يبدو أن محاولة التنبؤ بالاتجاهات المستقبلية لأسعار النفط تأتي مخيبة للآمال في معظم الوقت، وخصوصًا عندما نتجاهل الحقائق والأرقام، التي تُظهر اختلالا واضحا في عوامل العرض والطلب في الأسواق، ونعتمد فقط على الأمنيات.

فمن ناحية، تركز منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك» على حماية حصتها السوقية والضغط على منافسيها من منتجي النفط غير التقليدي للخروج من السوق. ومن ناحية أخرى، يبدو أن الهدف على المدى الطويل بالنسبة للمنتجين من خارج أوبك خاصةً الولايات المتحدة هو الاستمرار في إنتاج النفط الصخري حتى ولو كان ذلك في ظل بيئة منخفضة الأسعار.


إلى أي مدى وصل الانهيار في أسعار النفط؟

على غير رغبة الدول المنتجة والمصدرة للنفط، تراجعت أسعار النفط بنحو 20% منذ بداية العام الجاري ليحوم كلا الخامين الأمريكي وبرنت العالمي حول مستوى 30 دولارًا للبرميل، وهو أدنى مستوى منذ عام 2003.

وتراجعت أسعار النفط خلال العام 2015 الماضي لنحو خُمس ما كانت عليه في نهاية عام 2014 لتعمق خسائرها إلى أكثر من 60% من قيمتها. وبعيدًا عن احتمالات أن تكون هناك مؤامرة وراء الانهيار في أسعار النفط العالمية، فوفقًا لعوامل العرض والطلب كان هناك الكثير من الأسباب التي أدت إلى تدني الأسعار منها وفرة المعروض، وارتفاع المخزونات في البلدان الصناعية الكبرى وخاصةً في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان إلى أعلى مستوياتها منذ الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن قرار منظمة «أوبك»، المسئولة عن نحو 33% من الإمدادات العالمية من النفط، بعدم خفض الإنتاج في اجتماعاتها الأخيرة وتمسك معظم المنتجين بأسواقهم والتنافس على أسواق جديدة.


تباطؤ النمو في الصين

فيما كانت التوقعات تشير إلى ارتفاع نمو الإنتاج الصناعي الصيني بواقع 6.4%، جاء الواقع مغايرًا لذلك تمامًا إذ أن الإنتاج الصناعي لم يتخطَّ عتبة 6.1%. وتلك البيانات المتراجعة زادت من مخاوف المستثمرين، وتسببت في موجة هلع ومخاوف متصاعدة عن مستقبل الاقتصاد الصيني وقدرته على النمو مستقبلًا.

وبسبب ضعف الطلب في الداخل والخارج والطاقة المفرطة للمصانع وفتور الاستثمار من المتوقع أن تسجل الصين أدنى نمو لها منذ 25 عامًا الأمر الذي يزيد الضغط على أسواق الطاقة.


نفط خارج أوبك

مثّل زيادة الإنتاج من خارج منظمة أوبك أثرا ضاغطا على الأسعار أيضًا، خصوصًا بعدما تجاوز الإنتاج الروسي عتبة الـ10 مليون برميل يوميا، وهو مستوى قياسي لم تحققه منذ الحقبة السوفييتية. كما زاد الإنتاج في كل من النرويج والمكسيك بالإضافة إلى الزيادة الكبيرة في إنتاج البرازيل من المياه المغمورة.


النفط الصخري الأمريكي

ليست هناك نهاية واضحة في الأفق حول مدى إغراق الأسواق العالمية بفائض المعروض النفطي، التي تراكمت منذ بدأت أوبك حرب أسعار النفط ضد صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة في أوائل عام 2014.

والجانبان يصممان على مواصلة ضخ النفط على الرغم من الاستياء المتزايد من زيادة المعروض وتدني الأسعار. ويزداد الأمر تعقيدًا بعد أن كشفت المسوحات من الحفارين في الولايات المتحدة أن هناك نقاط حفر في الولايات المتحدة يمكنهما توفير الإمدادات بأسعار منخفضة تصل إلى 30 دولارًا للبرميل.


إستراتيجية أوبك

تستمر أوبك في إستراتيجيتها الهادفة إلى الحفاظ على حصتها السويقية في الأسواق العالمية مهما كان الانخفاض في مستوى الأسعار، وتأتي معظم الزيادة في الإنتاج من المملكة العربية السعودية؛ حيث يستمر الإنتاج في الارتفاع منذ نهاية العام 2014، وارتفعت الصادرات إلى نحو 7,8 مليون برميل يوميًا.


