ما أن يهل شهر رمضان حتى تنقلب حياة المصريين رأسًا على عقب، فالشهر الفضيل يصطحب معه، بجانب روحانيات الصيام والعبادة، كومة من العادات الرمضانية التي تجذَّرت في وجدان وادي النيل، على مدى عقودٍ وعقود من اعتناق أهل مصر الإسلام، واختلطت بطينة أرضه ومياه نيله وباتت جميعًا كُتلة اجتماعية واحدة.

هذا «الانقلاب الحياتي» الذي يُصيب المصريين 30 يومًا لا تقف حدوده عند المسلمين وحسب، وإنما تمتدُّ إلى الأقباط أيضًا، فهم وإن لم يُشاركوا المسلمين الدين إلا أن مشاطرتهم إياهم الأرض والحس الشعبي أجبرتهم على أن ينالوا «من الحبِّ جانبًا».

فما هو مقدار «جانب الحب» الذي يناله أقباط مصر طوال رمضان؟ وكيف تتغيَّر حياتهم خلال أيام شهر المسلمين المُقدَّس؟

يعتبر القمص بولس عوض كاهن كنيسة العذراء، المسئول عن بيت العائلة بالإسكندرية، التابع لمشيخة الأزهر، أن أجواء رمضان مختلفة بمصر عن أي مكانٍ آخر في العالم بفضل «المشاركة الحقيقية» التي تتم بين المسلمين والمسيحيين طول الشهر.

فمصر «بلد الخير والمحبة والسلام» تشهد أرضها تعاونًا على تعليق الزينات والفوانيس وتبادل الزيارات وحضور موائد الإفطار. ويضيف: «على فكرة كلمة فانوس كلمة يونانية تعني مصباح، ولذلك تجد اسم فانوس من الأسماء المسيحية».

ومن جانبه، يقول جون بنيامين: «طبعًا كمصري لازم أكون شايف رمضان بتاعنا غير أى رمضان في بلد تانية.. حاجة من طبع البلد دي وروحها وريحتها، مش لازم تكون مؤمن بيها عشان تحبها، بتحب فيها الطعم المصري والعِشرة والخير مع اللي بيمارسوا طقوسها».

ويعتبر جون أن مجرد رؤيته لجاره يحتفل كفيل بأن تنتقل إليه «عدوى الفرحة»، موضحًا «فرحان لفرحته وفرحان معاه».

كما يبدي جون إعجابه بالحالة التي تكون عليها مصر خلال الشهر الفضيل «تلاقي البلد مزقططة كده حتى لو فيها مليون هم، المصالح الحكومية من غير ريحة تدخين، حاجة تفتح النفس.. حتى الحلويات بيبقى طعمها أحلى من طول السنة».

ويرى أن رمضان هو الشهر الأفضل لـ «اللمة»، فمن الممكن أن تمر الأيام طوال العام كله ولا نجد أسبابًا لنتجمَّع حول مائدة واحدة، وهو ما يتوفَّر بسهولة في رمضان.

يضيف: «تصدَّق حتى لو ملكش أي حد، امشي في الشارع وقت الفطار، هتلاقي واحد متعرفوش ولا تعرف ديانته بيحلف عليك إنه لازم يفطرك».

وعندما سألنا كلاًّ من يوستينا رأفت وتوماس شحاتة عن انطباعاتهما الرمضانية لم تختلف آراؤهما كثيرًا عن جون.

قالت يوستينا مازحة: «أنا يحيا الهلال مع الصليب جدًّا. وببقى طول الشهر معزومة عند أصحابي، ناهيك عن إني بشترك مع مجموعة من صحابي في تحضير وجبات إفطار للناس في الشارع وبنوزعها».

وبالمثل قال توماس: «بالنسبة لي أنا بستنى رمضان من السنة للسنة»، مضيفًا: «وأنا صغير كنت بفرح جدًّا بفانوس رمضان، وكنت فاكر إنه لكل الأطفال مش للمسلمين بس».

ويضيف توماس، في أول حديثه عن بعض الجوانب السلبية التي يتعرَّض لها بسبب «الأجواء الرمضانية»: «لما تروح تخلص حاجة في مصلحة حكومية، والموظف الصايم بيتعامل بخنقة كده، يا عم أنتَ صايم لنفسك ولربك مش عشان تطهق الناس».

