خلال أول أيام تصوير الجزء الأول من العرّاب، كان المخرج الشاب فرانسيس فورد كوبولا، مختبئًا في الحمّام، هارب من الفوضى الحاصلة في موقع التصوير بالخارج. وقتها، سمع كوبولا من أحد الفنيّين في كابينة الحمام المجاورة، أن استوديو الإنتاج ينوي استبدال المخرج الحالي بآخر جديد، لأن كوبولا لن يستطيع تقديم شيء.

كان اختيار كوبولا في أول أجزاء فيلم العرّاب، لأنه مخرج بتكاليف قليلة، وصاحب الثلاثية كان في حاجة لأي عمل ينقذه من إفلاس شركة الإنتاج التي فتحها هو والمخرج جورج لوكاس، لم يكن هناك بديل عن النجاح في تصوير العراب وجعله أيقونة ومرجعًا سينمائيًا عظيمًا. في ذلك الوقت، كانت إحدى مسودات فيلم «the conversation» منتهية ومركونة بين مشاريع كوبولا المؤجلة بسبب الأزمات المالية.

قبل حادثة الحمّام في موقع تصوير العراب بسنوات، كان كوبولا يناقش أحد أصدقائه عن عمليات التجسس، وعندما أخبره صديقه عن التطورات التقنية التي توفرت في ميكروفونات المراقبة، حتى أن بعضها يمكن أن يفلتر الأصوات بين الزحام وفي الأماكن العامة، ومن خلاله تستمع إلى محادثة واضحة. تصور مفتتحي، دفع كوبولا ناحية مشروع كتابة جديد، بدأ من 1967 وحتى 1969 لينتهي من أولى مسودات سيناريو الفيلم الذي سيظهر في 1974 ويحصل على الجائزة الكبرى في مهرجان كان نفس العام. 

كيف تكتب عن شخص لا تستطيع أن تكونه ؟

في كتاب the godfather notebook يحكي كوبولا عن قصة كتابته، بالشراكة مع الروائي ماريو بوزو، سيناريو فيلم العراب. الأسلوب الذي اتبعه كوبولا كان قائمًا، بشكل أساسي، على التعاطي العاطفي مع الشخصيات، ومن خلاله استطاع أن يستقطع أجزاء كثيرة من الرواية المأخوذ عنها فيلم، وخلق شخصيات لا تُنسى. كذلك في إحدى أيقونات كوبولا السينمائية Apocalypse now، من خلال رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد، خلق فرانسيس حكاية سينمائية فارقة تقوم على شخصيات استثنائية.

عن كتابة فيلم المحادثة، يشير كوبولا في أحد حواراته  :

يجب أن أقول إن هذا المشروع بدأ بشكل مختلف عن الأشياء الأخرى التي قمت بها ، لأنه بدلاً من البدء في كتابته من خلال شيء عاطفي- الهوية العاطفية للأشخاص الذين أعرفهم- بدأته كنوع من الأحجية ، وهو ما لم أفعله من قبل ولا أعتقد أنني سأفعله مرة أخرى. لقد بدأت الكتابة بمفهوم وليس بشخصية. وكان ذلك مصدر صعوبة كبيرة بالنسبة لي، ووجدته مزعجًا لأنني لم أشعر أبدًا بأي شيء تجاه الشخصية. لكنني أعتقد أنه من الأسهل بالنسبة لي كتابة الشخصيات، سواء ما أتذكره من الأشخاص الذين أعرفهم أو تلك التي تستند إلى حد ما على مشاعري. لا أستطيع أن أتعلق بهاري؛ لا أستطيع أن أكونه،  لذلك حاولت إثراءه.

التقط كوبولا جملة دارجة في حوار مع صديق، تتعلق بالتطور الحاصل في أجهزة التنصت، حتى في الأماكن العامة، وقدرة بعض الميكروفونات على فلترة الأصوات. من هنا جاء استنطاق حكاية يمكن حكيها في بضع دقائق، بسهولة، لكن التعبير عنها بصريًا، جعلها حكاية فارقة، توقف المشاهد عند ذروتها داهشًا لأجل التحول المفاجئ، والذي تأتّى من خلال نفس الحدث المتكرر، وليس من خلال حدث جديد.

