محتوى مترجم
المصدر
Foreign Affairs
التاريخ
2014/07/15
الكاتب
Jan Werner Muller

أوروبا اليوم هي صنيعة الديمقراطيين المسيحيين الذين خططوا لمشروع التكامل الأوروبي ووضعوا أسس «الأطلنطويّة Atlanticism» في فترة ما بعد الحرب. لقد كان لهم دور حاسم في تشكيل نموذج الديمقراطية الدستورية التي سادت في النصف الغربي من القارة بعد عام 1945م وتوسّعت بشكل مطرد في الشرق منذ سقوط جدار برلين عام 1989. الشخصية السياسيّة الأقوى في أوروبا، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، هي واحدة من أنصار الحزب الديمقراطي المسيحي، وكذلك رئيس المفوضية الأوروبية، خوسيه مانويل باروسو، وخليفته المُعيّن، جان كلود يونكر. في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو عام 2014، فاز الممثل القاريّ للديمقراطية المسيحية -حزب الشعب الأوروبي- بأكبر عدد من المقاعد.

ولكنَّ الديمقراطية المسيحية كمجموعة من الأفكار وكحركة سياسية، أصبحت أقل تأثيرًا وأقل تماسكًا في السنوات الأخيرة. ويرجع هذا التراجع ليس فقط إلى المنعطف العلماني للقارة الأوروبية، ولكن أيضًا إلى حقيقة أنَّ القوميّة -واحدة من الأعداء الأيديولوجيين الرئيسيين للديمقراطيين المسيحيين- آخذة في الارتفاع، وأنَّ جوهر الدائرة الانتخابية للحركة، الطبقة الوسطى والناخبين في المناطق الريفية، آخذة في التقلص. ولذا، في ظلّ مواجهة مشروع التكامل الأوروبي مخاطر جديدة، قد يتجلى مدى عجز الداعم الأكثر أهمية عن الدفاع عنه.


دين أزليّ

«الديمقراطي المسيحي» هي تسمية تبدو غريبة لأي شخص اعتاد على الفصل الصارم بين الكنيسة والدولة. ظهر المصطلح لأول مرة في أعقاب الثورة الفرنسية وفي خضم معارك ضارية حول مصير الكنيسة الكاثوليكية في دولة ديمقراطية. وفي معظم فترات القرن التاسع عشر، رأى الفاتيكان الأفكار السياسية الحديثة -بما في ذلك الديمقراطية الليبرالية- باعتبارها تهديدًا مباشرًا لعقائده الجوهرية. لكنَّ المفكرين الكاثوليك هم الذين اتفقوا على نفاذ بصيرة الكاتب الفرنسي ألكسيس دي توكفيل لمّا جادل بحتميّة انتصار الديمقراطية في العالم الحديث، سواء شئنا أم أبينا. وسعى الليبراليون الكاثوليك لتوافق الديمقراطية مع الدين من خلال تنصير الجماهير كما ينبغي؛ فبالرغم من كل شيء، بحسب المنطق، فإنَّ ديمقراطية المواطنين الورعين God-fearing لديها فرصة أفضل للنجاح من ديمقراطيّة الذوات التي كانت علمانية. ويأمل بعض المثقفين الكاثوليك الآخرين في إبقاء الشعب تحت السيطرة من خلال المؤسسات المسيحية، لاسيما البابويّة، التي رآها المفكر الفرنسي جوزيف دي ميستر كجزء من نظام الضوابط والتوازنات في جميع أنحاء أوروبا.

سعى الليبراليون الكاثوليك لتوافق الديمقراطية مع الدين فبحسب المنطق، فإنَّ ديمقراطية المواطنين الورعين لديها فرصة أفضل للنجاح من ديمقراطيّة الذوات العلمانية.

الأهم من ذلك، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، رأى الفاتيكان في آخر الأمر فوائد ممارسة اللعبة الديمقراطية وتعزيز الأحزاب التي ستدافع عن قضايا الكنيسة. في البداية، فعلت الأحزاب الديمقراطية المسيحية ذلك بسوء نية، وكانت بمثابة جماعات المصالح داخل نظام استمرت الكنيسة في رفض شرعيته. وباستخدام مصطلح «ديمقراطي»، لم تكن تلك الأحزاب تشير إلى قبولها للديمقراطية التمثيلية، بل إلى طموحهم للعمل مع الناس العاديين. وحتى يومنا هذا، تتجلى هذه المقاربة في بروز مصطلحات مثل «الشعبي» أو «الشعب» في الأسماء الرسمية للأحزاب الديمقراطية المسيحية.

