لم يلبث «مصطفى كمال أتاتورك» أن أعلن إلغاء الخلافة العثمانية وبداية الحقبة العلمانية في بلاده، بما ستشهده من انسلاخ جبري من الهوية الإسلامية، عام 1924م/1341ه، حتى ظهرت مساعٍ عدة لوراثة عرش إمارة المؤمنين. مثل محاولات «الشريف حسين» في الأردن، وبعض ملوك الأسرة العلوية الحاكمة في مصر، إلى جانب الحركات الاجتماعية والسياسية التي نشطت في أرجاء العالم الإسلامي بهدف ملء الفراغ الهوياتي لدى الجماهير المسلمة.

تزامنت مع هذا الحراك السياسي جهود فكرية ولدتها ظروف غياب الخلافة ونشأة أسئلة «ما بعد الخلافة؟»، حيث كانت هذه الجهود على طرفي النقيض، كان من أشهرها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ «علي عبد الرازق»، حيث يقول إن: «الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها». أثار ذلك حفيظة قطاع كبير من الجماهير والمفكرين.

ألف كثيرون في الرد عليه، مثل الشيخ «محمد الطاهر بن عاشور»، علامة تونس، والشيخ «محمد بخيت»، مفتي الديار المصرية آنذاك. مع الانتباه إلى أن موضوع الخلاف – عمليًّا – لم يكن منصب الخلافة فحسب، كما سيظهر بمرور الوقت. إذ اتسع تدريجيًّا حتى شمل نصوص الكتاب والسنة والأحكام الفقهية المتعلقة بأصول وفروع مختلفة، من طبيعة نظام الحكم وسلطات الدولة والحدود، إلى أحكام الأسرة من ميراث وزواج. كان كتاب عبد الرازق بمثابة شرارة جدل سيدوم إلى يومنا هذا، وشارك فيها عرب وعجم، مسلمون وغير مسلمين، شيوخ ورجال قانون وفكر وفلاسفة، حتى يسعنا القول إن حدود العلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام، كان – وما يزال – السؤال الأهم والأبرز على مدى المائة عام الأخيرة تقريبًا.

من وجهة نظر الجانب «العلماني»؛ يمكن القول إن صعوبة استخلاص إجابة حاسمة على هذا السؤال، إجابة تنسجم مع النص المقدس وحقبة التشريع (البعثة والخلافة الراشدة، على أشهر الأقوال)؛ ترجع بالأساس إلى عظم عمر تجربة الحكم الإسلامي، التي تكاد تستغرق تاريخ الدين الإسلامي بأكمله. على طول هذا العمر المديد، وفي كل الدول الإسلامية المتعاقبة والمتزامنة (أموية، عباسية، أيوبية، صفوية، فاطمية… إلخ)، أقام المسلمون تراثهم المعرفي بأكمله مستبطنين فرضية تأبد/ ديمومة التشريع الإسلامي، سواء على مستوى الدولة أو الفرد، حتى صار استخلاص الديني من السياسي في غاية الصعوبة. خلال هذه القرون، لم يكن هذا السؤال ليخطر على البال بصورة تدفع إلى مناقشته أو التفصيل فيه، خاصة خلال القرن الأول الهجري، لتمثل الصحابة والتابعين صورة النبي مشرعًا وحاكمًا، بما فيها من إيهام بتلازم الوظيفتين، بينما كان ذلك هو أنسب توقيت لهذا السؤال، قبل تراكم شتى العلوم والآداب والفنون فوق هذه المسلمات.

أما الجانب «الإسلامي»، فيرى هذه الاستحالة النسبية للفصل، والبداهة التي تعامل بها المسلمون – علماء وعامة – مع ارتباط التشريع الديني بالشأن السياسي نتيجة ودليلًا على أصالة هذا الارتباط، إذ «أجمع المسلمون على أن إصلاح السياسة شطر من مقاصد الإسلام»، «فولاية الرسول، صلى الله عليه وسلم، كانت على القلوب ثم على الأجسام، وكانت ولاية هداية وتدبير لصالح الحياة، وكانت رياسة دينية وسياسية، وكلاهما من عند الله، ولا بعد بين السياسة والدين إلا في نظر قوم لا يكادون يفقهون حديثًا»، وفق نص كتاب «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»، الصادر عام 1926، للشيخ «محمد الخضر حسين»، شيخ الأزهر الشريف لاحقًا.


