اتجهت مصر في مطلع 2015م إلى تطبيق ما يسمى بسياسات تعويم العملة الحر، وكان ذلك وفقا لما أوصى به صندوق النقد الدولي. وما لبث ذلك حتى اتجه البنك المركزي إلى تطبيق سياسات تخفيض العملة في نهاية 2015م وفقا لتوصيات البنك الدولي، وهو ما أثر بطبيعة الحال على كل من المواطن إذ أدى لزيادة أسعار السلع، والمنتج بسبب زيادة تكاليف الإنتاج.


تعويم العملة

اتجهت القيادة الاقتصادية إلى سياسات تعويم العملة بإخضاع معدل صرف الدولار لموجات الطلب عليه والعرض منه

اتجهت القيادة الاقتصادية إلى سياسات تعويم العملة بإخضاع معدل صرف الدولار لموجات الطلب عليه والعرض منه، ولذلك أطلق على هذا النظام تعويم العملةFloating، أي ترك قيمة العملة عائمة ترتفع وتنخفض مع موجات الطلب والعرض. ومع اتباع مثل هذه السياسات، تتم إدارتها من قبل البنك المركزي ضمن ما يسمى بعمليات التعويم المدار، وذلك لخطورة اتباع التعويم المطلق للعملة. وتنحصر مهمة البنك المركزي في وضع حد أقصى لمعدل صرف الدولار، وهو السقف الذي لا يمكن تجاوزه عند التداول، وحد أدنى لمعدل الصرف وهو الأرضية التي لا يمكن النزول عنها. ويتم حصر المشكلة في مصر في نقص العملة الأجنبية الحاد في السوق لعدة عوامل:

تراجع تدفق الدولار من مصادره في مصر وذلك بسبب تراجع قطاع السياحة حيث أنه كان يوفر 12 مليار جنيه للاقتصاد المصري. أما في الوقت الحالي فهو يعاني الهبوط الحاد مما أثر تأثيرا واضح على المعروض من الدولار في السوق المصري. وكذلك تراجع تحويلات المصرين العاملين بالخارج وهي التي انخفضت في الآونة الأخيرة. وتراجع عائدات الغاز المصري الذى هبط بنحو 88% خلال 3 سنوات وذلك بسبب نضوب الغاز؛ الأمر الذي أدى إلى نقص المعروض من الدولار وكذل تصدير الغاز لإسرائيل بأسعار منخفضة جدا عن مثيلتها العالمية.

ارتفاع المعدل السنوي للتضخم العام من 7.88% في أغسطس عام 2015م إلى 9.21% في سبتمبر 2015م. كما ظل المعدل السنوي للتضخم الأساسي عند مستواه دون تغير 5.55% وهو ما يشير إلى ارتفاع مؤشر التضخم في مصر، وهو ما يصاحبه انخفاض القوة الشرائية للجنيه ومن ثم انخفاض قيمته، مع ارتفاع معدلات الفائدة.

وفقا لمؤشرات البنك المركزي فإن العجز في حساب المعاملات الجارية وصل إلى 12.2 مليار دولار مقابل 2.7 مليار دولار العام السابق، أي ما يقارب 100 مليار جنيه مصري. وارتفع العجز في الميزان التجاري بنسبة 13.9% حيث وصل إلى 38.8 مليار دولار مقارنة بمقداره العام الماضي والذي كان يبلغ 34.1 مليار دولار أي ما يقرب من 315 مليار جنيه مصري.

تتأثر قيمة العملة بالاستقرار السياسي من خلال المخاطر المصاحبة للاستثمار بهذه العملة

عدم الاستقرار السياسي حيث تتأثر قيمة العملة بالاستقرار السياسي من خلال المخاطر المصاحبة للاستثمار بهذه العملة. فإذا ارتفعت درجة عدم الاستقرار السياسي في دولة ما، مثل شيوع الإضرابات أو نشوب الحروب.. إلخ، ترتفع مخاطر الاستثمار في هذه الدولة. وإذا لم يصاحب ذلك ارتفاع في علاوة المخاطرة في معدل العائد على الاستثمار، فإن الإقبال على الاستثمار في أصول هذه الدولة يقل (انخفاض عرض العملة الأجنبية)، بينما يزيد الطلب على الاستثمار في الأصول الأجنبية (زيادة الطلب على العملة الأجنبية) ومن ثم ترفع معدلات صرف العملة الأجنبية، والعكس. ويعد من أهم الإضرابات التي حدثت خلال هذا العام، إضراب عمال شركة غزل المحلة، خاصة بعد قرار الحكومة المصرية بعدم تطبيق العلاوة الاجتماعية على العاملين في قطاع الغزل والنسيج على مستوى الجمهورية، وذلك بزعم أن هذه الشركات لا ينطبق عليها قانون الخدمة المدنية. ثم الاضطراب السياسي الداخلي، وهو ما يؤثر سلبا على الاستثمار الأجنبي، إضافة إلى العمليات الإرهابية المستمرة.

