كانت حلب وطني عظيمًا قدرها، جليلاً أمرها، مع حصانة حصنها، وكثرة أعمالها ومدنها، وطيب بقعتها، وصحّة تُربتها، ورقّة هوائها، وعذوبة مائها، وعراقة فضلها، وكثرة العلماء والشعراء من أهلها، ووفود الطارقين من العلماء عليها، والواردين من الأعيان والفضلاء إليها.

القاضي والمؤرخ الحلبي أبو الفضل محمد بن الشِّحنة (ت 890هـ/1495م) في وصفه لمدينة حلب في عصره.


خراب هولاكو

كانت حلب مدينة عامرة مزدهرة في العصر الإسلامي الوسيط، فقد كانت إحدى أبرز حواضر العالم الإسلامي آنئذ، منارة من منارات العلوم والمعارف والآداب، فلم تزل تُبنى فيها المدارس (الكليات) في مختلف التخصصات العلمية حتى بلغت نحو ثلاثمائة مدرسة، هذا فضلاً عن الحلقات العلمية التي كانت تُعقد في المساجد ودور الحديث وغيرها من الأماكن التي كانت تتفجّر من خلالها ينابيع العلوم من منطوق ومفهوم [1].

على أنه في عام 656هـ/1258م احتل المغول بغداد، وأقاموا لهم دولة في العراق، ثم اتجهوا نحو بلاد الشام للسيطرة عليها وساعدهم في ذلك اضطراب الأوضاع فيها بسبب صراع الجبهة الإسلامية بين الأيوبيين أنفسهم وبين المماليك.

وفي بداية سنة 658هـ «تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، إذ دخل جيش المغول صحبة ملكهم هولاكو، وجازوا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام، ثم افتتحوها بالأمان، وغدروا بهم، فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد، فجاسوا خلال الديار، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون، فإنا لله وإنا إليه راجعون»[2].

ونلاحظ بروز العناصر الفارسية الإيرانية في مساعدة التتار عند اجتياحهم الشام عندئذ في مفارقة عجيبة تشبه هذه الأيام، يقول ابن كثير: «ولما فُتحت حلب أرسل صاحب حماة بمفاتيحها إليه، فاستنَاب عليها (هولاكو) رجلاً من العجم (الفرس) يدعي أنه من ذرية خالد بن الوليد يقال له: خسروشاه، فخرَّب أسوارها كما فعل بمدينة حلب»[3].


مآذن من الرؤوس المقطعة!

بعد قرن ونيف من هذه الأحداث يتكرر الأمر عينه، إذ يظهر الخطر المغولي من جديد، وهذه المرة مع قدوم تيمورلنك وجيوشه الجرّارة من وسط آسيا إلى العراق ثم إلى جنوب الأناضول ومن ثم إلى الشام وعلى رأسها حلب، وفي حلب يختلف القادة العسكريون من المماليك في وضع خطة عسكرية لقتال المغول، فمنهم من أشار بقتالهم داخل حلب، ومنهم من أشار بقتالهم خارجها، واستقر رأيهم في نهاية المطاف على القتال خارج المدينة.

وفي يوم السبت 11 ربيع الأول 803هـ «زحف تمرلنك بجيوشه وفِيَلته، فولّى المسلمون نحو المدينة وازدحموا في الأبواب، ومات منهم خلق عظيم، والعدو وراءهم يقتل ويأسر، وأخذ تمرلنك حلب عنوة بالسيف»[4]. دخلها جيش تيمور؛ فإذا هم ينهبون الأموال ويحرقون المباني ويخربونها، ويقتلون الكبار والصغار، ويفتضّون الأبكار، ويأخذون المرأة ومعها ولدها الصغير على يدها فيُلقونه من يدها ويفسقون بها، فلجأ النساء عند ذلك إلى الجامع الكبير ظنًا منهنّ أن هذا يقيهنّ من أيدي الكفرة، وصارت المرأة تُطلي وجهها بطين أو بشيء يشوّه محاسنها، فيأتي ذلك العلج إليها ويغسل وجهها ويتناولها ويتمسح بالأوراق الشريفة، ودام هذا الحال من يوم السبت إلى يوم الثلاثاء»[5]!

لقد كان من هول المجزرة التي نزلت بحلب أن بعض أهلها رووا فيما كتبه بعض المؤرخين: «أنه شاهد بظاهر (خارج) حلب قد بُني شبه المآذن من رؤوس الرجال مرتفعة البناء، دورها نيّف وعشرون ذراعًا، وعلوّها في الهواء نحو عشرة أذرع بارزة، وجوهها تسفي عليها الرياح، وعدّتها عشرة»[6]!

نزلت هذه الأخبار على المسلمين كالصاعقة، وورد الخبر من رجلين تمكنا من الهرب من حلب إلى دمشق، «وقالا معاشر المسلمين، الفرار مما لا يطاق، من سنن المرسلين، من يقدر على هذا، فيطلب لنفسه طريق النجا، ومن أطاق أن يشمر ذيله، فلا يبيتن في دمشق ليله، ولا يغالط نفسه بالمداهنة، فليس الخبر كالمعاينة فتفرقت الآراء، واختلفت الأهواء، وماج أمر الناس موجًا»[7].


شرذمة إسلامية نتيجتها الفشل!