ازدادت قوة تلك الأحزاب في البلدان حيث كان هناك تقارب بين الكنيسة والدولة. ولم يكن هناك حاجة للديمقراطية المسيحية في دولة كاثوليكية متشددة مثل أيرلندا، على سبيل المثال، لكنها فشلت أيضًا في ترسيخ نفسها في فرنسا، حيث سخّر الكاثوليك جهودهم لإحداث تغيير كامل في النظام في مواجهة الحملات القمعية من الحكومات الجمهورية المعادية لرجال الدين. وعلى النقيض من ذلك، حيث كانت الحروب الثقافية بين القوى العلمانية والكنيسة شرسة ولكنها أدت في النهاية إلى طريق مسدود، كما هو الحال في ألمانيا وما يسمى دول البنلوكس (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ)، استثمر الكاثوليك في بناء الأحزاب السياسية.

أوضح أستاذ العلوم السياسية ستاثيس كاليفاس Stathis Kalyvas أنَّ قادة الحزب الديمقراطي المسيحي وسّعوا مصالحهم الخاصة في نهاية المطاف. كما جلبت ممارسة اللعبة الديمقراطية المكافآت والموارد، وفي النهاية وافق الحزب الديمقراطي المسيحي على المشاركة السياسية باعتبارها ممارسة شرعية. وبعد الحرب العالمية الأولى، عندما اجتاحت الديمقراطية أوروبا، رضخ الفاتيكان إلى حد ما: فبعد أن رفض تمامًا فكرة إقامة دولة قومية إيطالية ومنع الكاثوليك من لعب أي دور في تلك الدولة (حتى أنّه حظر التصويت)، أظهر البابا دعمه لحزب جديد يسمى «الحزب الشعبي الإيطالي Popolari». من خلال توحيد الفلاحين والطبقات الوسطى الدنيا، أصبح الحزب الشعبي ثاني أكبر حزب في البلاد بعد الاشتراكيين.

خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، فترت العلاقات بين الحزب الديمقراطي المسيحي والكرسي الرسولي في جميع أنحاء أوروبا. رأى الفاتيكان الأحزاب التي يمكن أن تهيمن كأحزاب مفيدة لكنه همّش الأحزاب التي كانت غير راغبة في اتباع تعليمات روما وتعاملت مع الدول مباشرة بدلًا من ذلك. وتحقيقًا لهذه الغاية، تخلي الفاتيكان عن أحزاب مثل الحزب الشعبي الإيطالي وأبرم عددًا من الاتفاقيات الدبلوماسية بهدف حماية المصالح الكاثوليكية، مثل معاهدة «رايخس‌كونكوردات Reichskonkordat» بين هتلر والكاردينال يوجينيو باسيلي، الذي أصبح فيما بعد البابا بيوس الثاني عشر في يوليو عام 1933.

لكنَّ الديمقراطيين المسيحيين كانوا تعدديين، قانعين بمجتمع أوروبي فيدرالي متشرذم يشبه إمبراطورية في القرون الوسطى أكثر من دولة حديثة ذات سيادة.

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الأحزاب الديمقراطية المسيحية تحرير نفسها من هيمنة الفاتيكان والقيام بدور قيادي في بناء النظام الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب. لم يكن من الممكن أن تكون الظروف أكثر ملاءمة من ذلك؛ فقد أدت الفاشية والحرب إلى تشويه سُمعة الحركات المتنافسة في اليمين، وكان يُنظر للأحزاب الديمقراطية المسيحية كأحزاب أطلنطيّة مناهضة للشيوعية في دول مثل إيطاليا وألمانيا الغربية، وغيرها من دول المواجهة في الحرب الباردة. وعلاوة على ذلك، تؤيّد تلك الدول الديمقراطية الآن، ولكن مع تحذير بأنه: من أجل تجنب الانجراف نحو التوتاليتارية، فإنَّ الحكومات الديمقراطية بحاجة إلى الدعائم الروحية التي تقدمها الكنيسة. بهذا المعنى، رفض الديمقراطيون المسيحيون الشيوعية والليبرالية كشكل من أشكال الماديّة. لكنَّ هذا الموقف لم يمنعهم من التوافق مع الرأسمالية، رُغم الإصرار على أنَّ هناك حاجة ماسة للدين أيضًا للسيطرة على مفاسد السوق.

