تداخلت المجالات التي انشغل بها المسلمون مع الفلسفة، فامتزجت الفلسفة بالدين وببعض الاتجاهات الأخرى التي لم تنفصل عنه بطريقة أو أخرى، مثل الكلام والتصوف والعلوم، ومن ثمّ كانت الحاجة إلى المرور سريعًا على بعض أوجه إشكاليات العلاقة بين تلك المجالات والفلسفة.


الــحــركــة الــكــلامــيــة والممارسة الفلسفية

سبق الذكر أن “أرنست رينان” رأى أن الحركة الفلسفية الحقيقية في الإسلام ينبغي أن تُلتمس في مذاهب المتكلمين. وهنا يقصد من حيث الأصالة غالبًا، حيث إنّ «علم الكلام» ظهرت بذوره مبكرًا عن حركة الترجمة للتراث اليوناني، وتطور بمنأى عن الفلسفة وبتداخل معها، وهو يختص بالبحث في أصول الاعتقاد بالعقل سواء من حيث إثبات العقائد بالأدلة العقلية، أو من حيث الرد على الخصوم ودرء «الشبهات» المُثارة نتيجة الأحداث السياسية والاختلاط بأهل الملل الأخرى. لكن السؤال هل يدخل في نطاق الفلسفة؟، هل يمكن القول بأنّ علم الكلام أحد أشكال التفلسف عند المسلمين؟، والإجابة هنا حسب تعريف معنى «التفلسف»، فإن كانت الفلسفة هي البحث في الموجودات وحقيقتها بطريق البرهان والنظر العقلي؛ فإنها تشترك مع الكلام في آلياته. أما إن كان أحدهم يرى أنّ الفلسفة يجب أن تبحث في الوجود متحررة من النصوص الدينية المُسبقة فربما يعترض على إدراج الكلام ضمن الفلسفة، رغم أنّ ذلك أيضًا من المفترض أن يكون ماهية الكلام، إذ إنّه يقوم على طريق الأدلة العقلية وليست الشرعية – وقد يرى البعض الجمع بينهما-، إنما قد يعترض المعترض أنّه لإثبات ما في النص الديني أصلًا أو الدفاع عنه.

الحركة الكلامية سابقةٌ على الممارسة الفلسفية للمسلمين، وتتفق معها جزئيًا في النظر في الموجودات وأدوات العقل، وتتخلّف عنها في الإنتاج المعرفي.

وأيًا يكن الأمر، فلا شك أنّ الحركة الكلامية تمخضت عنها واحدة من أهم ملامح ممارسة التفكير العقلي في الإسلام، وأثرت المدارس الكلامية التراث العقلي الديني والفلسفي. وقد كانت هناك عوامل داخلية وخارجية تسببت في نشأة الكلام، منها الخلاف السياسي حول الإمامة، والخلاف الديني حول بعض النصوص الدينية، وقيل إنّ من أوائل المسائل الاعتقادية التي أُثيرت «القدر»، ومن العوامل الخارجية التقاء الجماعة الإسلامية بالحضارات والديانات الوافدة عليهم، ثمّ أخذ في التطور لبعد حركة الترجمة، وارتبط بالمنطق. وانشغال المسلمين بالكلام نابع عند بعضهم من أنّ القرآن نفسه قد انشغل بالعقائد والنبوات والرد على المخالفين من أهل الشرك أكثر من اشتغاله بالأحكام، وفي هذا يذهب الفخر الرازي إلى أنّ الآيات الواردة في الأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية، أمّا البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة، والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين.

