقد فعلتُها، نسخ جينية طبق الأصل من هتلر.
«جوزيف منجيلي» في رواية «الأولاد من البرازيل»

السينما والتاريخ، ثنائية جدلية، لا يمكن فك الارتباط بينهما بسلاسة، فالتشابك بين الحكايتين السينمائية والتاريخية قد نفشل في حله في كثير من الأحيان، خاصة وأن الروايات التاريخية مُعقَدة وتحتوي على كثير من الأبعاد والأسرار.

لا يمكن الاعتماد – كليًا في ظني – على المنتج الدرامي كوثيقة تاريخية، لكن يمكن أن يكون مُجرد خيط ننسج منه معرفتنا التاريخية حول قصة معينة. ففي كثير من الأفلام التاريخية يؤكد صناع العمل أنهم اعتمدوا على شخصيات ووقائع حقيقية، ويضيفون أن العمل فيه بُعد درامي وخيال للمؤلف والمخرج لخدمة المنتج النهائي. على الرغم من ذلك يرى البعض مثل الباحثة والمُنظِرة السينمائية «لورا ميلفي Laura Mulvey» أن الشريط السينمائي هو وثيقة تعكس الواقع الاقتصادي والثقافي، كذلك فإن الواقع الاقتصادي والثقافي يجعلنا قادرين على فهم سياق صناعة سينما ما.[1]


قصة جوزيف منجيلي وسيمون فيزنتال

ثلوث تخطى عقده السادس، وعلامات الهِرم تبدو عليهم، إلا أن ألقهم على الشاشة أضفى على سني عمرهم مَسحة تشبه لذة النبيذ المُعتق.

عام 1978، قدم كل من «جريجوري بك»، و«لورانس أوليفير»، و«جيمس ماسون» عملًا بديعـًا من إخراج «فرانكلين شافنر» صاحب الكلاسيكيات؛ «Nicholas and Alexandra»، و«Planet of the Apes» وأعمال أخرى. الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب «Ira Levin» بنفس العنوان، وللكاتب أعمال شهيرة تحولت لكلاسيكيات هوليودية مثل«Rosemary Baby» للمخرج البولندي الكبير «رومان بولانسكي».

من المرات القليلة التي أشاهد فيها جريجوري بك يقوم بدور الشرير، وعلى الرغم من تجسيده لشخصية «جوزيفمنجيلي»، إلا أنني لم أستطع كراهيته للحظة واحدة، ربما لأن صورة بك دائمـًا ما كانت محببة لي عندما شاهدته في ثياب البطل الطيب في معظم أعماله. خلال الفيلم ارتدى «بك»بذته البيضاء، كما وصف ليفين منجيلي في الرواية. ربما للون الأبيض دلالة ما عندما نحاول أن نقترب من شخصية جوزيف منجيلي الذي لُقب أحيانا بالملاك الأبيض.

في هذا السياق كان «بك»متعجبـًا من النقد السلبي الذي تلقاه من النقاد بعد عرض الفيلم قائلًا؛

الفيلم يحكي قصة مجموعة من النازيين المخلصين لزعيمهم الأكبر «أدولف هتلر». رغم القضاء على النازية وملاحقة مجرمي المحرقة حول العالم لمدة ثلاثة عقود تقريبـًا، لكنهم يؤمنون بعودة النازيين عن طريق الرايخ الرابع والسيطرة على العالم. قد تبدو الفكرة الرئيسية للفيلم –أو الرواية– ساذجة للوهلة الأولى، لكن الحبكة الدرامية التي صنعها المؤلف جعلت القصة مليئة بالإثارة حتى المشهد الأخير للفيلم.

الفيلم ينتمي لعالم الجريمة بشكل كبير، لكنه أيضـًا يحتوي على هذه اللمحة من أفلام الرعب، فكثير من المشاهد قد تصيبك ببعض الرعب، خاصة مع مشاهد الأطفال التوائم ذوي الأعين الخضراء وطريقة حديثهم المريبة. الرعب هنا ليس تقليديـًا كما قد تراه في أفلام أخرى، ربما ينشأ الرعب هنا من عدم معرفة الأحداث، المجهول، هو أكثر الأشياء رعبـًا. العمل الكلاسيكي لستانلي كيوبريك «The Shining»، فيلم مرعب إلى أقصى حد رغم أننا لم نشاهد أي صور تقليدية للـ«Zombies» مثلًا.