عن الكتاب

اليوم، بعد تأمل الجهود المبذولة في هذا السياق، يرى «أمحمد جبرون»، الباحث المغربي وأستاذ التاريخ، «أن الكثير من المشاكل والصعوبات التي يعانيها الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ناتجة بالأساس عن الفهم المغلوط لماضيه، وفي صلبه الوعي بالنشأة وظروفها من جهة، والشكل الذي اتخذته العبارة السياسية في البدء من جهة أخرى». لكن رغم «الكلفة الحضارية الباهظة التي تؤديها الأمة العربية جراء سوء الفهم هذا»، ما تزال المكتبة العربية تشهد على «الندرة الواضحة للدراسات العلمية التي تتناول هذه النشأة»، مما دفع الباحث إلى تدوين كتاب «نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره: دراسة في المثلث الإشكالي المدنية والأصالة والعقلانية السياسية»، الصادر عن منتدى العلاقات العربية والدولية في العام 2015، والفائز بجائزة المغرب للكتاب في مجال ​العلوم الإنسانية‎ في العام 2016.

يقدم الكتاب قراءة في أدبيات السياسة الإسلامية، مستقصيًا تطور المسائل التي عالجها الفكر السياسي، ودور المستجدات السياسية والتفاعل الثقافي في إثارة هذه المسائل وفي معالجتها أيضًا. كما يسلط الضوء على دور النص الديني في هذه المعالجات، وطبيعة التوظيف المبكر له من قبل التيارات الإسلامية الرئيسية. وشمل البحث الحقب التاريخية الثلاث الأول: دولة الرسول، منذ الهجرة إلى الوفاة (1-11 هـ). ثم الفترة السابقة لعصر التدوين، بداية من الخلافة الراشدة حتى سقوط الخلافة الأموية (11-132 هـ). وأخيرًا عصر التدوين، منذ قيام الخلافة العباسية إلى فترة متأخرة منها، تختلف من فن إلى آخر، إذ تأخر التدوين في بعضها حتى القرن السادس الهجري. يختص كل فصل من الثلاثة الأولى بواحدة من الحقب التاريخية المذكورة، على الترتيب. بينما حوى الفصل الأخير نظرات في الفكر السياسي الصوفي.


السلطة السياسية في دولة الرسول: الأصول المدنية لإشكاليتي الشرعية والدولة

يبدأ الفصل الأول بتعريف إجرائي للسلطة السياسية، يجعل لها قاعدتين رئيسيتين. أولًا الشرعية، التي تنالها السلطة بسمو الغاية التي تزعم تمثلها، والرضا العام عن هذه السلطة، وبهما يصبح الانصياع لها فضيلة ومصلحة اجتماعية. أما القاعدة الأخرى فهي مجموعة الآليات التي تنفذ بها السلطة إرادتها. ينطلق الكاتب من هذا التعريف في محاولة للكشف عن الطبيعة الجوهرية للسلطة السياسية في عصر الرسول. فيبدأ بـ«صحيفة المدينة»، شهادة ميلاد هذه السلطة. يستخرج الكاتب منها رؤية الرسول لمهام هذه السلطة، وسبب الحاجة إليها. لقد استهدفت الصحيفة إنشاء جماعة سياسية مدنية، تتجاوز الانتماء القبلي، تحفظ الأمن والعدل بين أفراد المجتمع. في البداية، جعلت الصحيفة من المؤمنين، المهاجرين والأنصار، أمة واحدة من دون الناس. لكن سرعان ما دخل تحتها غير المسلمين. كان منهم اليهود، الذين قال الرسول فيهم «لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم»، و«إن النصر للمظلوم». ولما كانت إقامة للعدل غير متصورة دون مرجع قانوني موحد، للمؤمنين وغير المؤمنين، فوض المجتمع ذلك إلى الله ورسوله.

