محتوى مترجم
المصدر
التاريخ
2016/07/03
الكاتب
عندما نقوم ببرمجة حاسوب ليختار بذكاء، بعد تحديد اختياراته ومعرفة عواقبها، وتقرير الأفضل أو الأكثر أخلاقية أو مهما كان، يجب أن نبرمجه ليتخذ موقفًا تجاه حرية اختياره بشكل مساوٍ للحرية المتاحة للإنسان.

جون ماكرثي، عالم ذكاء اصطناعي


البداية الحقيقية

بعد ما أنجزه آلان تورنج وفان نيومان وكورت جودل كأفكار وتجارب في مجال علوم الحاسب، هيّأ بعض العلماء أنفسهم وأهّبوا خيالهم نحو عصر جديد يسيطر فيه الحاسوب على كل شيء، عصر تستطيع فيه الآلة -التي تعمل طبقًا لقواعد المنطق- أن تحاكي العقل البشري -اللامنطقي- المعقد. لم يكن لأحلامهم حدود آنذاك، وكانت أفكارهم ومجهوداتهم تصب كلها نحو خلق هذا العالم، حيث الآلة والبشر شيء واحد، نفس العقل، نفس التفكير، نفس القدرات. ربما كان هذا خياليًا بعض الشيء لو ظننا -نحن أهل القرن الحادي والعشرين- أن هذا هو تفكير علماء يفصلنا عنهم عقود. لكن، تجاوز -أو إهمال- التحديات الفلسفية -مؤقتًا- بسبب طرح بعض الأطروحات المؤسسة لعلوم الحاسب وكذلك ظهور العديد من الحلول العملية والتقنية، فتح الأفق أمام الخيال، وبلا حدود.

الطلب المقدم للجامعة لدعم مؤتمر دارتموث (المصدر:Dartmouth College)
الطلب المقدم للجامعة لدعم مؤتمر دارتموث (المصدر: Dartmouth College)
نقترح أن يقوم عشرة رجال بدراسة الذكاء الاصطناعي لمدة شهرين أثناء صيف عام 1956 بكلية دارتموث بهانوفر، نيوهامبشير. وستعمل الدراسة على تأكيد الحدس القائل بأن أي عملية تعلم أو أي ميزة متعلقة بالذكاء يمكن بشكل مبدئي اعتبارها مهمة يمكن لآلة أن تحاكيها. كما سيتم إجراء محاولة لمعرفة كيف يمكن للآلة أن تستخدم اللغة لتكوّن بعض الأفكار المجردة والمفاهيم، وتقوم بحل مشاكل كان حلها محصورًا على البشر، وأيضًا يطورون من أنفسهم. ونحن نعتقد أنه باختيار مجموعة منتقاة من العلماء لهذه المهمة سوف يحقق تقدمًا ملحوظًا في واحدة أو بعض تلك المشاكل لو اجتمعوا عليها في الصيف.

في 31 أغسطس عام 1955، تقدم 4 علماء بطلب لكلية دارتموث بطلب لتنظيم ما يمكن أن نطلق عليه معسكرًا صيفيًا يجمع الكثير من علماء الرياضيات والمنطق وعلوم الحاسب وذلك لتأسيس ما أطلق عليه -ولأول مرة آنذاك- علم الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence، وهو المصطلح الذي ظهر لأول مرة في المؤتمر. قدم تلك الدعوة جون مكارثي John McCarthy و مارفن لي مينسكي Marvin Lee Minsky و ناثانيل روشستر Nathaniel Rochester وكلود شانون Claude Shannon. يتكون الطلب من 17 صفحة تشرح تفصيليًا الغرض من المؤتمر، مع تفاصيل عن مقدميه ودرجاتهم العلمية وإسهاماتهم، وكذلك اقتراح بالعلماء المستهدف تواجدهم في المؤتمر.


مؤسسو المؤتمر:

جون مكارثي

جون مكارثي (مصدر الصورة: wikimedia/Null0/CC-BY-SA-3.0)

جون مكارثي (1927-2011)، الطفل المريض الذي علم نفسه الرياضيات، ليصبح أستاذ علوم الكمبيوتر وعلوم الإدراك، وأحد أهم رواد علوم الذكاء الاصطناعي بلا قطاع. عمل أستاذًا في جامعة ستانفورد ومعهد ماساتشوستس للتقنية MIT. كما كان أستاذًا مساعدًا بقسم الرياضيات بكلية دارتموث وقت تقديم الطلب عام 1955، حيث كان جون من أهم الداعمين للمؤتمر. وحسب وصف جون المقدم في الطلب: «عمل مكارثي على العديد من الأسئلة المتعلقة بالطبيعة الرياضية لعملية التفكير، ويتضمن ذلك عمله على نظرية آلات تورنج، وسرعة الحواسيب، والعلاقة بين نموذج العقل البشري والبيئة، واستخدام اللغة من قبل الآلات». بعد المؤتمر ، وفي خريف 1956، انتقل جون لـ MIT حيث عمل هناك حتى 1962 وأسس معمل MIT لعلوم الذكاء الاصطناعي، قبل أن ينتقل لجامعة ستانفورد كأستاذ، واستمر في منصبه حتى عام 2000. وعرف مكارثي بين طلابه بالعم جون.