انحرفت بعض الأحزاب عن مسارها، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، لتشمل البروتستانت ومن ثمّ إنهاء قرون من الصراع الديني. في الواقع، سعت تلك الأحزاب لتصبح أحزابًا شاملة قدر الإمكان، بدلًا من الظهور كممثلين طائفيين. وكانت السمة المميزة لهذه الأحزاب هي سياسات التوافق والتكيّف المعتدلة، استنادًا إلى صورة كاثوليكية لمجتمع متناغم يتعاون فيه رأس المال والعمل وتقوم فيه الكنيسة بدور حاسم في توفير الخدمات الاجتماعية. ولكن في ذلك الوقت، قال المراقبون عن الكاثوليكية نفس الأمور التي يقولها العديد من الأوروبيين عن الإسلام اليوم: أنّها ليبرالية في جوهرها ونوع من نظام ملكي مع ملك في روما، وأنّها غير قادرة على قبول حقيقي للديمقراطية. كتب هنري ستيوارت هيوز H. Stuart Hughes، المؤرخ بجامعة هارفارد، في عام 1958:

إنّ الديمقراطيّ المسيحيّ هو مسيحيّ في المقام الأوّل، وديمقراطيّ فحسب من حيث قابليّة التبعية subordinate capacity. فالصّفة أكثر أهميّة من الاسم.

ومع ذلك، استمر الديمقراطيون المسيحين في إرباك منتقديهم. في ألمانيا، وإيطاليا، وبدرجة أقل، فرنسا، أنشأوا ديمقراطيات أصيلة. ولكن في الوقت نفسه، حكموا بقدر كبير من عدم الثقة في السيادة الشعبية. وسعوا بالأساس لتقييد الشعب من خلال مؤسسات مثل المحاكم الدستورية، والتركيز على الجانب الأخلاقي من خلال تعاليم الكنيسة، وإخضاعهم لنظام فوق وطني جديد: الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على سبيل المثال كانت صنيعة حزب المحافظين البريطاني والديمقراطيين المسيحيين في جميع أنحاء القارة الأوروبية، الذين كانوا أيضًا مؤسسي ما يُعرف اليوم باسم الاتحاد الأوروبي. وبصفة عامة، فإنَّ الديمقراطيين المسيحيين مثل الكاثوليك، أمميون بطبيعتهم ولا يؤمنون بقيمة الدولة القومية. في القرن التاسع عشر، كانت الدول القومية الموحدة حديثًا مثل ألمانيا وإيطاليا هي التي شنّت ما يُعرف بالحروب الثقافية (التي عُرفت فيما بعد باسم «الصراع الثقافي» الذي قاده أوتو فون بسمارك) ضد الكاثوليك، الذين اُتهموا بوضع الإخلاص للفاتيكان فوق الولاء للدولة. لكنَّ الديمقراطيين المسيحيين كانوا تعدديين، قانعين بمجتمع أوروبي فيدرالي متشرذم يشبه إمبراطورية في القرون الوسطى أكثر من دولة حديثة ذات سيادة.


محطّمو الحزب

على مدى عقود طويلة، فرضت الأحزاب الديمقراطية المسيحية نفسها كقوة سياسية مهيمنة في أوروبا، والآن تواجه شبح الاضمحلال. وقد عزا بعض المراقبين ضعف الدعم الشعبي إلى العلمنة. صحيح أنه منذ أوائل الستينات، تمّ تفريغ الكنائس في جميع أنحاء القارة، لكن الأحزاب نفسها أصرّت على أن المواطن يجب أن يتقبل المُثل الإنسانية من أجل أن يكون ديمقراطيًا مسيحيًا صالحًا. وظهرت المشكلة الحقيقية بسبب انتصار النموذج السياسي الذي كانت تروّج له الأحزاب الديمقراطية المسيحية منذ خمسينات القرن المنصرم.

خسر الحزب الديمقراطي المسيحي أعظم أعدائه -الشيوعية- ومعها الكثير من القوة الأيديولوجية التي كانت تربط التحالفات السياسية المنقسمة.

اعتمدت معظم دول أوروبا الوسطى والشرقية هذا النموذج بعد عام 1989، ولكن عمليًا لم تطور أي دولة أحزابًا ديمقراطية مسيحية على غرار حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا أو الحزب الديموقراطي المسيحي في إيطاليا. في بعض الدول، مثل بولندا الكاثوليكية، بدت الجماعات الديمقراطية المسيحية غير ضرورية، وفي دول أخرى، كانت مختلفة جذريًا عن نظيراتها الأوروبية الغربية من ناحيتين: كانت قومية قلبًا وقالبًا، وبالتالي غير مستعدة للتنازل عن جزء كبير من السيادة الوطنية المنتزعة من الاتحاد السوفياتي، وكانت شعبويّة بشكل مفرط، لا ترى أي سبب لعدم الثقة في البسطاء الذين تمكّنوا من الصمود أمام الدكتاتوريات الاشتراكية وحافظوا على أخلاقهم سَوِيّة.

