خلال لقاء بين الراحلين، المخرج يوسف شاهين والممثل عزت العلايلي، اتفقا على فكرة فيلم جديد، كان الاتفاق المبدئي حول الفيلم أن يقوم شاهين بدور البطولة، ويتولى العلايلي إخراجه. لم يقتنع شاهين آنذاك بالتمثيل في الفيلم الذي لم تنتهِ فكرته بعد، وكعادته، فكَّر في وجه جديد يقتحم به شاشات العرض، ذهب إلى عبد الحليم حافظ، وطلب منه أداء البطولة في فيلم عن شخصية مريضة بالفصام، بينما الفكرة العامة للفيلم تُحاكي حالة الرماد والحصار المعنوي، البائس، الذي حطَّ على المجتمع المصري بعد نكسة 1967.

لأن الفيلم ليست به أغانٍ، ولأن شاهين لم يستطع إقناع عبد الحليم حافظ بدور تمثيلي حقيقي بعيدًا عن نجوميته كمطرب، رفض حليم العرض، ولم يوافق شاهين على إسناد بطولة الفيلم للممثل محمود يس، لأنه كان مشغولًا بتصوير فيلم آخر. حتى رشدي أباظة، لم يكن بينه وبين شاهين أي كيمياء في الجلسة المبدئية ليأخذ رشدي أباظة الدور.

بورقة صغيرة، تحوي نقاطًا عامة حول فكرة فيلم (الاختيار- 1971) ذهب عزت العلايلي ويوسف شاهين إلى نجيب محفوظ، عرضا عليه الفكرة العامة، وطلبا منه أن يعمل على تحويلها إلى قصة ستُحوَّل إلى سيناريو سينمائي.

مثل كابوس ينبش في كل جملة يخطها في هذه السنوات، كتب محفوظ قصة الفيلم انطلاقًا من هاجس التبعات الذهنية والوجودية للنكسة، ثم حوَّلها يوسف شاهين – متفرغًا بسبب أريحية مادية مؤقتة من أعمال ناجحة سابقًا – إلى سيناريو سينمائي، عمل عليه كمخرج، وقام ببطولة الفيلم عزت العلايلي.

بعد مشوار طويل نشأ الفيلم خِلاله، وبينما يُعرض في سينما ريفولي بالقاهرة، انفعل الجمهور الحاضر من غموض ما شاهدوه، من كان يتوقع أن يذهب ويجد سعاد حسني وعزت العلايلي وهدى سلطان ومحمود المليجي في فيلم غير مفهوم؟ خرج شاهين وبعده عزت العلايلي هاربين من شتائم الجمهور.

يخرج شاهين عادة من أفخاخ المقارنة مع مخرجين مصريين أو عرب، لأن مشروع شاهين الطويل والثري يقف أمام  المقارنة كحاجز بينه وبين أي مخرج آخر، لذلك يمكننا التعبير عن سينماه بأنها سينما تخصه وحده. ثمة حلقات ناقلة من مرحلة إلى أخرى في أفلام يوسف شاهين، من الالتزام الواقعي، مرورًا بالتناول الحضري للتاريخ، وحتى الإسكندرية التي شهدت على سينما سيرته الذاتية. يقف فيلم الاختيار بين أفلام صاحب الأرض كاستثناء، ليس فقط على مستوى النوع، ولكن حتى على مستوى حيثيات كتابته ومدى حدود شاهين في العمل عليه، كمخرج وسيناريست أيضًا.

القص الكابوسي

عندما لجأ الثنائي عزت العلايلي ويوسف شاهين لنجيب محفوظ، أتصور أنهما إما ذهبا إليه عن وعي بمرحلة كتابته المتأثرة بشبح النكسة، أو دفعهما حسن الحظ إلى اختيار صاحب الحرافيش، ليس لجودة كتابته وخبرته السينمائية ككاتب فقط، وإنما لأنهما ذهبا إليه تحديدًا، في هذا الوقت.

في أواخر الستينيات، كان محفوظ قد تشرَّب حرفة الكتابة للسينما من رواد الواقعية الملتزمة بإخلاص للحاضر المجتمعي، صلاح أبو سيف أولًا، وتوفيق صالح بعدما عمل معه نجيب محفوظ في فيلم (درب المهابيل-1955). أيضًا لم يكن الاختيار هو التعاون الأول بين محفوظ وشاهين؛ إذ كتب محفوظ معالجة فيلم (الناصر صلاح الدين-1963) وأخرجه يوسف شاهين.

بعد الأثر الكارثي للنكسة على مثقفيها، الذين اندفعوا تجاه المشروع الناصري بالقلوب والأقلام والتبعية الساذجة أملًا في مشروع قومي جديد، كان محفوظ أول الذين استطاعوا عكس هذه الحالة في أعماله؛ إذ تحوَّل من كتابة الروايات، وتوقف مشروع رواياته الذهنية مؤقتًا، واتجه إلى كتابة القصص. ما بين 1967 و 1973 كتب محفوظ خمس مجموعات قصصية وروايتين فقط، طغى الطابع الكابوسي، القائم على الخوف والترقب من غريب/مخيف آتٍ، حكمت الثيمة السابقة معظم قصص محفوظ في هذه المرحلة.