والأهم هنا ليس التطرق إلى تاريخ الكلام ومدارسه بالطبع، بل إثارة التساؤل هل علم الكلام فلسفة؟، وفي ذلك يرى الدكتور صلاح رسلان: إنه لما حدث المزج والاختلاط بين موضوعات الكلام وموضوعات الفلسفة، خصوصًا عند متأخري المتكلمين، ثارت مشكلة موضوع علم الكلام: فقيل هل يشمل الكلام موضوعات الاعتقاد فقط بغية إثباتها، أم يشمل أيضًا الوسائل المؤدية إلى هذا؛ كفنون البحث العقلي والدليل المنطقي؟، وقد اختلفت الآراء حول هذه المشكلة:

بعض العلماء كابن خلدون، يقرر الفصل بين الكلام والفلسفة من حيث الموضوع والغاية والمنهج، وضرورة حذف موضوعات الطبيعيات والإلهيات من نطاق الكلام لعدم حاجته إليها.

وهناك بعض المتكلمين، مثل عضد الدين الإيجي، الذي يذهب في كتابه (المواقف) إلى القول بإنّ المنطق جزء من الكلام، وعلم الكلام عند الإيجي يشتمل معًا على العقائد وكل ما يعين عليها كموضوعات المنطق ومباحث الحال والوجود وغيرها.

وترى طائفة أخرى أنّ حاجة العقائد إلى المنطق ليس باعتباره جزءًا من علم الكلام، بل باعتباره علمًا قائمًا بذاته، وأنه خادم العلوم.

ويرى الدكتور إبراهيم ياسين في كتابه (مدخل إلى الفلسفة الإسلامية) أنه من الخطأ الظنّ أنّ الكندي أول من تفلسف من العرب، فإنّ كل محاولة كلامية سابقة عليه تُعد بداية للتيار الفلسفي الإسلامي، والنظام وأبو الهزيل العلاف هما من المتكلمين والمعتزلة الذين قدموا نسقًا فلسفيا متناسقا سابقًا على الكندي.

وواقع الحال يُظهر أنّ التفاعل موجود بين الفلسفة والكلام والمنطق بلا شك، وأنّ اشتغال المسلمين بالكلام فيه أصالة، وأن لو كانت هناك أزمة، فإنها ليست أزمة الأصالة، ولا أزمة هل الكلام تتضمنه الفلسفة، أم هو مستقل عنها؟، بل الأولى بالبحث والتساؤل: ما الذي حققته الحركة الكلامية للعالم الإسلامي على الصعيد الإبستمي المعرفي؟، هل حرّرت الفرق الكلامية العقل من قيود المرجعية النصيّة، أم دارت في فلك النص؟. وأيًّا تكن الإجابة فالكلام نفسه اشتغل به المدافعون عن العقيدة التي أتت بها النصوص، وكانت طريقتهم استعمال الأدلة العقلية والمنطق والجدل، لكن هذا وإن كان يشير إلى أن الحركة الكلامية أصولية، حتى أنّ من أسماء علم الكلام «أصول الدين»، إلا إنّه لا يمنع أبدًا أنّ الحركة الكلامية قد أكسبت العقل الإسلامي مرونة.


هــل التصوّف فــلــســفــة؟

إثارة ذلك التساؤل أيضًا ينبغي للإجابة عنه تحديد معيار «الفلسفة»، فهل هي النظر بعين العقل والاستدلال والبراهين المنطقية فقط، أم أنّ كل تصور عن الوجود والعالم يجمع أنماطًا عقلية وروحية يُعد فلسفة؟. هل الفلسفة تقتصر على الدليل البرهاني، أم أنّ الإشراق والعرفان والغنوص والتصوف فلسفات؟.

إن «حب الحكمة» بمعنى الفلسفة اللغوي الأقرب قد يكشف لنا أنّ الحكمة قد تُطلب بطرق عدة، سواء بالطرق الاستدلالية البرهانية، أو الطرق الصوفية، أو حتى الدينية النصيّة. لكن هل أي طريقة لطلب الحكمة تُعد فلسفة؟، هذا هو الإشكال، وذلك الإشكال ربما هو الذي أظهر مصطلح «فلسفات دينية» ليدل على بعض المعتقدات مثل الكونفشيوسية، وربما هذا المصطلح يمكن أن يكون الأقرب للمدارس الصوفية.