الصراع في الفيلم يقوده العِلم عن طريق الطبيب جوزيف منجيلي، الذي يؤمن بنقاء الجنس الأري، وأن عودة النازيين للسلطة ستكون عن طريق وجود هتلر جديد، بل أكثر من هتلر.والحصول على هذا الزعيم لن تكون بالتنشئة السياسية أو الاجتماعية، وزرع الأفكار النازية في الأجيال الجديدة، بل عن طريق الجينات وميلاد أطفال طبق الأصل من هتلر بعد الحصول على جزء من دم وأنسجة الزعيم النازي الجلدية. لكن هذا المخطط لن يفلح بسبب صائد النازيين المحقق اليهودي «عيزرا ليبرمان» الذي أفنى حياته في ملاحقة مجرمي المحرقة منذ انتهت الحرب العالمية الثانية.

جوزيف منجيلي هو تجسيد لـ شخصية حقيقية لأحد الأطباء والقادة العسكريين النازيين الذين كانوا يقررون قتل المحتجزين في معسكرات «أوشفيتزـ بيركناو»التي كان يتم ترحيل اليهود والغجر ومتحدي الإعاقة والمثليين جنسيـًا إليها، وهناك يتم فصل غير القادرين على العمل فيتم قتلهم، والقادرين على العمل الذين يعملون لبعض الوقت ثم يتم قتلهم في نهاية المطاف.

منجيلي كان طبيبـًا متميزًا، مهتمـًا بعالم جينات التوائم الذي كان أحد التحديات العلمية في ثلاثينات القرن الماضي. كان الطبيب الشاب مساعدًا لأحد العلماء المعروفين في ألمانيا، أوتمار فون فيرشوير Otmarvon Verschuer. هوس «ملاك الموت»، كما كان يُطلق على منجيلي، جعله يقوم بحقن الأطفال في أعينهم لتغيير لونها ثم القيام بعمل الاختبارات العلمية التي يرغب فيها. كما أنه كان يحقن الأطفال التوائم في قلوبهم بمادة الكلوروفورم، التي كانت تستخدم كمادة تخديرية في العمليات الجراحية حتى ظهرت آثارها السلبية على الكبد والكُلى.

عيزرا ليبرمان، الذي قام بدوره السير البريطاني لورانس أوليفيير، هو شخصية خيالية، لكنها مبنية على شخصية «سايمون فيزنتال» أحد اليهود الناجين من الهولوكوست، والذي قضى حياته يحاول ملاحقة مجرمي النازية وقد نجح في القبض على أحد سفاحي النازية بعد هتلر، ويدعى «أدولف أيكمان ADOLF EICHMANN». وقد انتقد فيزنتال الفيلم بشدة رغم ظهور شخصيته كبطل إنساني يسعى لتحقيق العدالة.[2]

التشابه الذي صنعه المخرج بين جريجوري بك في الفيلم والشخصية الحقيقية قريب للغاية، في حين لم يتبع الأمر نفسه مع شخصية لورانس أوليفييه، فقد ركز الفيلم بشكل أكبر على شخصية الـ«Villain»، الذي يرتدي ثوب العلم من أجل ارتكاب الجرائم. العجيب في الأمر أن شخصية منجيلي قد تتشابه كثيرًا مع شخصية الطبيب «فيكتور فرانكنشتاين» الذي صنع وحشـًا عن طريق علمه في رواية ماري شيلي،والتي صدرت قبل قرن من ظهور النازية.

أيضـًا المبدأ الذي تبناه النازيون حيث استخدام العلم وسيلة للقتل، كان قد ترسخ لدى الكثير من العلماء في نهاية القرن التاسع عشر أمثال «سيزار لومبروزو Cesare Lombroso»، الطبيب وعالم الجريمة الإيطالي، الذي كان يرى أن المجرمين وُلدوا حاملين جينات الإجرام بداخلهم. وهذا ما روج له النازيون بعد ذلك عندما وصفوا اليهود بالفئران في الفيلم الوثائقي النازي «The Eternal Jew».


المشهد الأخير

رغم كبر سنهما لتصوير مشهد تشابك بالأيدي، إلا أن بك وأوليفييه نجحا في تقديم مشهد مقنع للغاية لمعركة بقاء بين شخصين لن يحيا أحدهما طالما كان الآخر حيـًا. أوليفييه تخطى السبعين عامـًا وبك في نهاية الستينات.