يأتي فيلم الاختيار، كحلقة من مجموع القصص التي كتبها محفوظ، تأثرًا، بجذور التفتيت وانتفاء الأمل، واستبدال طبقات مركبة من اليأس السياسي والثقافي به.

تأثرًا بجذور التفتيت وانتفاء الأمل واستبدال طبقات مركبة من اليأس السياسي والثقافي به، يأتي فيلم الاختيار كحلقة من مجموع القصص التي كتبها محفوظ، تحديدًا من مجموعة (خمَّارة القط الأسود- 1968) التي كانت ذروة القصة الكابوسية من بين مجمل قصص محفوظ.

مثلما يهرب فتوة الحارة من حلم كابوسي يلقى فيه حتفه على يد ابن الفتوة السابق للحارة ويجد الفتوة الهارب نفسه مَقودًا إلى إحالة حلمه مجسَّدًا في الواقع، تنطلق درامية فيلم الاختيار من احتمال كابوسي يبدو بعيدًا، يفرض نفسه عليك كمشاهد، حتى يقترب ويتجسَّد واقعًا ينثر الأسئلة.

لدى (سيد- عزت العلايلي) نجاح أدبي كبير، روايات مميزة ومسرحيات يمثلها يوسف بك وهبي، وتمثيل رسمي في أكثر من مؤتمر دولي، لكن ذلك النجاح، من أول مشهد، يتم بتره من خلال (شريفة – سعاد حسني) التي تعدد لزوجها مجمل إنجازاته المملة، والتي بها يكتمل نجاحه، وبها أيضًا تُكلل حياتهم الزوجية بالفشل.

لدي سيد أخ توأم، هو عكسه من كل شيء، فشله المجتمعي جذر من جذور حريته، نعرفه من خلال حادثة يقرؤها صدفةً في الجرنال، جثة مطموسة المعالم ملقاة في جبل الدراسة، عند هذه الصدمة تحديدًا، وما يتبعها من خلل عند المشاهد في تحديد حيثيات فردية لكل من محمود وسيد، تندفع جميع الشخصيات في سياق منفصل/متصل من الأسئلة الجماعية والشخصية، والتي لا تنتفي بالوصول إلى ذروة الفيلم الدرامية.

الفكرة المركزية التي ينطلق منها الفيلم لا تتعلق فقط بإحالة أوهام سيد إلى واقعه المَرضي، كي ننتهي عند حالة، أو حكاية، يمكن أن نعرِّفها في سياق متكامل. يبدأ الفيلم من سؤال (هل هما شخص واحد؟) وخلال الوصول إلى جواب محتمل تُكمله الحكاية، ثمة أسئلة تشترك بها جميع الشخصيات، تتعلَّق أولًا بماهية وجودهم، وبالدور المركزي للحب والحقيقة – من خلال فقدهما – في تحولات كل منهم.

الأسئلة التي تُحرك المسار العام للفيلم، سواء المنعكسة على سيد الكاتب أو على شخصيات أخرى محيطة، تتفاقم مثل غيمة حتى تتجاوز الفيلم نفسه، وتصبح أكثر من تساؤلات بداخل حكاية، بل قادرة على تشكيلها وإنهائها ومن ثم تجاوزها، كانت هذه هي الجذور الأولى لأزمة جيل النكسة الثقافي، الخروج من حيز المشروع/المنطقي، المفعم بالأمل والجماعية، إلى هوة السؤال الفردي، المجرد، الذي يبدأ من تفتيت سردية الصعود القومي للمجتمع، وينتهي عند سؤال القيمة في الوجود نفسه. من نحن؟ وماذا يمكننا أن نفعل حاليًّا؟

 على مستوى فني، ضُمِّن الفيلم أكثر من شكل أدبي بداخله، هناك بوادر لأسلوب السرد فوق الواقعي (الميتا-سرد)، ضُمِّن في السياق الحكائي للفيلم، ليضع مقابلة بين سيد الذي يكتب مسرحية البحَّار، أي يحاول قراءة نفسه من خلال الكتابة، ويتم إحالة هذه المشاهد سينمائيًّا.

