لا زال إنسان المجتمعات الحديثة ينظر إلى السلطة بقدر من الهيبة الممتزجة بالغموض. ولا زال موضوع السلطة من أقل المواضيع عرضة للدرس والتحليل. ولا زالت نظرتنا للحكام –خاصة في البلدان التي تتدنى فيها مستويات الديموقراطية– تأليهية، تضفي عليهم طابعاً سحرياً متعالياً.

هذا المقال محاولة لتفكيك ونقد هذه النظرة الملتبسة إزاء السلطة، مع محاولة بث روح التفاؤل، باستشفاف سيرورات اجتماعية وسياسية، آخذة بالتشكل والحضور من حولنا، تنبئ بأزمان تكون فيها السلطة (ونخص هنا السلطة السياسية) أقل حضوراً وسطوةً وتأثيراً.

السلطة ظاهرة اجتماعية، ملازمة للاجتماع الإنساني منذ نشأته، ولكنها، دينامكية، تتمظهر في أشكال ونُظُم مختلفة من عصر إلى آخر. في العصور القديمة تمظهرت السلطة في صورة الحاكم صاحب الخصائص والصفات غير الاعتيادية الخارقة، والذي يعتقد شعبه أنه مبعوث العناية الإلهية (أو أنه هو ذاته إله)، والذي يحقق الخيرات لشعبه وأتباعه. حيث استمد الحاكم سلطته من هذه الاعتقادات الشعبية، والتي وصلت أحياناً حد عبادة الناس وتقديسهم لشخص القائد. وفي عصور لاحقة تمظهرت في صورة “أوليغاركية”، منحصرة في حكم أقلية من المتنفذين، أو “عسكرتارية”، في يد المؤسسة العسكرية.

مع مرور الأزمنة وانخراط المجتمعات المختلفة في سيرورات التحضر والتحديث، ونتيجة للتغيرات الجذرية الطارئة على الواقع المادي واتجاهه نحو التعقيد والتركيب، تحولت السلطة إلى التمظهر في نماذج أكثر تعقيداً وتركيباً في الحكم. وصارت تتجسد في أجهزة ومؤسسات معقدة. من فرعون المصريين الممثل للإله رع على الأرض، ومن الإمبراطور الياباني المقدس، إلى حكم الأجهزة والمؤسسات. حيث أخذت السلطة[1] و النفوذ يتشظيان بين البُنى الإجتماعية المعقدة، ويتوزعان بين شريحة أكبر من المواطنين. وأخذت السلطة تتوزع في “أنساق”، على أساس نظام تسلسلي، لكل درجة فيه مركز من مراكز القوى، في إطار السيرورة التي عرفت في دراسات الإجتماع السياسي بـ “البيروقراطية”.

وفي إطار هذه السيرورة تحولت عمليات صنع القرار واتخاذه وتنفيذه من كونها محصورة في شخص الحاكم أو في مجموعة وفئة قليلة حاكمة، إلى كونها منتشرة ومتوزعة على شريحة واسعة من مواطني الدولة، ممن يشغلون وحدات الهرم التنظيمي المتشعب، المتمثل في الأجهزة البيروقراطية للدولة. هذا الهرم الذي امتد إلى مختلف مفاصل الدولة والمجتمع من الشركات والصناعة والنقابات والأحزاب والجامعات.

ولم تعد النخبة الحاكمة اليوم محتلّة لمكان عال فوق بقية قطاعات المجتمع؛ ذلك أنها قد غدت مرتبطة بالمجتمع من خلال سلسلة من النخب الفرعية، والتي تشكل جماعة كبيرة تمثل “الطبقات الوسطى”[2]، أما فئات هذه الطبقات فتشمل كبار الموظفين، والمديرين، المتخصصين التكنولوجيين، والتقنيين[3] حيث تمثل هذه الطبقات العنصر الأكثر حيوية في المجتمع، والمخزن الأكبر للخدمات. وهكذا، غدا المجتمع الحديث، المبني على البيروقراطية والمأسسة، محتوياً على عدة نخب، تتمتع بمكانة اجتماعية، وامتيازات خاصة. و بذلك اتسعت الطبقة الحاكمة في المجتمع الحديث، بحيث أصبح عدد كبير من الأفراد المجتمع يتقاسمون الحكم. وقد عرفت هذه العملية من المأسسة والبرقرطة في دراسات الإجتماع السياسي بـ “الثورة الإدارية[4].

ورافق سيرورة المأسسة –وضمن سياق التحديث– سيرورة “الدسترة” و “القوننة”، والتي عملت على تحويل عمليات اتخاذ القرار وكل نشاط سياسي إلى فعل منظم، يُمارس ضمن الصياغات القانونية والدستورية، ومن خلال آليات تحددها هيئات ومجالس تشريعية، وتنفذها هيئات إدارية. بحيث لم يعد بامكان المتنفذ فعل ما يحلو له دون الأخذ بعين الاعتبار التبعات الدستورية والقانونية لما سيقترف. وحتى في الدول التي تتغول فيها السلطة التنفيذية على القضائية، لا إمكانية لتجاوز القانون إلا في نطاقات محدودة، ولو تم تجاوزها، فسيكون منذراً بإنهيار التعاقد القانوني المؤسس للمجتمع والضامن لاستقراره.

أما التحول الجوهري الثاني الذي عرفته السلطة، فهو تحول في شكل ممارسة السلطة، من كونها تمارس من خلال أدوات بسيطة ومباشرة، كاستخدام القوة المباشرة، إلى كونها اليوم تنزع إلى أشكال جديدة، ذات طابع أكثر نعومة وخِفية.

