تختلف الروايات التاريخية على تحديد توقيت محدد لظهور القهوة أو متى تعامل كمشروب منشط، لكن الرواية المُرجحة أكثر أن انتشار ظهور هذا المشروب من منشئِه الأصلي في شرق أفريقيا تم عن طريق اليمن، التي يعدها المؤرخون المصدر الأساس لوصول مشروب القهوة إلى بقية الولايات في الدولة الإسلامية إما عن طريق التجار أو الحجاج حتى تمتع ميناء المخا في اليمن باحتكار متزايد للمنتج الجديد باعتباره المخرج الوحيد في العالم للبن من اليمن لخارجه.

وصول القهوة من شبه الجزيرة العربية إلى أوروبا، تم عن طريق الدولة العثمانية التي لعبت دور الشريك التجاري بين العرب والأوروبيين وازدهرت تجارة البن اليمني تلك الحقبة مع اكتساب المشروب شهرة وشعبية.

القهوة في أوروبا

بعد تذوق القهوة، اقتنع تجار البندقية بجدواها التجارية وشرعوا في استيرادها بعد عام 1570 من شمال أفريقيا، وكما هو الحال مع أية عادة جديدة تدخل أوروبا كان الأثرياء أول من انغمس في تجربة المشروب، حتى مرحلة لاحقة ازدهر بيع القهوة في أسواق البندقية لتصبح في النهاية متاحة على نطاق واسع لعامة الناس.

ساهم في تقبل المجتمع للمشروب الجديدة كتابة المسافرين والبعثات الدبلوماسية إلى العالم الإسلامي، مثال على هذا جيان فرانشيسكو موروسيني، سفير جمهورية البندقية لدى السلطان العثماني، في تقريره من إسطنبول عام 1582، حيث وصف كيف أن هناك مباني تجارية يجتمع بها الناس عدة مرات في اليوم فوق مشروب ساخن داكن.

كشف مصدر آخر أن عالم النبات والطبيب الإيطالي الشهير بادوان بروسبيرو ألبينو أحضر معه بعض أكياس القهوة من الشرق (معظمها من مصر) وفي كتابه تاريخ النباتات المصرية، الذي نُشر في البندقية عام 1591 قدم وصفًا لشجرة البن التي رآها في مصر.

تقبل المجتمع الغربي للقهوة قابله كثير من المعوقات في البداية شأن العناصر المستوردة من العالم الإسلامي، جاء هذا الرفض من المؤسسة الدينية في إيطاليا وأصرت على حظر استهلاكه، استمر هذا الوضع إلى فترة بابوية كليمنت الثامن الذي تذوقها وأعلن موافقته على استخدامها وعرضها في الأسواق، أعطت هذه الموافقة الضوء لوصول القهوة إلى جميع المنازل الأوروبية.

بمجرد وصول القهوة إلى أوروبا وقبولها دينيًا ومجتمعيًا تكفلت بالتأثير الصريح على الحياة الاجتماعية والسياسية بخاصة عندما ارتبطت مع ظهور المقاهي العامة، التي استبدل بها المثقفون وأصحاب الرأي جلسات السُكر إلى جلسات الفكر وتبادل الأحاديث، تلك العادة انتقلت من الشرق تحديدًا من دمشق ثم امتدت إلى عاصمة الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر، أصبحت المقاهي أماكن اجتماعات لشرب القهوة وإجراء محادثات ولعب ألعاب الطاولة والاستماع إلى القصص، ومناقشة الأخبار السياسية، تلك الطقوس أكسبتها اسم (مدارس الحكمة) لنوع العملاء الذين اجتذبتهم، وخطابهم الحر ونقد البعض للحكام وقرارتهم السياسية.