بجانب دوره التأسيسي الهام لمجال الذكاء الاصطناعي، لمكارثي دور هام في تطوير المجال بعد ذلك. فقد ساهم في تصميم لغة البرمجة «ALGOL»، واخترع لغة «Lisp» في الخمسينيات، والتي أصبحت لغة البرمجة الرئيسية لتقنيات الذكاء الاصطناعي بعد ذلك. وأثناء عمله في جامعة ستاندفورد ساهم أيضًا في إنشاء معمل الذكاء الاصطناعي بالجامعة. في 1966 قام مكارثي مع فريقه ببرمجة Kotok-McCarthy، أول برنامج قادر على لعب الشطرنج بالتعاون مع شركة IBM. قام برنامج مكارثي بمنافسه نظير سوفييتي طوره علماء بمعهد الفيزياء النظرية والتجريبية بالاتحاد السوفييتي Institute for Theoretical and Experimental Physics، لكنه خسر. استمر جون بعد ذلك في العمل على تطوير أنظمة التفكير المنطقي الخاصة بتقنيات الذكاء الاصطناعي. لجون دور هام أيضًا في تطور شبكة الإنترنت حيث ساهم في اختراع تقنيات المشاركة الحوسبية time-sharing، والذي يتيح لمجموعة مختلفة ومتباعدة من المستخدمين الاتصال بوحدة حوسبية قوية تخدمهم جميعًا في نفس الوقت، أو ما يعرف الآن بالخوادم Servers.

حصل مكارثي على العديد من الجوائز التقديرية في حياته كجائزة تورنج Turing Award و قلادة العلوم الوطنية الأمريكية.

كلود شانون

http://gty.im/3140989

كلود شانون (1916-2001)، «عالم رياضيات، يعمل في معامل Bell» حسب وصفه في الطلب المقدم، ورائد نظرية المعلومات والعصر الرقمي حسبما نعرفه حاليًا. فبجانب ورقته البحثية التي أسس نظريًا بها الدوائر الرقمية، قدم شانون في 1948 ورقة علمية بعنوان نظرية رياضية في الاتصالات The Mathematical Theory of Communication، أسس فيها لنظرية المعلومات، أو إمكانية حفظ ونقل المعلومات التناظرية بطريقة رقمية باستخدام اللغة الثنائية Binary code.

مارفن لي مينسكي

http://gty.im/80883832

مارفن لي مينسكي (1927-2016) عالم الذكاء الاصطناعي وعلوم الإدراك أمريكي الجنسية. كان وقت تقديم الطلب زميل جديد بقسمي الرياضيات والأعصاب بجامعة هارفارد. عمل مينسكي على بناء آلة تحاكي الشبكات العصبية في طرق التعلم، وتعتبر أول شبكة عصبوية وتسمى سنارك Stochastic neural analog reinforcement calculator، كما أن له رسالة دكتوراه بجامعة برنستون بعنوان الشبكات العصبية ومشكلة نموذج المخ Neural Nets and the Brain Model Problem. ساهم مارفن في تأسيس معمل MIT لأبحاث الذكاء الاصطناعي، كما يعتبر أحد أهم العلماء المساهمين في هذا المجال. كان مينكسي يؤيد فكرة وجود كائنات حية في الفضاء الخارجي، وكان أحد مستشاري ستانلي كوبريك في فيلمه الشهير «2001 – أوديسيا فضائية». في 1986 أصدر مينسكي كتابًا بعنوان Society of Mind يبني فيه نموذجًا متدرجًا للعقل البشري يتكون من وحدات أساسية تسمى agents، هي بحد ذاتها لا تملك عقل، لكن تفاعلها وتكاملها سويا ينتج الذكاء البشري.

ناثانيل روتشستر

ناثانيل روتشستر (1919-2001) عالم إلكترونيات أمريكي، عمل لفترة في شركة IBM وصمم IBM 701 أول حاسوب علمي تجاري من الشركة، وكان أحد أكثر الحواسيب المستخدمة وقتها. حصل روتشستر على درجة البكالوريوس في الهندسة الإلكترونية من MIT.


مجالات البحث المقترحة: (من واقع الطلب المقدم)

1. برامج حاسوب أوتوماتيكية:

جون ماكرثي (مصدر الصورة: wikimedia/Null0/CC-BY-SA-2.0)
جون ماكرثي (مصدر الصورة: wikimedia/Null0/CC-BY-SA-2.0)

«إذا كان يمكن لآلة أن تقوم بمهمة، فيمكن لحاسوب أوتوماتيكي أن تتم برمجته ليحاكي الآلة ويقلدها. وربما تكون السرعة وسعة الذاكرة التي تقدمها حواسيب اليوم غير كافية لمحاكاة الوظائف المتقدمة للمخ البشري، إلا أن العقبة الحقيقية ليس في القدرات، لكن في عدم قدرتنا على كتابة برنامج يستخدم كافة الموارد المتاحة لنا».