وفي الوقت نفسه، في الغرب، خسر الحزب الديمقراطي المسيحي أعظم أعدائه -الشيوعية- ومعها الكثير من القوة الأيديولوجية التي كانت تربط التحالفات السياسية المنقسمة في كثير من الأحيان ببعضها البعض. في إيطاليا، شارك الحزب الديمقراطي المسيحي في كل الحكومات منذ الحرب العالمية الثانية، والسبب في ذلك هو أنّه كان لا بُدّ من إقصاء الحزب الشيوعي، أكبر حزب سياسي في أوروبا الغربية. وفي مطلع التسعينات، انهار الحزب الديمقراطي المسيحي الغارق في الفساد في إيطاليا، وورث أصوات الحزب رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك سيلفيو برلسكوني، وهو رجل معروف بعدم التزامه بالأخلاق الكاثوليكية.

http://gty.im/122089770

بالتأكيد، لا تزال الديمقراطية المسيحية أقوى قوة سياسية في القارة لكن على الورق فقط، ويتضح ذلك في النجاح الأخير لحزب الشعب الأوروبي. ومع ذلك، يعاني الحزب أيضًا من خلل عميق، والخلافات بشأن مرشح الحزب الأبرز لرئاسة لجنة الاتحاد الأوروبي، جان كلود يونكر، هي مثال على ذلك. خلال الحملة الانتخابية، حاول بعض قادة حزب الشعب الأوروبي الاستفادة من المشاعر المعادية للاتحاد الاوروبي، وحاول برلسكوني أيضًا استغلال مشاعر الاستياء ضد الألمان وإغراء الإيطاليين الذين ضاقوا ذرعًا بإجراءات التقشف. وبعد الانتخابات مباشرة، فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري ونائب الرئيس السابق لحزب الشعب الأوروبي، هاجم يونكر لكونه مروّجًا من الطراز القديم للوحدة الأوروبية، وأحد الذين لا يحترمون الدول القومية وتقاليدها. في السنوات الأخيرة، أثار أوربان دهشة الكثيرين عندما أعلن «حرب الاستقلال» التي تهدف إلى استقلال المجريين عن المشروع السياسي الخاص بحزب الشعب الأوروبي؛ وهو التكامل الأوروبي.

http://gty.im/477118631

كان لدى الأحزاب الديمقراطية المسيحية فرصة كبيرة لإعادة تأسيس أنفسهم بعد الأزمة المالية، إذا كان بإمكانهم إعادة المُثل القديمة للاقتصاد.

جزء من المشكلة، كما يقول بعض المراقبين، أنَّ حزب الشعب الأوروبي الذي يشمل عضوية ما لا تقل عن 73 حزبًا من 39 دولة، يتحمل فوق طاقته. في بداية التسعينات، عيَّن هيلموت كول، المستشار الألماني آنذاك، و ويلفريد مارتنز، رئيس الوزراء البلجيكي السابق ورئيس حزب الشعب الأوروبي في ذلك الوقت، بعض السياسيين في جميع أنحاء أوروبا، وحافظوا على معايير منخفضة نسبيًا، مع عدم الاكتراث بالالتزام الحقيقي من الأتباع الجدد بــ «مُثل الحزب». كان كول يصرّ على أنَّ الديمقراطيين المسيحيين لم يبنوا أوروبا ليسلِّموها إلى الاشتراكيين، وأنَّ حزب الشعب الأوروبي بحاجة إلى الحفاظ على أكبر كتلة سياسية في القارة مهما تكلّف الأمر.

ومع ذلك، كانت القضية الأعمق تتعلق بالتمايز الأيديولوجي لديمقراطية المسيحية. لقد كان بعض القادة مثل كول على استعداد لتحمل المخاطر من أجل أوروبا. واليوم، من الصعب العثور على مؤمنين حقيقيين على استعداد أن يخاطروا بحياتهم من أجل التكامل الأوروبي، على رأسهم المستشارة الألمانية الحالية. وفيما يتعلق بأسئلة الأسواق والأخلاق، كان لدى الأحزاب الديمقراطية المسيحية فرصة كبيرة لإعادة تأسيس أنفسهم بعد الأزمة المالية؛ إذا كان بإمكانهم إعادة المُثل القديمة للاقتصاد، على سبيل المثال، التي تكون فيها الوحدة ذات الصلة أخلاقيًا عبارة عن مجموعة مجتمعية لها مصالح مشروعة وليس مجموعة فردية لتعظيم الربح. وبدلًا من ذلك، تبنى يونكر وميركل سياسات التقشف التقليدية، وتناسى أن رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي -أمل اليسار الأوروبي- بدأ كعضو في الحزب الشعبي الإيطالي المُعاد تأسيسه (وحتى قبل ذلك، كفتى كاثوليكي متديّن).