يؤكد الكاتب أن السلطة السياسية ساعتها كانت مدنية، تهدف إلى حفظ الحقوق والسلم المجتمعي، بين أمة واحدة مختلفة الأديان. حتى أن من اليهود والمنافقين رجالًا شاركوا وقتلوا في المعارك الأولى، دفاعًا عن المجتمع. لكن نقض قبائل اليهود لعهدهم مع أهل المدينة، في مناسبات مختلفة، شكل تهديدًا جسيمًا للأمن القومي، كاد يفضي إلى هلاك المسلمين. فعوقبوا بالقتل والسبي مرة، وصولحوا على الجلاء مرات. ويقدم الكاتب التفسير نفسه للعلاقات السياسية بين المسلمين ومشركي العرب، التي اختلفت ما بين القبائل المعادية، مثل قريش، قبل فتح مكة، والقبائل التي دخلت في حلف المسلمين. أما عند الأمر بقتال المشركين بعد الفتح فيستشهد بالآيات نفسها التي تضمنت الأمر على الدافع السياسي والاحترازي للقتال. هكذا، يمكن القول إن طابع الأمة التعددي فقد نتيجة لظروف سياسية، اضطرت المسلمين إلى إعادة النظر في علاقتهم باليهود والمشركين بعد خياناتهم. وينبه الكاتب إلى أن المسلمين لم يضروا قبيلة مسالمة بدافع ديني قط، إلا فعلة «خالد بن الوليد»، التي تبرأ منها الرسول، وأدى الدية إلى أهلها. ويتجاوز جبرون سريعًا ما نقل عن وصية الرسول بإجلاء المشركين عن الجزيرة.

استعرض الكتاب النهج الإصلاحي في التشريع الإسلامي، الذي استهدف تأسيس مفهوم خاص للعدالة. يظهر ذلك بوضوح في تشريعات «عناصر الهشاشة في المجتمع»، أي النساء وغير ذوي الشوكة واليتامى. حيث نزل الوحي – مثلًا – بتقييد الطلاق بمرتين كي لا تضار النساء، وأمر بالعدالة في القصاص، وحض على حفظ مال اليتيم. بعدها عرج الكاتب على باب المزارعة والبيوع، لبيان أثر هذا التوجه الإسلامي العدلي، على أحكام الرسول، التي جاءت جميعها لتقويم الوضع الاجتماعي والاقتصادي آنذاك.

في نهاية الفصل ينبه الكاتب إلى أن نشأة السلطة السياسية، المدنية، في المدينة، لم تنتج عن وحي أو أمر إلهي سابق، بل اجتمع الناس إلى الرسول وارتضوه حاكمًا لهم، فيهم المسلم وغير المسلم. لكن ألا تدل نصوص الكتاب والسنة، التي تعالج مسائل السياسة والاجتماع، على اختصاص التشريع بهذه المساحة؟ يجيب الكاتب بالإشارة إلى ما اتفق عليه الفقهاء، من تقسيم النص التشريعي إلى قسمين، «ما تأخر حكمه عن نزوله»، و«ما تأخر نزوله عن حكمه». منبهًا إلى أن أكثر الآيات المرتبطة بالشأن السياسي، هي من القسم الثاني، الذي تأخر نزوله عن حكمه (يقصد بالحكم هنا التطبيق العملي أو الواقعة التاريخية). كان النبي يشاور الصحابة وينتقي الحكم الموافق للقيم الإنسانية الإسلامية، فينزل الوحي مزكيًا الاختيار الصائب ومصححًا ما كان غير ذلك. لذا، لا يرى الكاتب جواز الاستناد إلى هذه النصوص كدليل على دينية السلطة. كما يحدد بداية الخلل في فهم العلاقة بين الديني والسياسي، بمحاولة الفقهاء والأصوليين استثمار الخطاب الشرعي، عبر قاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، التي سمحت بتجاهل أسباب النزول والظرف التاريخي، وتحويل النصوص إلى قوانين مطلقة، مطلوبة لذاتها.