والمتصوفة في الإسلام منهم من كان على طريق التصوف السُني، الذي لا يخرج عن النص الديني ويتمسك بالأصول التي يتوافق عليها أهل السُنة، وهناك التصوف الفلسفي الذي منه وحدة الوجود، والحلول والاتحاد.

يرى الدكتور إبراهيم ياسين أنّ هناك العديد من الفروق الواضحة بين الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي، كما أنّ هناك فروقًا بين المتفلسف أو الحكيم المتألّه والصوفي؛ فالفلسفة تنظر بعين العقل وتجري على طريق الاستدلال والبراهين المنطقية والعقلية، وموضوع الفلسفة معرفة حقائق الأشياء سواء كانت طبيعية أو رياضية أو ميتافيزيقية، وأنّ الفلسفة الإسلامية تقوم على أساس من الدين وتركن إلى الجانب الروحي. أمّا التصوف الإسلامي فيسلك طريقًا روحيًا يعلي من شأن الروح ويُرجع جميع الآفات إلى البدن، لكنّه أيضًا يخوض في نظريات كالعلم الإلهي والمعرفة اللدنية، ومسائل كالماهية والوجود، والعلم بالكليات والعلم بالجزئيات ومراتب الوجود، وهذه مسائل فلسفية تجعل من الصعب أن تكون هناك فروق حاسمة بين التصوف والفلسفة.

ويرى الدكتور صلاح رسلان أنّ من أرباب التصوف السني «الغزالي» الذي لم يقبل من التصوف إلا ما كان متماشيًا تمامًا مع الكتاب والسُنة، وراميًا إلى الزهد والتقشف وتهذيب النفس وإصلاح أخلاقها، وأنّ الغزالي قد عمّق الكلام في المعرفة الصوفية، وحمل على مذاهب الفلاسفة والمعتزلة والباطنية؛ ومن هنا خالف الغزالي تصوف الحلاج والبسطامي في الطابع.

ويذهب بعض الباحثين إلى أنّ التصوف قد تأثّر بمصادر أجنبية خصوصًا مذهب الأفلاطونية المحدثة، والفلسفات الدينية الهندية. لكن لم يكن عدوًا للعقل أو اتجاهًا مضادًا له بالمطلق؛ فالتصوف أصبح مزيجًا من الاستدلال المعتمد على العقل بجانب المسلك الروحي، فمثلا يقول نصير الدين الطوسي «وبالجملة فإنّ جميع العلوم اليقينية مبنية على الوقوف على حقائق المعقولات التي هي تصوراتها حتى تأتي التصديقات المبنية عليها». ولم يتوقف كل من الطوسي والصدر القونوي عند حد استخدام الأساليب المنطقية كالاستدلال والقياس والاستقراء، وإنما طورا أسلوبًا للتعبير مرتبطًا بمستويات التعبير اللغوي، ومراتبه، ومحتواه العرفاني والكشفي.

وإن يكن هنا من إشكالية فهي إشكالية التصوف بشكل عام وليس التصوف الإسلامي بشكل خاص، فالتساؤلات التي ينبغي أن تُطرح: هل التصوف يتسم بالذاتية والتجربة الشخصية، أم يسلك طريقة موضوعية يمكن البرهنة بها على ضرورة سلك مسالك الصوفية؟، هل هو مجرد تجربة روحية تسمو بالنفس الإنسانية، وتستعمل اللغة بطريقة مجازية وتحاول أن تدعو إلى الزهد والحب والتصفية، أم مجرد هروب من قصور العقل – في نظر البعض- أن يستدل باستقلالية على الحقائق الدينية والمعضلات الميتافيزيقية؟

وفي ظنّي أنّ التصوف هو أشبه بالفلسفة الدينية أو الفلسفة الروحية، فالتصوف الفلسفي هو أحد أشكال النظرة الفلسفية للوجود، إلا أنّه من الصعب أن أجد فيه الموضوعية. فالذي يميّز التصوف هو التجربة الذاتيّة؛ إذ لا أظنّ أن يستطيع بعض العارفين أن يقنع الآخر بطريقته إلا أن يكون لدى المتلقي الإرادة وإمكانية خوض التجربة بنفسه للوصول بذاته إلى المنشود.