منذ ابن خلدون وميكافيللي، ومن بعدهما هوبز، وصولاً الى المدرسة الماركسية، والسلطة تعرف بأنها المحتكر الوحيد للعنف في المجتمع. ولكن، اليوم، تحولت مما كانت عليه دائماً باعتبارها ظاهرة الاحتكار للعنف في المجتمع، إلى كونها اليوم الاحتكار “الشرعي” للعنف؛ أي الاحتكار الذي يتمثل في الضمير الجماعي، كسبيل لتحقيق المجتمع المستقر.

حيث تستمد السلطة السياسية اليوم، بصفتها “شرعية”، وجودها من رضا المحكومين وقبولهم لها، في حين كان الحال في الماضي لا يشترط هذا الرضا، طالما كان الحكام قادرين على إخضاع المحكومين، ولم يكن المحكومين قادرين على كسر “شوكة” الحاكم والخروج عليه.

وفي سبيل تحقيق هذه “الشرعية”، انتقلت الدولة الحديثة من العنف المادي إلى ميدان “العنف الرمزي”، حيث لم يعد الاعتماد فقط على الوسائل المادية المختلفة لإخضاع الجموع والسيطرة عليهم؛ من ممارسة القوة المباشرة على الأجساد، أو استخدام أساليب العقاب والمكافأة. فلجأت السلطة السياسية إلى الوسائل الرمزية، وسعت إلى السيطرة على أدوات الإعلام وتشكيل الرأي العام، ومختلف وسائل التربية، والتنشئة الإجتماعية، وتلقين المعرفة والإيديولوجيا.

إن مجرد القوة المادية اليوم لا تعني السلطة السياسية، وإنما الذي يجعل من القوة سلطة سياسية هو تمثلنا الإجتماعي لها (أو باصطلاح بورديو: الهابيتوس)؛ أي ربطها في ضمائرنا بالخير العام، فتبدو لذلك “شرعية”. وبذلك غدت السلطة اليوم ذات طابع أكثر رمزية، ولامرئية، ولم يعد يمكن أن تمارَس، إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها، بل ويمارسونها. وهنا نرى مرة أخرى السلطة متشظية منتشرة بين مختلف وحدات المجتمع.

التحول الثالث لطبيعة السلطة جاء من داخل بُنى السلطة نفسها، مع انفتاح السلطات المحلية المختلفة على بعضها البعض في إطار سيرورة “العولمة”. حيث تجسدت هذه العولمة في مؤسسات وهيئات أممية كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، وفي الشركات متعددة الجنسيات، والتي أخذت في التأثير على عملية صنع القرار الداخلي للسلطات السياسية المحلية.

رافق هذا التراجع للسلطة المحلية انتقاض ونخر داخلي لها تمثل في السياسات النيوليبرالية، والتي فصلت السياسة (الدولة) عن الاقتصاد، مما أطلق سيرورة “الخصخصة” والتي عملت على تآكل الدولة، وتحول الحكم تدريجياً من الساسة إلى رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال. مما تبلور في تبعية “السياسي” لـ “الاقتصادي”. وأين هو خضوع شركة كشركة الهند الشرقية للحكومة البريطانية في القرن التاسع عشر من خضوع حكومات اليوم لإملاءات شركات النفط اليوم؟

السيروة الأخيرة التي سنشير اليها جاءت من خارج نطاق السلطة، وهي التي رافقت “الثورة المعلوماتية” وتمثلت في صعود العوالم الافتراضية الموازية وزيادة دائرة انتشارها، والتي تبلورت في “المجتمع الشبكي”، حيث أتاحت “شبكات التواصل الإجتماعي”، القدرة للجميع على المساهمة في تشكيل الرأي العام، وعرض وجهات النظر التي لا تتبناها السلطات الحاكمة إزاء الأحداث المتلاحقة، وسهلت الوصول إلى المعلومات، بعد أن كانت أسراراً و حكراً على صانعي القرار. كما وفرت القدرة على التجمهر والحشد، و كل ذلك انتهى إلى زيادة و مضاعفة شريحة المشاركين والمتابعين للحدث السياسي والفاعلين فيه.

كما ساهمت هذه العوالم في خلق شبكات من العلاقات المبنية على الاجتماع على أسس اختيارية من تقارب فكري واتفاق على مشاريع مشتركة، الأمر الذي ساهم في تعطيل آليات الإخضاع التي تمارسها السلطة، والتي تسعى إلى تذرير المجتمع، أو الإبقاء عليه ضمن تجمعات، كالعشيرة والطائفة، والتي يسهل السيطرة عليها والتحكم في أفرادها.

ما قدمناه أعلاه ليس من قبيل التحليل الدقيق والتنبؤ العملي. هو إشارات متفرقة إلى مجموعة من السيروروات الآخذة بالتبلور، على مدد زمنية متوسطة وطويلة، والتي تنبئ بتراجع السلطة السياسية وتأثيرها في المجتمعات، وبزيادة شريحة وتأثير الفاعلين السياسيين من الأفراد العاديين.


[1] باعتبار أن السلطة هي القدرة على اتخاذ القرار وإنفاذه.

[2] نريد هنا “الطبقات الوسطى” بمعناها “السوسيو – سياسي” لا “السوسيو – اقتصادي”.

[3] وهم الذين تلقوا تعليماً جامعياً يؤهلهم للإشتغال بالمهن الفنية العليا، ويتسع المفهوم ليشمل كل من ينخرط في ممارسة مهن غير يدوية.

[4] وهي النظرية التي طورها كل من جيمس بيرنهام، وفيبلن (Veblen)، والتي استندا فيها على التراث الفيبري.