الفكر السياسي الإسلامي قبل عصر التدوين: الخصائص والسمات

في مقدمة الفصل الثاني، يأسف الباحث للغموض الذي يكتنف الفكر السياسي خلال هذه الحقبة (11-132هـ)، بسبب إهمالها في أكثر المؤلفات. يقر بندرة ما بين أيدينا من أدبيات هذه الفترة، نتيجة لغلبة المشافهة، لكنه يلوم الباحثين لقلة الجهد المبذول، بما لا يتناسب مع الأهمية الاستثنائية لهذه الفترة. يسرد الفصل تطور الأحداث عقب وفاة الرسول. من اختيار المسلمين للإمام بنوع من الشورى مرات قليلة. ثم الانقسام مع الفتنة إلى شيعة، وسنة/معتزلة، وخوارج. وبداية الخلاف الكلامي والفقهي حول الإمامة. ثم تأسست الدولة الأموية، وأصبح للشوكة (القوة) دور حاسم في اختيار الحاكم. ثم نشاط الحركات المعارضة للحكم الأموي، من خوارج وشيعة في الأعم، فشلت كلها، إلا الحركة العباسية التي كتبت لها الغلبة في النهاية.

استعرض جبرون من الأصناف الأدبية التي حررت في هذه الفترة ما ضم شيئًا من الفكر السياسي. إذ لم تفرد له مؤلفات خاصة بعد، آنذاك. تحدث عن كتب الأمثال (حكم العرب)، وكتب الآداب والمسامرات، والخطب والرسائل. ثم تناول آثار المتكلمين الأوائل – مع الانتباه إلى عدم تمام التمايز بين الفرق حينها – مشيرًا إلى الخلفيات السياسية لمعظم المواقف الكلامية. ومما ذكره، حديث الشيعة في العقائد عن شروط الإمامة، وإنكارهم إمامة المفضول. وكذا ارتباط القدرية (المعتزلة) – القائلة بمطلق مسئولية الفرد عن أفعاله – في هذا العصر بالعلويين الثائرين، وأرجع الكاتب قولهم بالمنزلة بين المنزلتين إلى الاختلاف حول خلافة علي. ثم ختم المبحث بآراء الفقهاء الأوائل، الذين غلبت عليهم المعارضة السياسية بالفقه والفتوى وأحيانًا السيف. مثل قتال «مسلم بن يسار» تحت راية «ابن الأشعث»، الذي ناصره «سعيد بن جبير»، حتى استعمله على الصدقة والعشور في الكوفة خلال الثورة.

بشكل عام، تميز الفكر السياسي الإسلامي، في هذه الحقبة، بخمس خصائص رئيسية. أولها، عدم الاستقلال المعرفي، إذ جاءت أكثر جمل الفكر السياسي فصولًا في أدبيات متباينة الأهداف. ثانيًا، غلبة التداول الشفوي، مما يسم المنقولات بالضعف أمام النقد. ثالثًا، الارتباط بالبيئة وعادات العرب السياسية. رابعًا، التأثر بالمحيط الثقافي، حيث ذكر قوة التأثير الفارسي، وأثره الواضح في الظاهرة الشيعية، التي تبنت معتقدات فارسية قديمة، مثل الوصية والمهدية. أخيرًا، العفوية المنهجية، البادية في ضعف حضور النصوص الشرعية في المواد السياسية قبل عصر التدوين، بينما يكثر التعويل على الحكمة وتجارب الأمم.


تدوين الفكر السياسي الإسلامي: نشأة العلاقة بين الوحي والسياسة

في الفصل الثالث يحاول الكاتب «إجلاء الخصائص النوعية للفكر السياسي الإسلامي لحظة التدوين، مع التركيز على الخلفيات التاريخية والسياسية لها». فيبدأ بقراءة للحالة السياسية والثقافية خلال هذه الحقبة. حيث تفجرت الآداب والفنون بدرجة لا تقارن بسابقة. وبلغت العناصر غير العربية، خاصة الفرس، مكانة غير مسبوقة في الدولة. وتبلورت المقالات العقدية للسنة، بسبب استشعارهم خطر الخلفية الشيعية للدولة العباسية. ناهيك بالطبيعة الاستقطابية المذهبية للخلافة العباسية، حتى شايعت المعتزلة حينًا والأشاعرة حينًا. وكان في ذلك إخصاب للبيئة الثقافية، وإثارة للأسئلة السياسية الجديدة.

