فليحذر السلطان زحف الغابة و الورد إذ يستأنس الدبابة داب الحديد من لمسته دوبان
تميم البرغوثي

25 أبريل/ نيسان 1974

تكتظ شوارع لشبونة بعشرات الآلاف من المتظاهرين المبتهجين، والمحاطين بالمئات من الضباط والجنود الشبان بأزيائهم المموهة، وفوهات بنادقهم الشاخصة لأعلى التي – في مفارقة نفسية عجيبة – تحتضن كل منها زهرة قرنفل!ثورة القرنفل.. اسم على مسمى، بالمعنى المباشر، وبالإيحاء النفسي غير المباشر. تزامنت الثورة مع موسم الأزهار في البرتغال، فأهدت الجماهير جنودَها أزهار القرنفل كرمز تلقائي للامتنان لحركتهم المفاجئة التي أعادت نهر التاريخ إلى مجراه في هذا البلد الأوروبي الذي تأخر كثيرًا عن الركب الديموقراطي، وهذا هو السبب المباشر لتسمية الثورة باسم «القرنفل»، وستصبح هذه عادة لاحقة في تسمية الانتفاضات الجماهيرية السلمية بأسماء الزهور وصولًا إلى «ثورة الياسمين» في تونس 2010-2011. أما الإيحاء غير المباشر لاسم القرنفل، وما يبعثه في نفس القارئ من سكينة وجمال وهدوء، يجعله يستغرب من التضاد بينها وبين كلمة ثورة وما يرتبط بها من عرق ودماء وصراع… إلخ، فهذه الحركة التي حدثت في شوارع عاصمة البرتغال يوم 25 أبريل/نيسان 1974 تستحقه تمامًا، لفرط سلميتها، حتى حازت لقب ألطف انقلاب عسكري في التاريخ الحديث. لكن كيف وصلت الأمور إلى لحظة أبريل/نيسان 1974؟


من الإمبراطورية إلى الجمهورية

على شاطئ المحيط الأطلنطي، في أقصى جنوب غرب أوروبا تقع دولة البرتغال الصغيرة في حجمها، الكبيرة في تاريخها المتقلّب والمليء بالأحداث. ظهرت هذه الدولة شيئًا فشيئًا على مسرح التاريخ على أنقاض الجزء الغربي من دولة الأندلس الإسلامية المتفككة في القرنيْن السادس والسابع الميلادييْن. وخلال القرون اللاحقة، ولصعوبة التمدد البري شرقًا على حساب الناشئ الجديد شديد الصلابة، إسبانيا، التي التهمت لتوها معظم الأندلس الإسلامية، اتجه البرتغاليون صوب البحر.خلال القرون 14 و 15 و 16 الميلادية، جابت الأساطيل البرتغالية معظم البحار المعروفة، لتسلب وتنهب وتحتل الكثير من السواحل في المغرب الإسلامي والهند وأفريقيا والأمريكتيْن. أصبح البرتغاليون من سادة العالم في ذلك الوقت، وامتلأت خزائنهم بالثروات من كافة أنحاء العالم، لكنها بدأت تضعف شيئًا فشيئًا في القرون التالية، مع الحروب المتتالية مع العثمانيين والإنجليز والفرنسيين والإسبان، وأصبحت مع الوقت إمبراطورية هادئة على هامش الصخب الأوروبي في القرون الأخيرة.عام 1910، انتعشت الآمال داخل البرتغال مع زوال الملكية وقيام الجمهورية البرلمانية بعد حراك سياسي تأثر بالمد الديموقراطي في القارة العجوز. تشكّل البرلمان بالانتخاب، وتم تفكيك شبكات النفوذ الكنسي القديمة ومصادرة أغلب ممتلكاتها. لكن لم تكن النخب السياسية خلال فترة الجمهورية البرتغالية الأولى 1910م – 1926م التي وصفت بالديموقراطية الأكثر اضطرابًا واهتزازًا في أوروبا، على مستوى آمال وتطلعات الجماهير. فقد أظهرت أغلب النخب في ذلك الوقت قدرًا كبيرًا من التطرف العلماني، فحظرت تدريس الدين في المدارس، واضطهدت المتدينين الكاثوليك بشدة. وهكذا أصبح للنظام الجمهوري أعداء كثر في طبقات مختلفة من الشارع البرتغالي.ترافق هذا الاستقطاب مع الكثير من الاضطرابات الإدارية والانقسامات السياسية واهتزاز الأداء الحكومي، مما أعطى الذرائع للعسكريين للتدخل السياسي بحجة حفظ الاستقرار والحفاظ على الدولة. بدأ هذا عام 1915 عندما شكّل الجيش حكومة عسكرية وكاد يسيطر على الأمور، لكن لم يتمْ له الأمر آنذاك بسبب انقلاب مضاد نفذه الجمهوريون اليساريون. سرعان ما سقطت حكومة الجمهوريين بدورها على يد انقلاب دموي عام 1917، قاده السفير السابق بألمانيا. لم ينجح هذا الأخير في السيطرة على الأمور وتم اغتياله أواخر عام 1918، فدخلت البلاد في حرب أهلية قصيرة بين الجمهوريين والملكيين أوائل عام 1919، انتهت بهيمنة الجمهوريين، لكن لم تنقطع الإضرابات والاضطرابات الاقتصادية والسياسية.