تأثير المقهى ظهر سريعًا فكان بمنزلة أماكن تجمع مجتمعًا متكافئًا، مما أدى إلى تآكل الانقسامات المجتمعية، وقد حارب الهرمية المجتمعية التي نبذت احتكاك الفقراء مع الأغنياء، ليُسبّب افتتاح أول مقهى في لندن اضطرابًا اجتماعيًا كبيرًا فقد كان المجتمع الإنجليزي طبقيًا لكن أجبرت المقاهي التي كانت تحتوي على طاولات مشتركة الناس على الاختلاط والمرور على تلك الطبقية، وكانت السمة المميزة للمقاهي الإنجليزية هي الطاولات المشتركة المغطاة بالصحف والنشرات حيث كان يجتمع الضيوف لمناقشة الأخبار وتدوين الآراء، فصارت المقاهي محركًا لصناعة الأخبار في لندن في القرن الثامن عشر سواء كانت حقيقية أو شائعات.

الإقبال الكبير على المقاهي دفع تشارلز الثاني ملك بريطانيا يوم 12 يونيو 1672 لإصدار إعلان يهدف لكبح جماح انتشار الأخبار الكاذبة، والحديث غير المسؤول عن شؤون الدولة والحكومة، ولمحاربة تلك الممارسات تم تضمين شبكة من الجواسيس في مقاهي لندن، ليتطور الأمر لاحقًا في ديسمبر من عام 1675، ويُصدر أمرًا بإغلاق جميع المقاهي في لندن ليستمر ذلك الحظر 11 يومًا فقط وتعود مرة أخرى للعمل.

أطلق السكان على المقاهي لقب (الجامعات الصغيرة) لأنه مقابل تكلفة فنجان واحد من القهوة، تحصل على مناقشات فكرية ودروس مجانية في السياسة وإدارة الحكم، ما وصفه مايكل بولان «لقد دفعت فلسًا واحدًا مقابل القهوة، لكن المعلومات – في شكل صحف وكتب ومجلات ومحادثات – كانت مجانية».

مع زيادة شعبية المقاهي صارت سمعتها في وقت مبكر من عام 1730 مرتبطة بالمكائد السياسية وفجور الذكور، وتم حظر النساء من شُربها ما لم يكن يعملن في تلك المقاهي.

انتفاضات فرنسا

دور القهوة السياسي في بريطانيا انتقل وطال الثورة الفرنسية ما يبرهن على الدور الاجتماعي والسياسي للقهوة في إحداث فارق في تكوين أوروبا المعاصرة، فالقهوة في فرنسا كما الوضع في جاراتها في أوروبا قوبلت برفض وهجمات معتادة، زاد على ذلك لوبي من صناع البيرة والنبيذ الذي استخدم سيولته المالية وعمل على عقد تحالف لتدمير سمعة القهوة وسط العامة، إحدى التحالفات تلك قام بها شخص من صانعي النبيذ في مرسيليا مع طالب جامعي لكتابة أطروحة بعنوان (ما إذا كان استخدام القهوة ضارًا بسكان مرسيليا) وأكد الطالب أن «الجسيمات المحترقة التي تحتوي عليها القهوة بكميات كبيرة لها طاقة عنيفة لدرجة أنها عندما تدخل الدم تجذب الخلايا اللمفاوية وتجفف الكلى مما ينتج عنه الإرهاق العام والشلل».

بالإضافة إلى هذا الهجوم المعتاد على أساس الخصائص غير الصحية المفترضة للقهوة من صانعي الخمور، أزعجت المقاهي نظام الحكم في فرنسا لأنها كانت في الغالب منبعًا ومأوى للفكر المعارض، فكما فعلت بريطانيا جاءت فرنسا بالمثل بواسطة توظيف الجواسيس، الذين تراوحت مهامهم من العمل السري في العواصم الأجنبية إلى مجرد التنصت على الأشخاص الذين عدّهم الحاكم أعداء محتملين أو يثيرون الاستياء من نظامه، فوجد هؤلاء الجواسيس المقاهي مصدرًا غنيًا للمعلومات، لأنها مع مساواتها الاجتماعية وتفاعل الثوار مع العامة، باتت مكانًا مثاليًا للتحريض وتنظيم الجمهوريين خلال الثورة الفرنسية.