النفط المهرب

أوجد تنظيم داعش سوقًا جديدة موازية لسوق النفط العالمية، يربح منها ما يزيد عن مليون دولار يوميًا، نتيجة بيعه للنفط، وذلك بأسعار تقل عن المتداولة في البورصات العالمية، بعد سيطرته على أكثر من 11 حقلًا في سوريا والعراق، ينتجون ما بين 25 إلى 40 ألف برميل يوميًا، يُهربونها إلى إيران وتركيا وكردستان العراق، وفقًا لتقرير للغارديان البريطانية. ويبيع التنظيم البرميل بسعر يتراوح ما بين 15- 20 دولارًا، في وقت يتداول فيه البرميل في السوق الرسمية عند نحو 30 دولارًا.

وتعترف حكومة إقليم كردستان العراق بقيامها بعمليات تصدير سرية للنفط، وقالت أنها تخطط لبيع أكثر من ذلك، سواء قبلت بغداد بذلك أم لا، لأنها تحتاج إلى المال من أجل البقاء والقتال ضد تنظيم داعش. ووفقًا لمعدلات الإنتاج اليومية من الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش، فإن ما معدله 30 ألف برميل يتم إنتاجه يوميًا من تلك الحقول العراقية والسورية، وفقًا لحسابات تم التوصل إليها عبر إحصاء الصهاريج الخارجة يوميًا من العراق.


عودة النفط الإيراني

يظل العامل المهم في الأسواق النفطية العالمية، هو قرار رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران بالكامل، وذلك يعني استعادتها أرصدتها المحتجزة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي تصل إلى 100 مليار دولار، ويصبح في استطاعة إيران العودة إلى السوق من جديد بكامل زخمها الإنتاجي، وسيؤدي ذلك إلى رفع إجمالي إنتاج إيران من النفط الخام إلى نحو 3,6 مليون برميل يوميا ليسجل أعلى مستوياته في أربع سنوات.

رغم جملة عوامل العرض والطلب السابقة، هل يمكن إغفال العامل السياسي في نسج خيوط المشهد الحالي في أسواق النفط؟ وهل تصمد دول أوبك لتنفيذ إستراتيجيها في زيادة ضخ المزيد من النفط في وقت تُعاني فيه موازناتها من عجوزات مالية كبيرة لم تشهدها منذ زمن طويل؟ وهل من خطوات أو نوايا لتصحيح الأسعار؟


الصراع الجيوسياسي السعودي -الإيراني

في بداية يناير الجاري، اندلع صراع جيوسياسي بين كل من المملكة العربية السعودية وإيران، أكبر منتجي النفط في الشرق الأوسط، والذي جاء عقب قيام المملكة بإعدام رجل الدين “نمر النمر” وما تلا ذلك من القيام بإحراق إيران لمقر السفارة السعودية الأمر الذي أدى إلى إعلان السعودية والدول الخليجية الشقيقة قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران. وما تبادر إلى الأذهان في بداية نشوب الخلاف بين السعودية وإيران، أن ترتفع أسعار النفط بمستويات جنونية مع ارتفاع المخاوف من قطع الإمدادات من جانب الدولتين، خاصةً من المملكة التي تنتج أكثر من 10 ملايين برميل من النفط يوميًا.

وبالفعل ارتفعت أسعار النفط بأكثر من 2% في التعاملات الآسيوية في اليوم الأول للتداول بعد إعلان السعودية عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، مما أعطى إشارات في الأسواق بأن النفط بدأ في التحسن مع بداية العام الجديد، لكن يبدو أن الأسواق النفطية بدأت تتعامل مع هذا النوع من الصراع على أنه حدث عرضي، ترتفع معه الأسعار اللحظية ولكن سرعان ما تعود الأسعار إلى مستوياتها الطبيعية.


تحمل الأسعار المنخفضة

حتمًا سينفذ الصبر من الدول المنتجة، مما يجعلها تتراجع عن إستراتيجية الدفاع عن الحصة السوقية مع تراجع حجم الاستثمار في كثير من المشروعات النفطية التي تمكنها من استكشاف وإنتاج المزيد من النفط.

وعلى النحو ذاته من غير المتوقع أن تستكمل الولايات المتحدة مسيرتها نحو إنتاج المزيد من النفط عند تلك الأسعار المتدنية، فمنصات الحفر الصخري في الولايات المتحدة تنخفض باستمرار لمواجهة تراجع الأرباح، ولا نقول هنا أن توقف عمليات الحفر في أمريكا يُعني فشلها في حرب الأسعار القائمة، ولكن من المنطقي أن تقوم الحكومة بوقف استثماراتها غير المُربحة في وقت تتراجع فيه الأسعار ثم تقوم بضخ المزيد من الاستثمارات في وقت لاحق ترتفع خلاله الأسعار.