أطول ديكتاتورية أوروبية في القرن العشرين

كان المآل الحتمي لهذه الجمهورية المضطربة هو انقلاب مايو 1926 العسكري، بقيادة الجنرال أنطونيو كارمونا الذي دشَّن أطول حكم استبدادي في أوروبا الحديثة. قصة متكررة ومعروفة. مع وطأة الأزمات الاقتصادية، استدعى الجنرال أكاديميًا اقتصاديًا مرموقًا سيكون الرقم الأصعب في المعادلة البرتغالية في السنوات التالية، هو أنطونيو سالازار الذي تمَّ تعيينه وزيرًا للاقتصاد بصلاحيات مطلقة. نجح سالازار في حل بعض المشكلات الاقتصادية العاجلة، ونظَّم شئون المستعمرات في أفريقيا، خاصةً عندما ضُمَّت له وزارة المستعمرات عام 1930، وزادت شعبيته كثيرًا.عام 1932، أصبح سالازار رئيسًا للوزراء، ودشَّن مرحلة «الإستادا نوفا» أو «الدولة الجديدة». كانت دولة سالازار الجديدة رغم إصلاحاتها الاقتصادية التي أهّلتها كفاية الرجل في مجاله، والثروات القادمة من المستعمرات، تمنع كل مظاهر الحياة السياسية الديموقراطية، فلا أحزاب حقيقية، ولا حرية للتعبير والصحافة، ولا اتحادات عمالية. أنشأ الرجل «الاتحاد الوطني» ليكون المظلة السياسية الوحيدة بالبرتغال، وحاربت حكومة سالازار مختلف التوجهات الأيدولوجية متذرعة بالانقسامات الحادة التي تخلَّلت فترة جمهورية ما قبل 1926.عندما حدثت الحرب الأهلية في الجارة إسبانيا 1936 – 1939، دعم سالازار القوميين بزعامة الجنرال فرانكو الذي انتصر عام 1939 ليؤسس حكومة دكتاتورية قمعية استمرت حتى عام 1975. استمرت حكومة سالازار ثابتة الأركان حتى مطلع الخمسينات، مستندة إلى الاستقرار الاقتصادي الذي كفلته سياساتها، والدعم المفتوح من المؤسسة العسكرية التي هيمنت دائمًا على منصب الرئاسة، وكذلك النزاهة الشخصية التي تمتَّع بها سالازار. وساعدَها أيضًا التسامح مع الكنيسة الكاثوليكية، وإعادة الاعتبار الجزئي لجموع المتدينين.في الخمسينات والستينات، أصبحت الأمور أكثر صعوبة مع الاضطرابات التي حدثت في المستعمرات البرتغالية مع موجة التحرر الوطني التي اجتاحت معظم المستعمرات حول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وهكذا حُرم النظام الديكتاتوري من المنبع الرئيسي لتمويل سياساته، والثروة الرئيسية التي دعمت نجاحاته الاقتصادية التي قايض بها الحريات السياسية للشعب.بين 1955 و1961، نجحت الهند بالنضال السياسي والقضائي في ضم المستعمرات البرتغالية الهندية إليها. وبعدها جاءت الطامة الكبرى لنظام سالازار باندلاع الحرب الاستعمارية الكبرى منذ عام 1961 إلى 1974. حيث تورطَّت القوات الاستعمارية البرتغالية في مواجهة عدة حروب تحررية في مستعمراتها الإفريقية الهامة خاصة موزمبيق وأنجولا وغينيا بيساو.