كانت هذه هي المشكلة الرئيسية من وجهة نظر مقدمي الطلب البحثي آنذاك، أن القدرات الحوسبية -التي لا تقارن بما نمتلكه اليوم- لا تمثل عقبة في تطوير تقنيات تحاكي المخ البشري.

2. كيف يمكن برمجة حاسوب ليستطيع استخدام لغة؟:

«يُفترضُ أن جانبًا كبيرًا من الفكر الإنسانيّ يتكوّن من معالجة الكلمات وفقًا لقواعد المنطق وقواعد الحدس. من وجهة النظر هذه، يتألف تشكيل عبارة عامة/ قانون عام/ تعميم، من طرح كلمة جديدة وبعض القواعد التي بواسطتها يمكن للجمل الحاوية للكلمة الجديدة أو جُمَل أخرى أن تدلل عليه. لم تتعرّض هذه الفكرة لصياغة دقيقة بعد، ولم تُطْرَح لها أمثلة».

3. الشبكات العصبوية:

«كيف يمكن لمجموعة من الأعصاب (المفترض) أن تنتظم بحث تشكل المفاهيم. الكثير من العمل النظري والمعملي المعتبر بخصوص تلك القضية تم إنجازه من قبل «يوتلي ،وراشفسكي وفريقه، و فارلي وكرارك، وبيتس ومكولوتش، ومينسكي، وروتشستر وهولاند، وغيرهم كثيرون». تم الوصول لنتائج جزئية، لكن، ما زال الموضوع بحاجة لمزيد من العمل النظري».

الجديد بالذكر أن أول من اقترح فكرة الشبكات العصبوية كان آلان تورنج.

4. نظرية حجم العملية الحسابية

«إذا تم إعطاؤنا مشكلة محددة (يمكن اختبار الإجابات المقدمة ميكانيكيًا لمعرفة الإجابة الصحيحة) فأحد طرق الحل هي أن نجرب جميع الحلول بالترتيب. لكن هذه الطريقة ليست الأكفأ، لكن لاستبعادها يجب أن يكون لدينا معيار لكفاءة العمليات الحسابية. وبعض الاعتبارات تقول إنه لكي نقيس كفاءة العملية الحسابية فمن الضروري أن نمتلك طريقة تقيس مدى تعقد الآلات الحوسبية، وهذا ما سيحدث لو كان لدنيا نظرية لمدى تعقد تلك المهام. وقد أنجز بعض العمل في هذه المشكلة من قبل شانون وماكارثي».

5. التطور الذاتي:

«من المحتمل أن آلة ذكية بشكل حقيقي ستقوم ببعض المهام والأنشطة والتي توصف بأنها «تطور ذاتي»، وبعض المخططات لفعل ذلك تم تقديمها وتستحق الدراسة. ومن الواضح أن هذا السؤال يستحق الدراسة بشكل مجرد».

6. التجريد:

«بعض أنواع التجريد يمكن تعريفها بوضوح، بينما غيرها غير محدد. وأي محاولة مباشرة لتصنيفهم ووصف طرق الآلة لتشكيل «التجريد» من البيانات المقدمة، هي محاولة تستحق الدراسة».

والتجريد في علوم الحاسب هو محاولة لإخفاء التعقد البرمجي في طبقة لا يتعامل معها المستخدم النهائي وذلك عبر إظهار واجهة سهلة مبسطة للتعامل تختفي تحتها تعقيدات البرنامج.

7. العشوائية والابتكار:

«من الأفكار الجذابة وغير المكتملة أيضًا هو الفرق بين التفكير الابتكاري والجامد يكمن في إضافة بعض العشوائية للتفكير. لكن يجب أن تقاد تلك العشوائية بالحدس، لتكون فعالة. بكلمات أخرى، يجب أن يتضمن التخمين والشعور القليل من العشوائية المتحكم بها في إطار التفكير المنظم».

تم دعوة كثير من علماء الرياضيات والمنطق والحاسوب ومهندسي الإلكترونيات للمؤتمر. نجح مكارثي في المؤتمر في إقناع الحضور بإطلاق مصطلح الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence على المجال الوليد، وتم تقديم كثير من النظريات والبرمجيات. ويعتبر المؤتمر الانطلاقة الحقيقية للبحث في مجال الذكاء الاصطناعي، ومن قلبه بدأ العديد من العلماء حياتهم العملية في هذا المجال، والذي لم يتوقف البحث والتطوير فيه حتى الآن.

الآن، قمنا بإلقاء نظرة سريعة مختصرة على تاريخ وبدايات الذكاء الاصطناعي، ودور بعض العلماء كآلان تورنج و كورت جودل في تطور الحاسوب. وسنقفز سويًا -في المقالات القادمة- قفزة طويلة للأمام لنصل لعصرنا الحالي، ما الذي وصلت له تقنيات الذكاء الاصطناعي، هل حققت أحلام مؤسسيها؟، هل تمثل خطرًا حقيقيًا علينا؟.

المراجع
  1. 1
  2. 2
  3. 3
  4. 4