مرح مُرٌّ

شهدت حقبة السبعينيات ذروة الغضب السياسي عند شاهين، وبحرفية فنان يحيل كل شيء إلى سينما، استطاع أن يخلق أفلامًا مثل الأرض، عودة الابن الضال، العصفور، لكن يظل فيلم الاختيار مختلفًا عنها، إذ كان فيلم الأرض هو الأمل الأخير للتمسك بالأرض/مشروع القومية العربية المتداعي آنذاك، بينما العصفور هو اعتراض سياسي واضح، ومحاولة طفولية سحبت من الفيلم جودته السينمائية لعمل مانيفستو عاطفي لأجل الناس ولأجل الغضب من الفشل الناصري، ربما يكون أقرب هذه الأفلام للاختيار هو عودة الابن الضال، من حيث القدرة على التنبؤ والقراءة المجردة للفرد في سياق جماعي، لكن لماذا ينأى الاختيار بعيدًا عن أفلام هذه المرحلة؟

 انطلق شاهين في قراءة هذه المرحلة المحورية من التجريد، من إهمال سياقاتها الواقعية تحديدًا؛ إذ كان زمن الفيلم مُجهَّلًا، لا تقاطعات سياسية مع الشارع، ولا حتى أخبار من الخارج، الحدث كله يشكِّله السؤال أولًا، والأساس الدرامي الذي يشكِّل الشخصيات متبلور في مفردات كونية تشمل الشخصيات، الشك في ظاهرية الحدث عند الضابط (فرج- محمود المليجي) والدأب في البحث عن حقيقة أخرى، فقد الحب، كنموذج لفقد مفردة بديهية تُقيم الحياة نفسها، عند شريفة و(بهية- هدى سلطان)، والأهم هو فقد الحقيقة بين شخصيتي محمود وسيد، حيث لا نعرف أيهما هو الذي شكَّل الآخر.

عمل شاهين على هذه التجمعات المكثَّفة، وأعطاها حرية الحركة في سياق فوق واقعي، من خلال تجهيل المكان أيضًا، وإهمال مشاهد التصوير الخارجية، هناك عوَّامة المرح والرقص والسكر الأبدي، حيث تعيش بهية وشلة التائهين في الحياة، دون حدود، دون مسميات. المكان الوحيد الذي يشمل الخروج عن سياق الأسئلة ويحوي المفردات الكونية للحياة، هو مكان غير واقعي.

استعان يوسف شاهين بمصمم المناظر صلاح جبر، نرى التناغم الكبير بينهما، من الاختلاف بين واقعية التصميم في فيلم الأرض، وخياليته في الاختيار؛ إذ بدت الأماكن مفعمة بدلالات فانتازية. 

(يوسف شاهين وسعاد حسني من الكواليس)

رغم أن السياق الزمني ومدى ضخامة الحدث الذي دفع شاهين كفنان يحمل مرارة سقوط مشروع قومي كبير في هوة عميقة، ظلت هناك لفتات مشتبكة بين الاختيار وبين أفلام شاهين الأخرى، شخصية بهية في الاختيار تتشابه مع بهية في فيلم العُصفور، مثلتها الراحلة محسنة توفيق، وبتوافق كبير مع الشخصية المذكورة في الاختيار، بهية الاختيار هي ملاذ لمن يريد الحياة، دون شروط وتحاكمات مسبقة، بينما بهية العصفور، ابنة بارة للواقع المجتمعي في قلب النكسة، حيث تعمل خياطة لتعول ابنتها الجامعية، وتؤجِّر غرفًا سكنية في بيتها لأهل المبادئ والالتزام السياسي من طبقات الشعب الكادحة. سواء عوَّامة بهيَّة في الاختيار، أو بيتها الصغير في العصفور، يظل كل منهما الملاذ الأخير لشخوص الحكايتين الباحثة عن ملاذ أخير وآمن.

(البهيَّتان في الاختيار والعصفور)

رغم أننا يمكننا اعتبار فيلم الاختيار استثناءً – بعيدًا عن هاجس المقارنة – من مجمل أفلام يوسف شاهين، لكن محاولة محاكاة خطابية ومونولوجات شكسبير التي طالما تأثر بها يوسف شاهين، ظهرت في فيلم الاختيار بأسلوب طغى على نضج وحِرفية بقية أدوات الفيلم.

يسكر محمود وينتقل بين أفراد العوَّامة، يطنطن بشعارات مُرسلة؛ إذ نعرف منه أن الإخلاص مع النفس أولًا أهم شيء، الاعتراف والحقيقة هما الملاذ الآمن للإنسان، منتهى الطرق يلتقي فيه الإنسان بنفسه. طالما يمكننا فرد الكثير من الأكواد على لسان شخصية سينمائية مرة واحدة، كأنها القواعد المُخلِّصة، لماذا كان على الفيلم أن يتسق مع صعوبة المرحلة ويتعرَّض لأسئلة كثيرة، وإجابات مفخخة تطوي مزيدًا من الأسئلة بداخلها؟

حتى اليوم، يبقى فيلم الاختيار مُجهَّلًا لأجل عناوين أخرى أكثر شعبية ومركزية، سواء في مشروع نجيب محفوظ الأدبي والسينمائي، أو في مجمل أفلام يوسف شاهين، ربما لأن الفيلم لم يكن يلزمه أكثر من هامش صغير، يكون المرح المر، المنتقل بين حيوية الفن ومرارة الواقع، ممكنًا له أن ينتج من الأسئلة حالة سينمائية لم تتكرر في بقية أعمال صانعيها.