ترجع بداية الصراعات داخل الشيوعيين السودانيين إلى زمن حركة «حستو» (الحركة السودانية للتحرر الوطني)، كما روى سكرتير الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب في كتابه «لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني». اختزلت القيادة الأولى متمثلة في السكرتير الأول عوض عبد الرازق، التعليم الماركسي في بعض النصوص الجامدة، ولم تدرس تلك القيادة واقع البلاد من الزواية الماركسية، ولم تتجه لبناء الحزب وسط الطبقة العاملة، ولم تضع لائحة تحكم الأعضاء؛ بل اعتمدت على الاتجاهات الشخصية.

نتيجة فشل سياسة عبد الرازق، انبثقت فكرة المؤتمر التداولي التي انتهت إلى تعديل الشكل التنظيمي للحزب وترسيخ الديمقراطية في الحزب. بعد ذلك انعقد المؤتمر الأول للحزب أكتوبر/تشرين الأول 1950، وأرسى استقلال الحزب بإزاء الأحزاب الاتحادية خلافا لسياسة عبد الرازق، وقد انتخب المؤتمر لجنة مركزية جديدة تكوّنت من: عبد الخالق محجوب، إبراهيم زكريا، أحمد محمد خير، التجاني الطيب، الشفيع الشيخ، قاسم أمين، حسن أبو جبل، ميرغني علي مصطفي، عباس علي.

في المؤتمر الثاني للحزب عام 1951، برزت الخلافات مرة أخرى بين عوض عبد الرازق والقيادة الجديدة، حيث طالب عوض عبد الرازق بدراسة الماركسية في مصادرها الأصلية أولا قبل العمل الجماهيري، والتحالف مع الحزب الوطني الاتحادي، وعدم التعجل في تصعيد القيادات العمالية كالشيخ الشيخ وقاسم أمين.

أدى رفض المؤتمر لمطالب عوض عبد الرازق إلى انقسامه ومجموعة من القيادات عن الحزب. وبينما يحمّل الحزب مسئولية الانقسام والصراع لعبد الرازق، رأى آخرون كالأستاذ عادل عبد العاطي، رئيس الحزب الليبرالي السوداني سابقًا، أن اتهامات الحزب لعبد الرازق كانت كاذبة. يقول عبد العاطي في أحد مقالاته قائلا:

درجت دعاية الحزب الشيوعي السوداني على وصف الأستاذ عوض عبد الرازق، ثاني سكرتير لذلك الحزب، بالانتهازية، والزعم أنه طالب بحل الحزب الشيوعي وأن ينضم الشيوعيون للأحزاب الاتحادية.

وقد أخذ عبد العاطي في مقاله مآخذ عديدة على الشيوعين، منها اتهامهم الشخصي للأستاذ عوض عبد الرازق وعدم نقل كلامه بدقة:

كان الشيوعيون يتهجمون على عوض عبد الرازق ويزوّرون أقواله دون أن ينشروا كلامه هو شخصيًا، فكانوا في ذلك الخصم والحكم. واستغل الشيوعيون واقعة أنهم حزب منظم وهو رجل فرد، فنشروا تخرصاتهم عنه جيلا بعد جيل ومقالًا بعد مقال، فكان سلوكهم مثالا ساطعًا لاغتيال الشخصية التاريخي وللسلوك المرضي والمهووس.

هذه التفاعلات الكبرى في أروقة الحزب فتحت مبكرًا، أبواب صراع حقيقي لطرح الأفكار ضد صراع الجمود، وأثّرت على تصورات الحزب لتوسيع الديمقراطية. واصل الحزب نشاطه في الفعل السياسي العام، وبرز ذكل في موقفه من «اتفاقية الحكم الذاتي» فبراير/شباط 1953 التي رفض فيها الحزب شعار الاتحاديين «تحرير لا تعمير»، بطرح شعار مقابل «لا تحرير بلا تعمير»، باعتبار أن الاستقلال السياسي وحده لا يكفي، بل يجب استكماله بالاستقلال الاقتصادي والثقافي في طريق إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية.

تم عقد المؤتمر الثالث للحزب في فبراير/شباط 1956م، بعد نيل السودان استقلاله، وواصل نشاطه في ظل حالة صعبة بعد إعلان التمرد في الجنوب 1955.

في ظل الأفق السياسي المسدود، جاء حكم عسكري بانقلاب من رئيس الجيش الفرق عبود في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1958، وقد رفضه الحزب وطالب بعودة الديمقراطية ودعا إلى إضراب عام في 1961، وهي قرارات جاءت نتيجة دراسة الحزب للواقع السياسي، وقابلتها القوى المعارضة آنذاك بالرفض، فانسحب على إسر ذلك من جبهة المعارضة، وعمل على التعبئة للإضراب السياسي وسط القوى الديمقراطية، في مقابل رفض أي اتجاه نحو الكفاح مسلح.

جاءت ثورة أكتوبر 1964 بعد الإضراب السياسي العام الذي دعا له الشيوعيون بثلاثة أعوام ليطيح بنظام عبود، وليرجع العسكر لثكانتهم. بعد الثورة، رفض الحزب الشيوعي حل حزبه ودمجه مع قوى اشتراكية سودانية تقليدًا لتجربة مثيلتها المصرية حيث حل الحزب الشيوعي المصري نفسه واندمج في تنظيم الدولة «الاتحاد الاشتراكي».