كان السلطان العثماني بايزيد الأول قد استنجد حين قدم المغول بالمماليك لإعادة إحياء الجبهة الإسلامية الموحدة التي كانت قد أُنشئت لمواجهة الغزو التيموري قبل ذلك بسنوات قليلة في عصر السلطان الظاهر برقوق، لكن المماليك تجاهلوه، ولم يردوا على رسالته الاستغاثية؛ لأن بايزيد استغل وفاة السلطان برقوق فتوسّع على حساب المماليك في جنوب الأناضول؛ حيث استولى على نيابتي الأبلستين وملَطية وكانتا تابعتين للسلطنة المملوكية، وكان ردّ كبار الأمراء في مصر على تلك الرسالة: «الآن صار صاحبنا، وعندما مات أستاذنا الملك الظاهر برقوق مشى على بلادنا، وأخذ ملطية من عملنا، فليس هو لنا بصاحب، يقاتل هو عن بلاده، ونحن نقاتل عن بلادنا ورعيتنا، وكتب له عن السلطان بمعنى هذا اللفظ»[8].

والحق أن المماليك فوّتوا على أنفسهم دعمًا كان مطلوبًا بشدة في تلك الأزمة العصيبة التي كانت تتطلبُ الوحدة، فإنهم إذا استغلوا يد العثمانيين الممدودة لكان فعلهم ذاك صائبًا؛ فلربما تجنبوا استيلاء تيمور على الشام، ولربما تجنّب بايزيد الهزيمة والأسر [9]، وهذا ما حكاه أحد كبار الأمراء المماليك الأسرى لدى تيمور، ممّن قربه وعفا عنه بعد ذلك: «قال لي تيمورلنك ما معناه: إنه لقي في عمره عساكر كثيرة وحاربها، لم ينظر فيها مثل عسكرين: عسكر مصر وعسكر ابن عثمان المذكور، غير أن عسكر مصر كان عسكرًا عظيمًا ليس له مَن يقوم بتدبيره لصغر سن الملك الناصر فرج، وعدم معرفة من كان حوله من الأمراء بالحروب، وعسكر ابن عثمان المذكور، غير أنه كان أبو يزيد [10] صاحب رأي وتدبير وإقدام، لكنه لم يكن له من العساكر من يقوم بنصرته»[11].

ولهذا علّق المؤرخ النابه ابن تغري بردي على ذلك الدرس البليغ بقوله: «ولهذا قلتُ: إن المصلحة كانت تقتضي الصلح مع أبي يزيد بن عثمان المذكور، فإنه كان يصيّر للعساكر المصرية من يدبّرها، ويصيّر لابن عثمان المذكور عساكر مصر مع عساكره عونًا، فكان تيمور لا يقوى على مدافعتهم، فإن كلاً من العسكرين كان يقوى دفعه لولا ما ذكرناه»[12]. فالوحدة وتبادل الخبرات العسكرية والاستخبارية بين العثمانيين والمماليك كان سيحول دون سقوط الأراضي الإسلامية في يد المغول التيموريين.

حين استعد تيمورلنك للخروج من حلب أمر جنوده بالخروج إلى دمشق، ولكن قبل ذلك أحرق المدينة، ودمّر قلعتها، وهدم أسوارها، وصارت خرابًا كأن لم تغنَ بالأمس [13].

أما من نجوا، فحين رجعوا إلى المدينة واقتربوا منها «والنار تضرب في أرجائها، وبعد ثلاثة أيام لم يبقَ من التتر أحد، ونزلنا إلى بيوتنا بالمدينة فاستوحشنا منها، ولم يقدر أحد منا على الإقامة ببيته من النّتن والوحشة، ولم يمكن السلوك في الأزقة من ذلك». بل إن الجامع الكبير –وهو أكبر جوامع حلب حينها- كانت القتلى فيه مكدّسة من المنبر إلى صحنه، «والناس يمشون على القتلى» كما وصف أحد المؤرخين الذين عاينوا هذه المأساة الحلبية في القرن التاسع الهجري.

وهكذا كُتب على حلب، المدينة المفتاح لبلاد الشام بل لكل الشرق الأوسط من تركيا إلى اليمن، أن تكون موطئ الغزاة والمجرمين ومطمعهم على مر التاريخ، لكن هذا التاريخ يخبرنا أن المدينة كانت تسترجع عافيتها ورجالاتها وعلماءها بصورة أقوى كلما مرّت بها المحن، فقد انجلى الغاصبون وبقيت حلب!.


[1] ابن الشحنة: الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب ص3.[1] كامل الحلبي: نهر الذهب في تاريخ حلب 1/134.[2] ابن كثير: البداية والنهاية 17/395، 396.[3] ابن كثير: السابق 17/396.[4] ابن عربشاه: عجائب المقدور ص188 [5] كامل الحلبي: السابق 3/167.[6] السابق 3/168.[7] ابن عربشاه: السابق ص196.[8] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 12/217.[9] حاتم الطحاوي: تيمور لنك في المنطقة العربية ص29. مجلة كلية الآداب – جامعة الزقازيق، 2004م.[10] تشير المصادر التاريخية إلى السلطان العثماني بايزيد إلى أبو يزيد أو أبي يزيد.[11] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 12/217.[12] ابن تغري بردي: السابق نفسه.[13] ابن خطيب الناصرية: الدر المنتخب من تاريخ مملكة حلب 1/350.