كان سالازار يؤمن بضرورة التمسك بالمستعمرات بأي ثمن لاستمرار تأمين الخزانة البرتغالية بالكم الهائل من الثروات بها، وكذلك لأن البرتغال من أقدَم القوى الاستعمارية في أفريقيا، وأصبح بكل مستعمرة أجيال متتابعة من مئات الآلاف من المستعمرين البرتغاليين، ولذا ضم سالازار إليه وزارة الدفاع عدة سنوات، وأعطى الضوء الأخضر للجيش البرتغالي لاتخاذ كل ما يلزم لسحق التمردات.

أنهكت الحرب الخزانة البرتغالية، وارتكبت القوات البرتغالية كافة الفظائع لكبح جماح القوى التحررية، ونجحت بثمن باهظ في الحفاظ على سيطرتها على المناطق الهامة في المستعمرات الثلاثة، مع استمرار حروب العصابات في إنهاكها خاصة في غينيا بيساو.

لم يهدّئ خروج سالازار من المشهد السياسي عام 1968، عندما أصيب بجلطة دماغية، من وتيرة الحرب. استمرت المصاعب الاقتصادية، وزاد الطين فيها بلة، أزمة البترول التي صاحبت حرب أكتوبر/تشرين الثاني 1973 بين العرب وإسرائيل، حيث كانت البرتغال من الدول التي تعرضت للحظر نتيجة موقفها الداعم لإسرائيل – استخدمت الولايات المتحدة جزر الآزور البرتغالية كمحطة ترانزيت هامة في الجسر الجوي الأمريكي الضخم.آلت هذه الحرب، وما صاحبها من أزمات اقتصادية هبطت كثيرًا بشعبية نظام «الإستادا نوفو» إلى الكثير من التململ في صفوف الشعب والجيش في البرتغال. هذا التململ الذي انفجر على أرض الواقع يوم 25 أبريل/نيسان 1974.