إضافة إلى تراجع إيرادات قناة السويس وطلب قرض يقدر بـ 300 مليون جنيه لسد مستحقات الشركات التي شاركت في حفر القناة، مع عدم إدارة بند الأجور والمرتبات بطريقة سليمة والذي ظهر في منح معاشات استثنائية لضباط الصف ومنح زيادات للعمال بجامعة حلوان وجامعات أخرى، وترك قطاعات أخرى تعاني من تأخر دفع مستحقات العاملين.


تحديات دعم الإقتصاد

تدخل البنك المركزي بتخفيض قيمة الجنيه المصري، فتراجعت قيمته في السوق الرسمية، مقابل الدولار الأمريكي

وفي ظل هذه الضغوطات والمؤشرات التي لم تعد في صالح الاقتصاد المصري، تدخل البنك المركزي يوم الخميس 15 أكتوبر 2015م بتخفيض قيمة الجنيه المصري، فتراجعت قيمة الجنيه المصري في السوق الرسمية، مقابل الدولار الأمريكي، لمستوى 7.88ج للشراء و7.93ج للبيع، عقب أول خفض رسمي للعملة في مصر منذ شهر يوليو الماضي، وهو الشر الذي لابد منه في ظل ما يعاني منه الاقتصاد المصري، حيث قال رئيس قطاع الخزانة ببنك التنمية الصناعية والعمال المصري، هيثم عبدالفتاح، إن الخفض يسعى لتحقيق 5 أهداف رئيسية من أجل دعم الاقتصاد الذي مر بتحديات ضخمة منذ أحداث 25 يناير:

1– زيادة الصادرات: وأضاف عبدالفتاح أن البنك المركزي يسعى من خلال الاستمرار في تخفيض قيمة العملة المحلية لرفع درجة تنافسية الدولة، ومن ثم زيادة صادراتها نتيجة انخفاض أسعار هذه الصادرات بالنسبة للأجانب، كما يترتب على تخفيض قيمة العملة ارتفاع أسعار الواردات بالنسبة للمقيمين في الدولة، وهو ما يؤدي إلى تحويل الطلب على السلع المنتجة محليا بدلا من تلك المستوردة، أو يشجع الصناعات البديلة للواردات، بما يساعد على تخفيض العجز في الميزان التجاري أو تحقيق فائض به.2- الحفاظ على الاحتياطي: ويتمثل الهدف الثاني في أن يكون سعر العملة مجابها لقوة الاقتصاد، مع التقارب المتحكم فيه تجاه وضع أكثر واقعية لانعكاس الوضع الاقتصادي الحالي، والتدفقات من العملات الأجنبية الحقيقية، كما يحاول أيضا السيطرة على السوق للحفاظ على احتياطي النقد الأجنبي الذي تراجع بشكل حاد خلال الفترة الأخيرة، بحسب رئيس قطاع الخزانة.3-زيادة الاستثمارات الاجنبية: ولفت إلى أن خفض البنك المركزي المصري سعر صرف الجنيه يستهدف في المقام الثالث تحقيق طفرة كبيرة في تدفق الاستثمارات الأجنبية على سوق الأسهم والسندات في مصر، وجاء تخفيض العملة مجددا ليعكس القيمة الحقيقية للجنيه في ظل هذه المتغيرات، وليضع سياسة مستقرة لسعر الصرف مستقبلا.4-محاربة السوق السوداء: وقال إن الهدف الرابع من خفض العملة المحلية يتبلور في تقليص الفجوة في سعر الصرف في السوق الرسمية والسوداء، ودعم احتياطي النقد الأجنبي، من خلال السياحة التي سترتفع نتيجة انخفاض العملة التي أنفق المركزي مليارات كثيرة منذ 25 يناير 2011 لدعمها، فيما شهدت أسعار صرف الدولار بالسوق السوداء زيادة كبيرة مؤخرا، وهو ما دفع البنك المركزي للتدخل من خلال مزادات دورية لبيع العملة.5-الاقتراض من البنك الدولي: وأشار إلى أن مصادر مطلعة بالبنك المركزي قالت إن تخفيض قيمة الجنيه مجددا أمام الدولار أحد شروط البنك الدولي لمنح مصر قرض بقيمة 3 مليارات دولار تتفاوض عليه الحكومة لدعم الموازنة.