قدم جبرون قراءة تحليلية لأول نصوص الفكر السياسي، المتفرقة بين أجناس معرفية أربعة: الكلام السياسي، الفقه السياسي، الآداب السياسية، الفلسفة السياسية. ولن نعرض هنا للصنفين الأخيرين؛ لضعف ارتباطهما بهدف البحث الرئيسي. أما في قسم علم الكلام، المعني بالعقيدة الإسلامية، ففصل الكاتب بعض الشيء في تطور مفهوم الإمامة لدى المذاهب الإسلامية الرئيسية (شيعة وخوارج وأهل السنة). ثم انطلق من هذه الإطلالة البانورامية، مؤكدًا أن «نظريات الإمامة التي تبلورت خلال عصر التدوين»، هي «انعكاس لشكل وطبيعة الصراع على السلطة السياسية»، مثلما هي «انعكاس للثقافات الداخلة للإسلام». أي أنها اجتهاد تاريخي تداخلت فيه الحالة السياسية مع الثقافية، لا تعبير موضوعيًّا عن رأي الإسلام في طبيعة الحكم. مستدلًّا بتأخر استناد أئمة الفرق إلى النص الديني، سواء الكتاب أو السنة. ثم يؤكد جبرون «أن الميل الذي أصاب الفرق السنية وجنوحها الواضح نحو ما سميناه بالتشيع المنهجي خلال عصر التدوين»، «لم يغير من الطبيعة المدنية للإمامة في الإسلام، ولبداهة هذا المعتقد لدى الجمهور لم يكن بحاجة إلى معضدات نصية»، «خاصة في المراحل الأولى».

يعد الفصل الخاص بمكانة النص في الكلام السياسي من أهم مباحث الكتاب. حيث أكد جبرون خلو الحجاج الشيعي السني في الإمامة من النصوص الشرعية في البداية. بل اعتمد الشيعة قرونًا على الحجج العقلية. مثلما استدل السنة قرونًا على صحة إمامة «أبي بكر» بشورى الأمة، وتقديم النبي له في الصلاة. قبل لجوء الفرقتين لاحقًا إلى تأويل النصوص الشرعية. ولا تختلف حالة المرجئة والمعتزلة كثيرًا، الذين اتخذوا بداية الموقف السياسي، دون مستند شرعي، ثم تغير الحال مع تحول السياسي إلى عقدي.

ينتقل الكاتب إلى الفقه السياسي، الذي جاءت معظم أحكامه، قبل التدوين، ممتزجة بسائر مسائل الفقه. قبل أن يجمعها فقهاء عصر التدوين، من أهل الحظوة السلطانية – أو على الأقل ممن لا يملكون سببًا لمعارضة السلطة – ليسهل على الولاة الاستفادة منها. ثم مر الكاتب سريعًا على تطور فقه الخراج وفقه القضاء والأحكام السلطانية، محاولًا استنباط خصائصها العامة، التي جاءت موافقة لأهداف البحث. مع اهتمام الكاتب بواقعة أرض السواد، حيث عارض الخليفة «عمر بن الخطاب» استمرار العمل بتوجيهات الرسول في تقسيم الأراضي المفتوحة. لكنه لم يحاول الاستشهاد بالنصوص الشرعية، بل اعتمد على المصلحة العامة. وقد ضعف الكاتب ما روي عن استشهاد الفاروق بالآية العاشرة من سورة الحشر.