http://gty.im/155930893

كما قلّد الديمقراطيون المسيحيون في أوروبا المحافظين الأمريكيين، وركّزوا على القضايا الاجتماعية وشنّوا حربًا ثقافية ضد العلمانية. وقد حاول بعضهم بالفعل: خلال العقد الماضي، حشد الحزب الشعبي الإسباني أصوات الكاثوليكيين ضد رئيس الوزراء الاشتراكي خوسيه لويس ثاباتيرو الذي دافع عن زواج المثليين. وخلافًا لكليشيهات أمريكا المتديّنة وأوروبا غير المتديّنة، لا تزال هناك إمكانية كبيرة لنجاح مثل هذه الحملات في بعض بلدان جنوب وشرق أوروبا. وإنّه لأمر معبّر، رُغم ذلك، أن الناخبين الإسبان عارضوا ثاباتيرو بسبب طريقة تعامله مع أزمة اليورو.


تنافس الشعبية

تواجه الأحزاب الديمقراطية المسيحية معضلة صعبة. الأهداف السياسية لتلك الأحزاب مختلفة قليلًا عن أهداف الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية. صحيح أنَّ الصراع الثقافي محفوف بالمخاطر، ولكن أن يصبح ذلك هو الاتجاه السائد في القضايا الاجتماعية، فهذا يخلق فضاءً سياسيًا للمجموعات التي تُقدّم نفسها على أنها جماعات محافظة. الأحزاب السياسية مثل حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي يركز على معارضة الاتحاد الأوروبي ويدافع عن الأخلاق التقليدية، والجبهة الوطنية في فرنسا هي الأحزاب المستفيدة من هذا الوضع.

الأهم من ذلك هو أنَّ الديمقراطيين المسيحيين يقعون تحت ضغوط شديدة من القوميين اليمينيين والشعبويّين. ونظرًا لأنهم لم يعودوا يجرؤون على الدفاع عن خطط التكامل الأوروبي الطموحة، فإنَّ مخططي الوحدة القارية أصبحوا عاجزين الآن. ولم تنجح سياسات التكيّف وتسوية الخلافات في العمل كرد فعل للشعبويّين الذين يتفوقون في سياسات الاستقطاب والهوية. ونتيجة لذلك، تراجعت شعبية التحالف القديم -المكّون من الطبقة الوسطى والمزارعين- الذي دعم التكامل الأوروبي واستفاد منه اقتصاديًا. هذا التحوّل طويل المدى يجعل من غير المرجح أن تستعيد الديمقراطية المسيحية الوضع المهيمن الذي حظيت به في سنوات ما بعد الحرب. وهذا يجعل من الاتحاد الأوروبي كيانًا فارغًا؛ فالمُثل التي شجّعت مشروع التكامل في السابق تمّ تجاهلها الآن، وأصبح يدافع عنها مجموعة من الأحزاب الصغيرة مثل الأحزاب الخضراء.

لن ينهار الاتحاد الأوروبي نتيجة لذلك. المشكلة الحقيقية هي منطقة اليورو نصف المكتملة. وكما تعلّم الأوروبيون بتكلفة كبيرة في السنوات الأخيرة، فإنَّ منطقة اليورو كما هي اليوم غير مكتملة وغير متماسكة؛ إنّها اتحاد مالي لا يسمح بالتنسيق السليم للسياسات المالية أو التقارب الحقيقي للاقتصاديات المشاركة. وقد فشل تدفق الأموال الرخيصة (القروض منخفضة الفائدة) من البنك المركزي الأوروبي -الحل الحالي لأزمة اليورو- في معالجة المشاكل الهيكلية الكامنة للدول الأعضاء ومنطقة اليورو بأكملها. ولذا، يتطلب نجاح اليورو على المدى الطويل رغبة في تحمل المخاطر السياسية والتضحيات المادية. وقد ولّت الأيّام التي كانت فيها المثالية الديمقراطية المسيحية قادرة على القيام بذلك.