منجيلي وفيزنتال لم يلتقيا في الواقع، لكن ليفين وشافنر أرادا هذا اللقاء أن يحدث كي يتم توقيع العقوبة بشكل بعيد عن عقوبة القضاء الذي حدد مصير أدولف أيكمان. كذلك أضاف شافنر مشهد المعركة بينهما، والتي لم تكن موجودة في الرواية، لذا يراها بعض النقاد معركة غير مقنعة[3] على الإطلاق خاصة مع صعوبة قدرة الممثلين المخضرمين على الحركة بسلاسة وإمكانية إصابتهما بسهولة.

لقد تنبأ كلُ من ليفين وشافنر بموت منجيلي، فقد مات ملاك الموت الحقيقي عام 1979 في البرازيل داخل أحد حمامات السباحة بعد إصابته بأزمة قلبية بعد عقود من الهروب داخل أمريكا اللاتينية، لكن ما قدمه لنا الفيلم كان أكثر درامية وربما أكثر عدلًا، فقد قُتل منجيلي بيده لا بيد عمرو. لقد قتله أحد الأطفال المُخلّقين جينيـًا على يديه.


الأوسكار والسياسة

لقد شعرتُ، وكذلك أوليفيير، وأصدقاء آخرون مثل جاك ليمون، وولتر ماثاو، أنني كنتُ جيدًا في أداء الدور، لكن بعض النقاد ليس لديهم الرغبة في تقبل الممثلين عندما يكسرون الصورة المعتادة.

رغم ترشح لورانس أوليفيير للأوسكار إلا أنني أظن أن الأحق بالترشيح وربما الفوز هو جريجوري بك، لكن كعادة جائزة الأوسكار المُسيسة، فشخصية عيزرا ليبرمان تجسد الشخصية اليهودية التي تدافع عن الحق. وبطبيعة الحال، كان من الصعب في ذلك التوقيت التاريخي أن يُمنح ممثلٌ جائزة الأوسكار لتجسيده شخصية نازية، فقد كان العالم الغربي في هذه المرحلة يصب تركيزه على ملفات النازية، إذ صدرت الكثير من الكتب خلال هذه المرحلة تتحدث عن المأساة اليهودية، تحديدًا، حتى ظهر مصطلح الهولوكوست في الدراما العالمية من خلال مسلسل بنفس العنوان بطولة «ميريل ستريب» سنة 1978 أيضـًا.

ويُروى أن متحف الولايات المتحدة للهولوكوست، قد ظهر في الأفق كفكرة لدى الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» بعد مشاهدته للمسلسل الهوليوودي. إلا أن هذه الرواية تم دحضها من خلال المعلومات التي تشير إلى أن الفكرة ظهرت عام 1977، عندما اقترح ثلاثة من المسئولين اليهود في إدارة كارتر تخليد ذكرى التراجيديا اليهودية وبناء متحف يُبقي هذا التاريخ حاضرًا. هذا الأمر يعيدنا إلى ما طرحته ميلفي عن دور الفيلم كوثيقة لفهم الواقع المجتمعي والعكس، فلا يمكن فهم هذه الأعمال السينمائية والتليفزيونية دون معرفة سياق إنتاجها.

حصل الفيلم على ثلاثة ترشيحات للأوسكار، أحدهم للورانس أوليفيير، والترشيحان الآخران أحدهما لموسيقى الفيلم التصويرية من تأليف جيري جولدسميث الذي حصل على الأوسكار عن موسيقى فيلم The Omen 1976 بطولة جريجوري بك أيضـًا. وسميث أحد تلامذة الموسيقار المجري الكبير Miklós Rózsa الذي قدم كلاسيكيات للسينما الأمريكية خلال عقود عديدة في القرن العشرين مثل فيلم Ben Hur، أما الترشيح الآخر للمونتاج الذي قام به روبرت سوينك الذي كان مونتيرًا لأفلام كلاسيكية مثل «Roman Holiday وFunny Girl»، و«How to Steal a Million».

المراجع
  1. Mulvey, L. (2010). Unmasking the Gaze Feminist Film Theory, History, and Film Studies. In V. Callahan (Ed.), Reclaiming the history, feminism and film history. (pp.17-31) Detroit: Wayne State University Press.
  2. The Third Reich on Screen, 1929–2015. Bob Herzberg, 2017
  3. The Third Reich on Screen, 1929–2015. Bob Herzberg, 2017