أرجع الباحث تغير الفكر السياسي الإسلامي، مع بداية عصر التدوين، إلى عدة عوامل، أهمها «الاستلاب الثقافي الفارسي»، حيث يمتزج السياسي والديني في الثقافة الساسانية بدرجة كبيرة. ويرى جبرون أن السبيل إلى الهرب من هذه الفورسة، ومن هيمنة القراءات الأيديولوجية، في العودة إلى الزمن النبوي المرجعي، حيث السنة في صورتها الصافية.


الفكر السياسي الصوفي: معين الطاعة وحصن الجماعة

في الفصل الأخير يحاول الكاتب تقديم النموذج الصوفي بديلًا عن النموذج الفقهي. فيعرض لبعض النصوص السياسية، التي دونها عدد من أئمة التصوف، منهم «أبو حامد الغزالي»، و«محيي الدين بن عربي»، و«الجنيد». تتناول النصوص أهمية الحكم الرشيد، وأثر صلاح الحاكم على حال الرعية، ومكانة الإنسان المكرم من الكون، وما شابه. إنها أشبه بالآداب السلطانية المذكورة آنفًا، الهادفة إلى تهذيب الحاكم، ومده بالنصائح والإرشادات والحكم، إعانة له على حسن سياسة الدولة. كما ناقش الفصل بعض الشخصيات التاريخية المثيرة للفتن، لإثبات عدم صحة انتمائها إلى التصوف. بشكل عام، يمكن اختصار دعوة الفصل في القاعدة التي حواها: «الإصلاح بالحكم أولى من الإصلاح بالأحكام».


عن البحث ونتائجه

في النهاية، يجمل أمجمد جبرون أهم نتائج البحث في خمس نقاط: الأولى: مدنية السلطة في المجال الإسلامي، والثانية: مدنية الدولة، والثالثة: الأصالة التاريخية للفكر الإسلامي قبل التدوين. والرابعة: الأصالة التاريخية للفكر السياسي الإسلامي خلال عصر التدوين. ويقصد بتاريخية الفكر السياسي الإسلامي عدم تطوره بمعزل عن الأحداث التاريخية، عن تأمل واستنباط محايد للنصوص، بل جاء ردود أفعال على المستجدات السياسية والثقافية، لعبت فيها النصوص الشرعية دورًا ثانويًّا، تعضيديًّا، في معظم الأحيان. ثم النتيجة الخامسة والأخيرة: الفكر السياسي الصوفي وجه آخر للأصالة التاريخية.

من أجل الوصول إلى هذه النتائج قدم جبرون تفسيره للخلط بين الديني والسياسي. منبهًا إلى الدور الرئيسي الذي لعبته الفورسة (التأثر بالفكر الفارسي)، وكذا محاولة استثمار النصوص الشرعية بقاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب». واستدل بندرة النصوص الشرعية في تبريرات الفرق الإسلامية لمواقفها السياسية، في المراحل المبكرة. لكن البحث، إجمالًا، يعيبه المزاعم المرسلة، وتجاوز الثغرات، التي كانت في حاجة إلى توضيح ومناقشة، أو دليل أو أكثر، أو حتى الإحالة إلى أعمال أخرى. مثل وصية الرسول بإجلاء المشركين عن جزيرة العرب، وبداهة انفصال الديني عن السياسي في الوعي الإسلامي المبكر. كما أهمل الكتاب مقالات أهل الحديث، وموقفهم السياسي، بشكل تام. إلا أنه عمل – بلا شك – يستحق النقاش، ويشجع على البحث، سواء للمؤيد والمعارض، ويحفز على دراسة حقبة لم تنل الاهتمام اللائق. وفي ذلك وغيره إثراء للمكتبة العربية، ومزيد إيضاح لحقيقة العلاقة بين الديني والسياسي، أبرز الإشكاليات التي شغلت الفكر العربي على مدى القرن الأخير. حتى كأنها متاهة تستنفد الجهد العربي، وتقيد الأفق السياسي، وتغبن حق إشكاليات مصيرية أخرى.

المراجع
  1. علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، 1972.
  2. محمد الخضر حسين، نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014.
  3. امحمد جبرون، نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره، منتدى العلاقات العربية والدولية، 2015.