خطأ إسترايجية «أوبك»

في السابق، كانت منظمة أوبك تتعامل ككارتل إنتاجي يقوم بلعب دور إستراتيجي من شأنه السيطرة على استقرار أسواق النفط العالمية، فعلى سبيل المثال كانت السعودية تمتلك طاقة فائضة من النفط تبلغ 4 مليون برميل يوميًا؛ تقوم بلعب دور المنتج المرجح من خلالها بحيث تقوم بزيادة الإنتاج وقت الحاجة لكبح جماح الارتفاعات غير المبررة في الأسعار، وكذلك تقوم بخفض الإنتاج في وقت الحاجة لدعم الأسعار المنخفضة في الأسواق. وتخلت المنظمة في الوقت الراهن عن تلك الإستراتيجية؛ بحجة فشلها في ثمانينيات القرن الماضي حينما خفضت المنظمة الحصص الإنتاحية وفي الوقت ذاته لم ترتفع الأسعار بالقدر المعقول بل تم اقتناص حصصها السوقية لصالح روسيا.

وبتحليل ما سبق قوله عن منظمة أوبك، نجد أن هناك تمسكا بمعتقدات خاطئة، فالمنظمة ما زالت ترى أنها تسير على النهج السليم، وأن ما يحدث في الأسواق هو أمر طبيعي ونتاج لسنوات طويلة من الترف التي لا بد وأن تواجه بنوع من التقشف، وإذا كان الأمر هكذا، هل يُصاحب سياسة التقشف إفراط في إنتاج النفط الخام الذي يُعد ثروة للأجيال القادمة. فاعتدنا في عالم الاقتصاد أن نترك السلع جانبًا، ما دام يمكن الحفاظ عليها دون التلف، لحين أن تؤتي أسعار بيعها بثمار إنتاجها، أما ما يحدث الآن هو أن الدول الخليجية وفي مقدمتهم السعودية تقوم باستخراج أكبر قدر ممكن النفط الخام المُخزّن في باطن الأرض لتبيعه بأقل الأسعار بحجة أن الأسواق تحتاج إلى توازن وأن المستثمرين أنفسهم لا بد وأن يراجعوا خططهم الإنتاجية لذا لا بد من خفض الأسعار في الأسواق.


تغيير المسار وإصلاح الخلل

للسيطرة على أسعار النفط المتراجعة، هناك إستراتيجيتين أساسيتين واجب اتباعهما من قبل منظمة أوبك:

أولًا: الاعتراف بخطأ سياسة الحفاظ على الحصص السوقية في مقابل الصمود أمام الأسعار المنخفضة، على أن تعود أوبك لهدفها الأساسي وهو ضبط توازن السوق للحفاظ على الأسعار عند مستويات عادلة لكل من المنتجين والمستهلكين، ولكن حتى يتم ذلك فلا بد من التزام الجول الأعضاء بالمنظمة بالحصص الإنتاجية المقررة دون الحياد عنها إلا وقتما استدعت الحاجة لذلك، ففي الحالات التي يرتفع فيها الطلب يتطلب الأمر زيادة الإنتاج من الجميع، ولكن في أوقات تخمة المعروض في الأسواق العالمية فهنا يلزم الأمر من الدول الأعضاء الالتزام بخفض الإنتاج.

ثانيا: محاولة دمج روسيا داخل المنظمة، فدخول روسيا للمنظمة سيكون بمثابة تبني سياسة “تحجيم قدرات الطرف المنافس”، فطالما ظلت روسيا خارج أوبك ظلت طرفًا منافسًا لأوبك على الأسواق الاستهلاكية ذاتها، ومن ثم سيتبني الطرفان دومًا سياسية مضادة، فكلما أرادت أوبك خفض الحصص الإنتاجية للسيطرة على مستوى الأسعار، كلما انتهجت روسيا سياسة من شأنها اقتناص حصص دول أوبك داخل الأسواق. وهكذا تستمر سياسة الضد للضد بين روسيا ودول أوبك طالما ظلت روسيا خارج المنظمة.

نهايةً، يتضح جليًا أن الإمدادات المتزايدة في الأسواق العالمية يقابلها انكماش في الطلب العالمي بعد تراجع النمو الاقتصادي في العديد من الدول الآسيوية الصاعدة، وخاصةً تباطؤ النمو في الصين، ثاني أكبر مستهلك للطاقة في العالم، ما يعني بأن العالم مُقبل على أسعار متدنية في النصف الأول من العام 2016 على أقل تقدير. لكن بالنظر إلى الجانب الآخر، ولجملة عوامل الضعف التي تعاني منها كافة الدول الرئيسية المنتجة للنفط، فمن المتوقع أن يكون سعر 25 دولارًا للبرميل هو الفيصل في إنهاء المستوى الهبوطي، حيث من المتوقع أن تسترد أسعار النفط بعضًا من عافيتها في النصف الثاني من العام، وسط التراجع المتوقع في الإنتاج الأميركي، ناهيك عن الضغوط التي تمارس ضد “أوبك” لعقد اجتماع استثنائي لانتشال الأسعار من كبوتها الراهنة.