أتخيل كوبولا وهو يكرر جلساته التحضيرية لكتابة العمل خلال سنتين مليئتين بالأزمات المادية والفشل السينمائي، ما بين 1967 و1969، تدفعه حالة الكتابة من قلب الأزمة إلى النظر للحكاية التي يحاول خلقها بصورة مميزة، مع اعتبار ضرورة أن تكون تكلفة الإنتاج قليلة، ليحظى الفيلم بفرصة الظهور. لذلك لعب كوبولا لعبة بسيطة. عادة، يكون الاهتمام أكثر في الحكايات التي تحمل طرفين، أحدهما واقع تحت سلطة ما، على الطرف الواقع تحت وطأة هذه السلطة، ما فعله كوبولا هو عكس هذه الثنائية، ليس من خلال طرفيها فقط، ولكن من خلال معطيات كل طرف، ومدى قدرته، وتوهمه بالقدرة على تحريك هذه السلطة لصالحه، ولصالح التخلّص من عبء أخلاقي ما.

يبدأ فيلم المحادثة بمشهد متلصص على ساحة سان فرانسيسكو، أشخاص كثيرة تقف هنا وهناك، ثم تقترب الكاميرا بعد دقائق على هاري، الذي لم نعرف عنه شيئًا بعد، لكن انتقاءه من بين المجموعات المنتشرة في الساحة، والنظر إليه من خلال عين مجازية تتبعه، يعطي انطباعًا مبدئيًا بالتلصص، لأنها تحمل شيئًا بداخلها.

جين هاكمان في دور  هاري من فيلم The Conversation 

خلال النصف ساعة الأولى من الفيلم، ندرك، بشكل واضح، أن شخصية هاري تفصل نفسها عن عالمها المحيط. تقف في مساحة آمنة من كل شيء حولها، تتلحف بالإنكار والصمت، كل هذه التنويعات المضافة إلى شخصية هاري تخلقها قدرة الكاميرا النافذة على التتبع، ووضعه في أكثر من كادر يقحمه في عالم يهرب منه، ومع توزيعات الظل والضوء، يتحول هاري، وإنكاره معه، إلى جزء فاعل من استيعاب الصورة المتتابعة على الشاشة. كأن فعل إنكاره، وقدرته على المناورة بالصمت والإنكار، جزءان أساسيان من إمكانية المشاهد على قراءته في العلاقة معه عالمه الصغير.

ثمّة إشارات سريعة، يشوّش عليها كوبولا في الفيلم من خلال تجاهلها المتعمد، لأنه عمل خلال تصويرها على إيهام المشاهد بأنها مشاهد تقليدية، عابرة، لا تثير الكاميرا، مثل المشهد الذي يدخل فيه هاري إلى شقته المستأجرة ويفاجأ بأن أصحاب العقار تركوا له هدية بمناسبة عيد ميلاده، ينسى أمر الهدية ويتصل بالمالكين، ليعترض على امتلاك أحد غيره مفتاح لشقّته، ويشير إلى أن شقّته ليس بها شيء مهم يذكر، ولا يهمه سوى أن يتمتع بخصوصية امتلاك مفتاح وحيد لشقّته.

مع موازة الأحداث البسيطة السابقة للمشهد المذكور، يتوهم المشاهد بغياب القيمة في حياة هاري، إلا أن الشيء المهم فعلًا، هو الفزع من غياب الخصوصية، خصوصًا بالنسبة لشخص يجيد أن ينزع خصوصية الآخرين، بل هي عمله الذي يشكّل حياته.

مناورات السلطة

يمتلك هاري، رجل أربعيني، مكانًا في قبو أحد الأبنية، يصنع فيه أجهزة التنصت بنفسه، يعمل لصالح بعض العملاء للتجسس على أشخاص آخرين، مسؤوليته تسليم أشرطة عليها تسجيلات مهمة مقابل ثمن يتم الإتفاق عليه. مهمة هاري في الفيلم هي تتبع شخص وعشيقته، لصالح مديرهما في الشركة، وهما يترجلان في ساحة سان فرانسيسكو بين الجماهير، هروبًا من إمكانية مراقبتهما والتنصت عليهما. رغم أن هاري ينجح في انتقاء أصواتهما من بين الجمهور، تقلقه جملة مهمة اكتشفها «سيقتلنا إذا أتيحت له الفرصة» وتصبح هذه الجملة هي همّه الأخلاقي\ الديني، بين رغبته في العمل بدينامية متجاوزة للبعد الأخلاقي، وامتناعه عن تسليم الشرائط خوفًا من تعرّض المراقبين للموت.