الخروج من الأزمة أم الخراب الحتمى؟

النجاة تكمن في أهمية إعادة جدولة هيكل الواردات المصرية، فمصر تعتمد على استيراد الكثير من السلع التي يمكن الاستغناء عنها (السلع الكمالية والرفاهية) وبالتالي نحن أمام فاتورة واردات دولارية كبيرة، وفي المقابل دواخل دولارية مستمرة في التناقص؛ الأمر الذي أدى إلى عدم وجود توازن بين العرض والطلب على الدولار، وخلق الفجوة التي تعيش مصر في طياتها الآن وهو ما يجعل من سياسات التعويم «الخراب الحتمي» حيث أن سياسات التعويم لن يكون أثرها على السلع (ارتفاع أسعار السلع) فحسب، بل سينتقل أثرها إلى تكلفة الإنتاج بصفة عامة (ارتفاع كلفة الإنتاج)، ومع ترك السوق بدون ضوابط سوف يؤدي ذلك إلى انحدار كبير جدا في سعر الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي حيث أنه يمكن أن تصل قيمة الدولار إلى 12 جنيه مصري.

حيث أن سبيل نجاح هذه السياسة يكمن في زيادة صادرات مصر، وهو الصعب عمليا، فلا يوجد إنتاج بطبيعة الحال وبطبيعة المرحلة، كما أن تكاليف الإنتاج سوف تزيد بسبب الاعتماد على استيراد المواد الخام، فمثلا صناعة الغزل والنسيج تعتمد على القطن قصير ومتوسط التيلة الذي يتم استيراده من الخارج، في حين أن المزروع في مصر هو طويل التيلة، وذلك يرجع لمنظومة الفساد التي لا تنتهي. وكذلك فإن هيكل الصادرات المصرية من المواد الخام لابد من مراجعته حيث يتم تصدير الغاز إلى إسرائيل بأسعار لا تقارن بالأسعار العالمية وهو ما يجعل من الغاز الطبيعي السلعة المجانية لإسرائيل.

تشجيع الصادرات والحد من الواردات من أهم عوامل نجاح التخفيض

في ظل وضع أهداف بين المسار الوهمي الذي ترسمه الحكومة، والخيال الحتمي المخبأ وراء التبعية الاقتصادية، فإن هناك عدة عوامل يتوقف عليها نجاح التخفيض تكمن في تشجيع الصادرات والحد من الواردات تتمثل في: درجة مرونة الإنتاج المحلي من السلع والخدمات القابلة للتصدير، بمعنى، هل يستطيع ذلك الإنتاج أن يتزايد بنسبة تساير انخفاض سعر صرف العملة الوطنية؟ وثانيا على درجة مرونة الطلب في الخارج على الإنتاج المحلي من السلع والخدمات القابلة للتصدير، وهل يتزايد هذا الطلب بنسبة تساير التخفيض؟ وثالثا درجة مرونة الطلب الداخلي على السلع والخدمات المستوردة، وهل يقل هذا الطلب نتيجة التخفيض الذي تم على قيمة العملة الوطنية؟

وفي ظل طرح هذه الأسئلة ستكون الإجابة الحتمية لا، فلا يوجد هيكل إنتاجي في مصر، وكذلك الهيكل الاستهلاكي يصيبه الخلل وهو ما أشار له دايتون في إسهامه الاقتصادي الذي حاز على نوبل للاقتصاد، وهو ما يجعل مصر تواجه موجة من الفقر الحتمي، فالمعضلة لم تصبح في الهيكل الإنتاجي فحسب، بل امتدت إلى الهيكل الاستهلاكي مما يدعونا للقول بأن مصر بصدد نكسة اقتصادية لا تقل كثيرا عن النكسة العسكرية في 1967م.