تلك الدرجة من الخطورة اشتكى منها أحد أركان النظام الفرنسي بكلمات تصف الوضع:

من أين تأتي كل هذه الإثارة الجنونية؟ من حشد من الكتّاب والمحامين الصغار، من الكتّاب غير المعروفين، الذين يمارسون إثارة العامة في النوادي والمقاهي، هذه هي البؤر التي صاغت الأسلحة التي تتسلح بها الجماهير اليوم

في أيام يوليو من عام 1789 التي سبقت سقوط الباستيل وبداية الثورة الفرنسية، استضافت المقاهي محادثات عنيفة بشكل متزايد ضد الملك لويس السادس عشر، كتب آرثر يونغ الكاتب الإنجليزي الذي كان يزور باريس في ذلك الوقت، وصفًا للمشهد في القصر الملكي:

تقدم المقاهي المزيد من المناظر الفريدة والمذهلة، هم ليسوا مزدحمين فقط في الداخل، ولكن هناك حشودًا أخرى تنتظر على الأبواب والنوافذ، تستمع إلى بعض الخطباء الذين يتحدثون من الكراسي أو الطاولات عن جمهوره الصغير؛ لا يمكن تخيل الشغف الذي يسمعون به، ودوي التصفيق الذي يتلقونه لكل مشاعر أكثر من الجرأة أو العنف المشترك ضد الحكومة

وكما كانت القهوة أداة تحريك الثورة داخل فرنسا قامت بالدور ذاته لكن ضد القوات الفرنسية في هايتي، ولأن الثورة الصناعية كانت في أوجها ومع زيادة الطلب على القهوة في فرنسا دفعت السلطات ثمن استخدام رقعة خارجية تحديدًا في هايتي لزراعة البن واستيراده لفرنسا، فكان نظام العبودية واستصلاح الأراضي بشروط صعبة لزراعة البن والكاكاو ذريعة لانتفاضة استمرت أكثر من عشر سنوات انتهت بخروج القوات الفرنسية من البلد الكاريبي.

حروب أمريكا

استقرار قيمة القهوة في الثقافة البريطانية والفرنسية نقلها إلى قارات العالم الجديد، لتشق طريقها في أثناء الاستعمار الإنجليزي إلى الولايات المتحدة الأميركية، فأخذت القهوة سمعتها أنها مشروبًا للأثرياء فقط، في وقت لا يزال فيه الشاي المشروب الأمريكي المفضل، ومع ذلك، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، أُسست المقاهي وظهرت في جميع أنحاء بوسطن، وسرعان ما انتشر هذا الاتجاه إلى ولايات مُستعمرة أخرى.

شعبية القهوة في الولايات المتحدة ازدادت حيثما اكتسبت رمزية تحررية في عام 1773 مع قيام مجموعة أبناء الحرية التي تأسست للاحتجاج على الضرائب البريطانية، بالتنكر في زي أمريكيين أصليين، واستقلوا السفن الراسية في ميناء بوسطن وألقوا 342 صندوقًا من الشاي في الميناء كحركة قاصدة معارضة ضريبة الشاي، تلك الواقعة المعروفة باسم حفل شاي بوسطن حجزت مكانة للقهوة في أمريكا، بعدما أصبح شرب الشاي عملًا غير وطني وصُنفت بريطانيا الآن دولة لشاربي الشاي وأمريكا تشرب القهوة.

مثلما كانت القهوة مشاركًا مع الأمريكيين في ثورتهم وتحررهم من الإنجليز، كانت سلاحًا إضافيًا للجيوش الأمريكية في الحربين العالميتين، ففي الحرب الأولى حركت وزارة الحرب الأمريكية الأمور إلى أبعد من ذلك، حيث أنشأت مصانع تحميص وطحن محلية في فرنسا لضمان وصول القهوة الطازجة للقوات الأمريكية، كما ظهرت في تلك الحقبة قهوة سريعة التحضير لتسهل على الجندي شربها أكثر من مرة في اليوم.