خلال أحد حوارات هاري الحادة مع مساعده، يخبره أن الأمر لا يتعلق خلال التجسس بأي بعد إنساني، المهم في الأمر كله هو الخروج بتسجيلات مهمة. يمثّل ذلك الرأي أحد أبعاد شخصية هاري المهمة، وهي ملكية السلطة في اقتحام حياة الآخر، ومحاولة تسليعها لتصبح أداة للربح، مع تجاهل أي تبعات أخلاقية للتنصت. من ناحية أخرى، يشعر هاري بالذنب، من خلال كاثوليكيته القائمة على الخزي، قبل أن تقوم على رغبة الإيمان، بأنه يسبب لأشخاص آخرين أضرارًا كبيرة، وفي أحد المشاهد يعترف في الكنسية بذلك الشعور، إلا أنه في الوقت نفسه، ينفي مسؤوليته عن تبعات عمله.

أحد بوسترات فيلم The Conversation 

يشير كوبولا إلى أن فكرة الفيلم الأساسية، حينما أراد أن يضع لها مرجعًا مفاهيميًا، تعود إلى أول أشكال المراقبة والتجسس، وهي طقس اعتراف في البوذية والمسيحية «الاعتراف كان أحد الأشكال الأولى لانتهاك الخصوصية- أولى أشكال المراقبة». لكن كوبولا يماثل أداة السلطة القادرة على نزع ذلك الاعتراف في شخصية هاري.

حينما يمتنع هاري عن تسليم الأشرطة، تتحول سلطته المعتادة التي اختبأ وراءها إلى نشاط عكسي يهدده تبعاتها. في أول زياراته للمدير لتسليم الأشرطة، يأخذها منه أحد المساعدين، يرفض هاري ويأخذ الأشرطة ويرحل، وفي طريق خروجه من الشركة، يشاهد الشخصين اللذين يراقبهما، وفي كل دور يهبط خلاله يرى مساعد المدير يقف في انتظاره، كإشارة الرجوع عن قراره بالاحتفاظ بهذه الأشرطة، لكنه مع كل ذلك يعود بها.

تتحول عوامل اختباء هاري السلطوية إلى أدوات، تقوم بتعرية هشاشته مرحلة وراء الأخرى. حينما يستضيف زملاء المهنة عقب حفلة ليلية في مقر عمله، يمازحه أحد زملائه بالتجسس عليه من خلال قلم بداخله مسجّل صغير، يتمثل غضب هاري في ذلك المشهد، كنموذج لتحقق خوفه من التعرض للتتبع، لأن يكون أحد النماذج التي يشعر تجاهها بالخوف والذنب والشفقة.

يعتبر النصف الثاني من الفيلم، تحول في موازين أطراف الحكاية، يصبح الطرف المعرّض للخطر هو الطرف الفاعل له، وهو ذاته الطرف الذي تمادى هاري في حدود وظيفته، خوفًا من تبعات التجسس عليه. يجد هاري  نفسه أمام احتمالات وهمية، يتوقع شيء، ويفاجأ بضده، حتى ينتهي أمام ضحية واحدة، وهي ذاته العارية أمام كل القراءات الذهنية الخاطئة.

يبدأ هاري أحد مشاهد الفيلم الافتتاحية وهو يعزف على الساكس فون، على أريكة جميلة وفي منتصف شقته المنظمة، وينتهي بنفس الأداة وهو يعزف، في زاوية شقّته الخربانة، بعدما دمّرها بحثًا عن أي شيء مدسوس للتجسس عليها.

انتقل هاري من شخص ممتلك لسلطة ما، أو أداة فاعلة في تحقيقها، إلى شخص منزوع القدرة على توقع أي شيء، أو احتمال صحّة قراءته الذهنية للحدث، لينتهي عند نفس موقع الأشخاص الذين كان يشعر تجاههم بالشفقة والذنب. بعد فقدان ما تبقى من إيمانه الهش، يصبح هاري في واقع بعيد، عن أسوأ السيناريوهات المتخيلة في رأسه حول إحدى ضحايا عمله.