الــعـــلــــوم والمعرفة التجريبية

يخوض التصوّف الإسلامي في نظريات ومسائل فلسفية، تصعّب على البعض إيجاد فروق حاسمة بينه وبين الفلسفة.

اشتغل الفلاسفة المسلمون بالعلوم كما الحال مع الفلاسفة القدامى، حيث كانت الطبيعيات من مجالات الفلسفة، فكانت فنون الطب والكيمياء والهندسة، وفي هذا الجانب اتفق العديد من الباحثين على أهمية الإسهامات العلمية التي أسهم فيها علماء المسلمين.

يقول فون كريمر «إنّ أعظم نشاط فكري قام به العرب يبدو لنا جليًا في حقل المعرفة التجريبية ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم؛ فإنّهم كانوا يبدون نشاطًا واجتهادًا عجيبين حين يلاحظون ويمحصّون، وحين يجمعون ويرتبون ما تعلّموه من التجربة أو أخذوه من الرواية والتقليد».

شهدت المجتمعات الإسلامية قديمًا، انشغالاً مطرّدًا بالطبيعيات والمعرفة التجريبية كمجالات فلسفية، بعكس الأزمة المعرفية والأيديولوجية القائمة لدى نظيرتها المعاصرة.

والإشكالية هنا في رأيي قد تكون أخفّ من الإشكاليات التي أثارتها الإلهيّات وغيرها من مجالات البحث؛ إذ في المجتمعات الإسلامية لم نر رفض الانشغال بالعلوم الطبيعية إلا من بعض القلة في بعض المسائل وليس كلها بالمطلق، وربما لأنّ النصوص الإسلامية في مجال الطبيعيات لم يكن فيها ما هو قطعيّ الدلالة مما يناقض الاكتشافات أو النتائج العلمية؛ فلم يحدث مثلما حدث من كنيسة القرون الوسطى تجاه بعض العلماء فيما يخص مجال الطبيعيات خاصة، وليست الإشكالية أيضًا هل زاد المسلمون في مجال الطبيعيات على اليونان أم لا، فالباحث يجد العديد من المسائل التي خالف فيها المسلمون سابقيهم في هذا المجال.

وإن يكن هناك من أزمة في مجال العلوم فإنما تظهر أكثر في العصور الحديثة بعدما تبلور العلم الحديث وانفصل عن الفلسفة، أو بالأحرى أعاد هيكلة علاقته بها، فنرى مثلا الأزمات التي أثارتها نظرية التطور في العالم الغربي قد انتقلت إلى العالم الإسلامي، وسارع العديد من الأصوليين إلى رفضها بشتى الطرق، حتى أنني أذكر قراءتي مقالًا يحاول «نقض» نظرية التطور بما أسماه «العقل المجرد» بنفس طريقة السجال الكلامي والمنطق الصوري!.

إذن لو دققنا النظر لوجدنا أنّ الأزمة أيضًا هي أزمة معرفية وأيديولوجية؛ حيث إنّ العقل الإٍسلامي العربي في معظم أحيانه في الوقت الحاضر ما زال لا يقدر على الفصل بين حقول المعرفة، ولا يقدر غالبًا على البحث الموضوعي بمنأى عن الأيديولوجية والتي يمكن إن فعل ذلك -أعني البحث العلمي المنهجي الموضوعي- لتوصّل إلى المعرفة بلا شوائب، ثم يمكنه -إن أراد- أن يلجأ إلى تأويل النصوص التي يجد بعض التعارض الظاهر بينها وبين بعض النظريات العلمية، بشرط ألّا يُلبس معتقده الشخصي الفلسفي أو الديني لباس العلم ويقدمه على أنّه علم مجرد.