البرتغال ومخاض العودة إلى النور

حوالي 300 ضابط بالجيش البرتغالي، أغلبهم من الرتب الصغيرة، أطلقوا على أنفسهم «حركة القوات المسلحة»، نزلوا بأسلحتهم إلى شوارع العاصمة البرتغالية لشبونة، و سيطروا على المرافق الحيوية، والإذاعة والتلفزيون، وألقوا القبض على رئيس الوزراء كايتانو وعزلوه من منصبه، وقاموا بنفيه إلى جزيرة ماديرا البرتغالية. لم تحدث مواجهات تذكر، ولم يسقطْ ضحايا. لم تكد الجماهير تسمع بأخبار الانقلاب، حتى اندفعت إلى الشوارع معلنةً تأييدها الكامل له، خاصة بعد أن أسفر المنقلبون عن نياتهم في إيقاف الحرب العبثية الاستعمارية التي أنهكت الموارد، وجلبت الكثير من الانتقادات الدولية للبرتغال، وكذلك وعدهم بإعادة الحياة السياسية الديموقراطية إلى مجاريها بعد نصف قرن من الحكم الدكتاتوري.كان الثوار من مشارب فكرية شتى، لكن تجمعهم ثوابت تتمثل في عودة الديموقراطية والتخلي عن المستعمرات. أسس الثوار «مجلس الخلاص الوطني» الذي منح رئاسة البلاد إلى الجنرال سبينولا الذي كان يعتبر بطلًا عسكريًا لدى البرتغاليين. بدأ الحكام الجدد في تنفيذ وعودهم فورًا، فمنحوا غينيا البرتغالية – غينيا بيساو – استقلالها، وأعادوا الحريات السياسية وحرية الصحافة وتأسيس الأحزاب. لكن حدثت خلافات بين سبينولا وبين قيادات الانقلاب لرفضه ما كان يراه تسرعًا منهم في منح المستعمرات الأفريقية استقلالَها دون عقد استفتاءات حرة على الاستقلال هناك أولًا، فاستقال من منصبه في سبتمبر/أيلول 1974، ثم حاول القيام بانقلاب مضاد مارس/آذار 1975، لكنه فشل وفرّ خارج البلاد.لم يمر عام 1975 بسهولة، فقد نزح إلى البرتغال أكثر من نصف مليون من البرتغاليين الذين كانوا في المستعمرات التي نالت استقلالها لاحقًا ذلك العام كالرأس الأخضر وموزمبيق ثم أنجولا، فسبّب عودة هؤلاء بعض المشاكل السياسية والاقتصادية. كذلك ظهرت الخلافات بين الأجنحة الليبرالية واليسارية بين الثوار. هيمن اليساريون على مقاليد الأمور، وبدأوا في بعض الإجراءات الجذرية كتأميم بعض البنوك والمصانع، وانتشرت الإضرابات العمالية في قطاعاتٍ عديدة. عُقدت انتخابات لتشكيل جمعية وطنية تأسيسية، اشترك فيها 92% ممن يحق لهم التصويت، في رقم قياسي عالمي، لكن لم تهدّئ الانتخابات الاضطراب في الشارع، وحدثت صدامات في الشارع بين الليبراليين واليساريين قتل فيها العشرات من الجانبين.في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1975، تصدّى الضباط المعتدلون من ذوي الخلفية الليبرالية بالجيش لانقلاب مضاد نظمته عناصر يسارية متطرفة. أعقب هذا كسر هيمنة اليسار عمومًا على الأمور، وسكنت الأمور قليلاً.في أبريل/نيسان 1976، أصدرت الجمعية التأسيسية الدستور الجديد الذي كفل الحياة الديموقراطية، وعُقدت انتخابات برلمانية لم يحظَ فيها أي تيار بالأكثرية، بينما فاز الجنرال أنطونيو رماليو بـ 60% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية، وهو الذي كان له الفضل الأول في التصدي للانقلاب اليساري أواخر 1975. نتيجة غياب أغلبية برلمانية، تشكلت في السنوات التالية إما حكومات أقلية ضعيفة، أو حكومات ائتلافية متباينة الأهواء عاجزة عن اتخاذ قرارات مصيرية.لكن في 1980، نجح تحالف يمين الوسط في حيازة أغلبية برلمانية مكّنته من تشكيل الحكومة، والقيام بإصلاحات دستورية أتمت التحول للديموقراطية، رغم أنها أعطت للجيش صلاحية الاعتراض على التشريعات. أصبحت البرتغال أقرب إلى الانضمام للسوق الأوروبية المشتركة؛ الأمر الذي تم أوائل عام 1986.في عام 1986، انتخب ماريو سورس، المحامي ذو النزعة اليسارية، كأول رئيس مدني للبرتغال، ليظل في منصبه حتى عام 1996. وشهدت انتخابات 1987 البرلمانية أغلبية واضحة للحزب الديموقراطي الاجتماعي، مما أعطى استقرارًا أكبر للمشهد السياسي البرتغالي.هكذا، لم ينتهِ القرن العشرين إلا وقد ترسخ المسار الديموقراطي الذي دشَّنته «ثورة القرنفل»، وروجع الدستور مراتٍ عديدة، فأبعد النفوذ العسكري تمامًا عن الحياة السياسية، وأصبح لدى البرتغال نظام نصف رئاسي، يوزع الصلاحيات التنفيذية بين الرئيس ورئيس الوزراء، ويتنافس على السلطة عدة أحزاب في مقدمتها الحزبيْن الكبيريْن: الاشتراكي، والديموقراطي الاجتماعي. وصاحب هذا الاستقرار السياسي، نجاحات اقتصادية ملموسة.وهذه كانت قصة ما قدمه ضباط انقلاب القرنفل من نموذج نادر – للأسف – لانقلاب عسكري شبه منعدم الخسائر، قفز ببلده إلى الأمام، وسلّم السلطة طواعية إلى سلطة مدنية منتخبة، فاستحقت حركتهم أن تكتب في صفحات التاريخ الإنساني المضيئة كمثال استثنائي.