كيف يخلق التكرار حكاية مركّبة ؟

لأن كوبولا لم يجد مساحة للتعاطي العاطفي مع سردية الفيلم، عمل على خلق مرجعيات أدبية وسينمائية، بجوار البحث النظري. تأثّر كوبولا في تحضيره للفيلم برواية لكاتبه المفضل هيرمان هيسة، ومن خلالها استطاع أن يخلق شخصية قادرة الانتقال المتوتر بين الانفصال\الهروب من العالم. بالنسبة لحبكة الفيلم الأساسية، اعتمد كوبولا على فيلم blow up  للمخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني. يحكي فيلم أنطونيوني عن مصوّر يلتقط صورة لعشيقين صدفة، ثم يفاجأ بعد ذلك بوجود طرف ثالث يختبئ بمسدس وراء الأشجار في الصورة.

رغم وجود مؤثرات مرجعية، لعب كوبولا على سردية أصيلة، مختلقة بحرفية وحساسية بديعة في الكتابة، وهي اختبار جودة الحكاية وتعدد أبعادها من خلال التكرار. لنتخيل مثلًا، أن هناك مشهدًا بسيطًا، يحكيه عدّة أشخاص بالتتابع، كل واحد يحكي عن كيفية رؤيته وتناوله المشهد بصورة شخصية. يقوم فيلم المحادثة على أسلوب مقارب، ولكن بأدوات تقليلية أكثر، وهي أن يتم تقديم الحكاية بكل احتمالاتها، الحقيقية والوهمية في رأس شخص واحد فقط، ثم يتجلى الحدث الأخير في النهاية، وتظهر معه كارثة، وثمن التوقعات الخاطئة على شخصية هاري.

ولأن هاري شخص غير متكلم، كتوم دائمًا، مع اعتبار أنّه الشخصية الأساسية في الفيلم – جميع الشخصيات الأخرى يشار إليها بأسماء، وأحيانًا تبدو هيئاتها فقط من دون أي ذكر- حاول كوبولا أن يخلق أدوات حكائية بديلة عن الحوار.

كان هناك «محرر للصوت» ضمن فريق كوبولا، مسؤول عن تحرير ومراجعة وتضمين شريط الصوت مع  مشاهد محددة في الفيلم. لعل استخدام كوبولا لشريط الصوت كحكّاء بديل، أضفى حالة من ضرورة الانتباه، ثمّة تشويش يستحيل إلى جملة تفتح أبعاد، وتوقعات جديدة لمسار الفيلم. جميع الأدوات من موسيقى تصويرية وكادرات تعبيرية وشريط صوت وحتى الألوان، تتفاعل بسرعة مع أفكار هاري، حينما يستعيد في كل مرة الجمل القليلة التي سجّلها، ويتم استعادتها بصريًا وصوتيًا على مدار الفيلم، تبدأ كحقيقة، ثم توقّع محتمل، وتظل تنتهي إلى مجرّد تخيلات، حتى تتجلى الحادثة الحقيقية ضد لكل توقعات هاري. كأن الفيلم يلاشي نفسه، المشاهد السابقة والصوت وكل شيء يصبح ليس أكثر من توقع لم يتحقق، ومع ذلك، تظل هذه “الهواجس” مادة قيّمة، وحاضرة في ذهن المشاهد رغم نفيها.

فرانسيس فورد كوبولا يمين الصورة أثناء تصوير فيلم The Conversation

فيلم المحادثة هو واحد من أفلام كوبولا القليلة التي تحتفظ بسياقها الخاص، بعيدًا عن كل أفلامه، ربما بسبب توقيت وظروف كتابته، وبسبب أنه كان يعمل عليه بإمكانيات شحيحة، تكلفة الفيلم لم تتجاوز 1.4 مليون دولار، وهي تكلفة قليلة جدًا بالمقارنة مع فيلم الجزء الأولى من العراب، كانت ميزانيته حوالي 6 ملايين دولار.

خلق كوبولا فيلم ممتد، مفعم بتجاور المفهوم مع الزخم العاطفي عند شخصيّة تراوغ ذاتها، وحكاية تطوي – من خلال تعامل مرن مع الحكي- بداخلها أفكار حول  السلطة وتبعاتها، وحول انتهاك الخصوصية في العالم الحديث ولمحات حول جذوره العقدية، وأخيرًا، حول كارثية الاحتمال الخطأ. فإنك عندما تفكر في شيء فارق وخطير، وتندفع بالحدس إلى تتبع الحقيقة، فإنك بنفس الاحتمال، تندفع إلى تتبّع الكارثة أيضًا.