يتابع توماس قائلًا إنه يرغب أحيانًا في شرب بعض الماء في الشارع بدافع العطش، وبالرغم من أنه يقوم بما يلزم كي لا يُثير مشاعر الناس؛ «باخد جنب وبتأكد إني واقف لوحدي عشان أشرب براحتي»، وبالرغم من ذلك تُلاحقه نظرات الغضب من الناس وهو ما لا يجد له مبررًا «يا سيدي أنا هموت من العطش، مشربش ليه؟!».

 وفي هذه الجزئية تحدث كيرلس مجدي لـ«إضاءات» بطريقة أكثر تحديًا، فاعتبر أن المسيحيين الذين لا يأكلون الطعام في الشارع طوال نهار رمضان، لا ينبع هذا فقط من احترامهم لطقوس الصيام، وإنما خوفًا من تعرض المتشددين لهم.

يضيف كيرلس: «مش مقتنع إني ما أكلش في الشارع عشان خاطر الناس صايمة، لا أنا باكل عادي واللي بيكلمني بهبّ فيه، واللي مش قادر يصوم ميصومش». ثم يختم بالسؤال: «هل ينفع أطالب الناس متتجوزش لأني أعزب؟ هل حد في فترة صيام المسيحيين بيمتنع عن الأكل قدَّامهم؟!».

وعن أبرز التغيرات التي تحدث في حياة الأقباط خلال رمضان: هي السهر في متابعة المسلسلات، خاصة مع تأخر مواعيد فتح المصالح الحكومية، وفيه بعض المسيحيين بيستغلوا فترة انشغال المسلمين بالإفطار في المغرب «عشان ينزلوا يتمشوا في الشوارع الفاضية»، أو «يروحوا المصيف -لو رمضان جه في الصيف- لأن الحجوزات وقتها بتبقى في أقل مستوياتها».

يؤكد ذلك توماس بقوله: «الموضوع عامل بالظبط زي الناس اللي ملهاش في الكورة وتطلع الشوارع الفاضية ساعة ماتش للمنتخب أو الأهلى والزمالك.. فيه مسيحيين بيحبوا يستمتعوا بالشوارع أو البحر مثلاً مستغلين إن كل الناس في بيوتها».

كما يضيف كيرلس: «البنات المسيحيات بيقابلوا مشاكل كتير قوي في رمضان، وخاصة في فترة الصبح، تكررت بعض الحوادث عن بعض المتطرفين بيرموا مية نار على المسيحيات عشان شعرهم في نهار رمضان، وبينتج عنها إن فيه نسبة كبيرة بيخافوا ينزلوا في نهار رمضان»؛ شرح كيرلس أن تلك الحوادث لا تسجل رسميًّا لأن هؤلاء البنات لا يتقدمن ببلاغات رسمية نظرًا لأن الفاعلين يكونون غالبًا مجهولين، علاوة على حساسية البلاغات من هذا النوع.

وهنا يدخل أيمن سليمان خلال حديثه لـ«إضاءات» على خطِّ «المضايقات الرمضانية» التي تعرَّض لها هذا العام، قائلاً: «مرة واحد تفّ عليا أنا ومراتي، وقال أستغفر الله العظيم في الشارع عشان مراتي مش محجبة، ومرة واحد تاني هددنا بالقتل بردو عشان كنت ماشي معاها».

ويضيف أيمن سليمان: «ده غير المسجد اللي بيصحى بنتي الساعة من الساعة 2.30 صباحًا من صوت الميكروفونات العالية، ولو طلبت صنايعي لازم يجيلك متأخر جدًّا، يمكن بعد نُص الليل لأنه مش بيبدأ شغله غير بعد الفطار، وده شيء بالنسبة لي سلبي؛ لأن عندي طفلة، ومش هتعرف تنام من صوت الشنيور».

لم يعش أيمن -المقيم في قرية بسوهاج- أجواءً احتفالية كُبرى برمضان كسابقيه، فيقول موضحًا: «عُمري 29 سنة مفيش ولا مرة حد عزم أهلي، وفي عيد القيامة محدش بيقول كل سنة وانت طيب؛ الخلاصة هنا إن البيئة حادة جدًّا.. الفقر مخلِّي المحبة قليلة». وأنهى كلامه: «يمكن الحاجة الإيجابية الوحيدة إني بروح الشغل تسعة، وبمشي واحدة».