جاء المؤتمر الرابع في أكتوبر/تشرين الأول 1967، وناقش قضايا الماركسية نظريًا كمنهج، وقضايا الإستراتيجية والتكتيك حيث أن المؤتمر الثالث ناقش التكتيك فقط، وقد رُسم ولُخّص ذلك النقاش في وثيقة «الماركسية وقضايا الثورة السودانية» التي وضعت منهجًا لدراسة الطبقات ورسم الخط التنظيمي وبناء الحزب على أساس العلم والتخطيط. بعد المؤتمر، اعترف الحزب بأن فرض وصاية الحزب على العضوية وتحجيمها من الضروري التخلي عنه لمجابهة صعود العمل الانقلابي كتكيك ساد في ذلك الوقت.

بعد حل الحزب الشيوعي بقرار من البرلمان بعد مظاهرات حاشدة ضد الشيوعيين بسبب ازدرائهم الدين، وقع انقلاب مايو/آيار 1969 بقيادة العقيد جعفر النميري. دعم الحزب الشيوعي الناقلاب وشارك في الحكم بقيادات أمنية وعسكرية انتقامًا من النظام الديمقراطي الذي حظره. وقد دار بين الشيوعيين صراع فكري حول الدخول في السلطة، وحسم الشيوعيون قرارهم بأن يكملوا انقلابهم على النميري بانقلاب حركة يوليو/تموز 1971 بقيادة الرائد هاشم العطا، وهو الانقلاب الذي دام ثلاثة أيام ليرجع النميري للسلطة، وينفّذ محاكمة صورية تنتهي بإعدام عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق.

بعدها، أعلن الحزب نضاله ضد السلطة الدكتاتورية في مقاومتها، غير أن نصف عضويته كان قد فقدها بعد أن اختارت الانحياز لنظام النميري باعتباره نظامًا اشتراكيًا، ومن هؤلاء فاروق أبو عيسى، السياسي المعارض المعروف. ودعا الشيوعيون للإضراب السياسي العام كأداة مجرّبة. ظل الحراك دؤوبًا حتى أفرز الانتفاضة الشعبية أبريل/نيسان 1985، ولكن كان الشيوعيون قد فقدوا تأثيرهم، فقد قام النميري بتدمير مؤسسة السكة الحديد، قلعة الشيوعيين الحصينة، بينما كانت النقابات المهنية تتساقط في يد الإسلاميين.

بعد انقلاب الإنقاذ، تعرّض الشيوعيون لحملة وحشية تصل إلى التصفية، فرّ بسببها عدد كبير من كوادرهم إلى خارج البلاد. وفي عام 1991، أصدر القيادي البارز الخاتم عدلان ورقة «آن أوان التغيير»، ينتقد فيها بوضوح الماركسية بعد أن فشلت في بلدانها، داعيًا لنهج جديد حتى في المسمى التاريخي للحزب.

بعد 40 عامًا من العمل السري ضد الديكتاتوريات المتعاقبة، عقد الحزب مؤتمره الخامس في يناير/كانون الأول 2009، وقد أعطى الثقة لسكرتيره محمد ابراهيم نقد، السياسي المعروف الذي كان سكرتيره مؤقتًا منذ إعدام السكرتير المُنتخب عبد الخالق محجوب. جدد هذا المؤتمر الحياة في الحزب وأروقته، ولكن محمد إبراهيم نقد لم يُعمّر طويلا بعد هذا المؤتمر، فتوفى بعده بأربع سنوات، وتولى سكرتارية الحزب محمد مختار الخطيب الذي تم التجديد له في مؤتمر العام الأخير في الصيف الماضي.

بشكل عام يمكن تلخيص القول بأن هذا الحزب له تاريخ ومساهمة حقيقية في الحياة السياسية السودانية، لكن أرهقته الديكتاتوريات والصراعات الفكرية والسياسية، وهو أحوج ما يكون لفتح باب الحوار الداخلي لمساهمة أكبر في الدور التاريخي الذي كان وما زال يمارسه.

ولعلنا نتساءل عن مستقبل الشيوعيين في السودان؟

إن السودان يحتاج إلى يسار قوي يلجم سلوكيات حكومة الإنقاذ ذات الطابع اليميني المتشدد المنحازة للأغنياء ولا تعبأ بآلام الفقراء، ولكن الشعب لن يتقبل يسارًا يمس معتقدات المجتمع وثوابته، خاصة أن مسألة الدين عند السودانيين حساسة جدا، وما لم يصلح الشيوعيون من خطابهم نحو الدين فلا مستقبل لهم في هذه البلد ذات الشعب المتدين.

والأمل في الحقيقة في إصلاح الحزب الشيوعي السوداني هو أقرب للوهم، أمل الشعب هو في الأصوات الشيوعية الجريئة أمثال الشفيع خضر التي خرجت لتدعو ليسار غير متعارض مع الإسلام، وهذا ما لم يتقبله كهنة المعبد الماركسي فقاموا بفصله من الحزب واتهموه بأنه إسلامي.

المراجع
  1. تاج السر عثمان 06/09/2016م : محطات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني "الحوار المتمدن "(1).
  2. عادل عبد العاطي 15/07/2016 : الاستاذ عوض عبدالرازق وضرورة رد الأعتبار (2).