 وفي الحرب العالمية الثانية خلال مدّة ثمانية أشهر بدأت في نوفمبر 1942، تمت إضافة القهوة إلى قائمة الحصص الغذائية للمدنيين الأمريكيين توزع وفق كميات محددة، مع أنّ دول أمريكا اللاتينية كانت تنتج كميات قياسية من القهوة، إلا أن إمدادات البن في الولايات المتحدة كانت تتضاءل بسبب الحرب، وتمت إعادة توجيه أية سفن متاحة إلى المجهود الحربي ما تسبب في محدودية الشحن، بخاصة أن تأثير القهوة كان على درجة كبيرة من الأهمية في عامل الروح المعنوية للجنود في الخنادق، فقد كانت تقدم لهم لمحة من وسائل الراحة المنزلية، وتحتوي على مادة الكافيين، مما ساعد على تنشيط القوات.

الثورة الصناعية

دور القهوة الصناعي والاقتصادي لم يقل عن دورها السالف ذكره في مجال السياسة، فالقهوة كانت الوقود المحرك للثورة الصناعية في أوروبا، في وقت كانت الكحول مسيطرة على جلسات العمال اعتقادًا منهم أنها تساعدهم على تحمل العمل في ظروف صعبة، في أيام كانت الأجور في المصانع منخفضة وفترات الراحة قصيرة، هذا يعني أن عامل المصنع العادي لم يكن لديه ما يكفي من الوقت أو المال للحصول على نظام غذائي صحي يساعده على تقوية بدنه، وكانت الخضروات الطازجة والفواكه واللحوم غير الفاسدة باهظة الثمن ويصعب الحصول عليها، نظرًا لأن الجعة كانت رخيصة، فقد أصبحت عنصرًا أساسًا للطبقة العاملة.

بدأ معظم العمال يومهم بوعاء من حساء البيرة ما أدى ذلك إلى وجود قوة عاملة لم تكن فحسب تعاني سوء التغذية بل كانت مخمورة أيضًا، لذلك تزينت القهوة كبديل صحي بما احتوته من كافيين يقدم دفعة من الطاقة، ما يسمح للعمال بالاستمرار في العمل ساعات أطول بصحة أفضل، وهي إلى ذلك ساعدت في تحسين تركيزهم ويقظتهم، وهو ما كان حاسمًا في البيئة سريعة التحرك والمتطلبة للمصانع والشركات.

كان العامل المهم الآخر هو الدور الذي لعبته القهوة في تعزيز العلاقات الاجتماعية والتجارية، مع انتقال العمال إلى المدن، دأبوا التجمع في المقاهي، وكانت هذه الأماكن تمكن الناس من الاسترخاء والدردشة فيها، حتى أصبحت مركزًا للحركة الاقتصادية، حيث اجتمع العمال والتجار ورجال الأعمال معًا لتبادل الأفكار وعقد الصفقات، وكانت القهوة في صميم كل ذلك.

فضلًا عن ذلك، لعبت القهوة دورًا في نمو حركة النقل خلال الثورة الصناعية، و تحسن أنظمة النقل بشكل كبير، مع تطوير المحرك البخاري وظهور السفر بالسكك الحديدية، سمح ذلك بنقل البضائع بسرعة أكبر وبتكلفة منخفضة، وهو أمر مهم لنمو الصناعة، نتيجة لذلك كان الأشخاص يقضون وقتًا أطول في التنقل، وأصبحت القهوة عنصرًا أساسًا في الرحلة، لقد وفرت دفعة من الطاقة التي يحتاج إليها الناس وأبقتهم في حالة تأهب خلال الرحلات الطويلة.