ويجب نصْب إمام بحراسة الدّين، وسياسة أمور المسلمين، وكفّ أيدي المعتدين، وإنصاف المظلومين من الظَّالمين، ويأخذ الحقوق من مواقعها، ويضعُها جمعًا وصرفاً في مواضعها، فإن بذلك صلاح البلاد وأمن العباد، وقطع مواد الفساد؛ لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلّا بسلطان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم.

بدر الدين بن جماعة (ت: 733هـ/1333م) في «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام».


كيف تشكّل التراث السياسي الإسلامي؟

ثمة علاقة متجذرة بين السياسة والدين في الإسلام؛ نرى هذه العلاقة بجلاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته، وقيادته للصحابة، وإقامته للدولة النبوية في المدينة المنورة، وسياسته الواضحة في الأمور الداخلية، والعلاقات الدولية، وفي أوقات الحروب والغزوات، ثم من بعده في اجتماع السقيفة بين الأنصار وبعض المهاجرين في اختيار خليفة له يقود الجموع، ويسوس الرعية، ويستكمل الفتوح، وما دار في هذا الاجتماع المهم من مناقشات تُبرز لنا أهمية هذه المسألة عند جيل الصحابة الكبار، والأسباب التي جعلتهم يتفقون على مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة؛ وذلك للسابقة في الإسلام، والقرشية، ومكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، بل إننا في خطبة أبي بكر رضي الله عنه في مستهلّ خلافته أمام الصحابة نرى هذه العلاقة الوثيقة بين الدين والسياسة متينة لا تشوبها شائبة؛ حيث ربط السمع والطاعة له بمدى طاعته لله ولرسوله، قائلاً: «أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ».لقد كان عصر الخلافة الراشدة (11 – 41هـ) ثريًا بالأحداث السياسية التي تجلى فيها التطبيق العملي لمفاهيم الوحي ومضامينه، من طرائق السياسة والقضاء وتولية العُمّال والإدارة المالية وغير ذلك، بل وحتى في الخلافات السياسية بين الصحابة رضوان الله عليهم. وقد لاحظ بعض الباحثين في تاريخ النظريات السياسية بوجه عام أن هناك صلة وثيقة بين نشوء الأفكار السياسية وتطور الأحداث التاريخية، وهذه الظاهرة التي لاحظها بعض الفلاسفة الغربيين تبدو واضحة بالنسبة إلى النظريات السياسية الإسلامية، وتاريخ التراث السياسي فيه، فهذا التراث النظري كان ولا يزال مرتبطًا أشد الارتباط بحوادث التاريخ الإسلامي؛ إلى درجة أنه ينبغي أن يُنظر إليهما كأنهما جانبان لشيء واحد، أو جزءان متكاملان أحدهما متمم للآخر كما يقول الدكتور ضياء الدين الريس رحمه الله.وجاءت العصور التالية الأموية والعباسية بما فيها من الأحداث السياسية، وبزوغ الأفكار والفرق والتيارات، واتساع رقعة العالم الإسلامي، وتنوع أعراقه كثراء عظيم لتطور التراث السياسي الإسلامي، وتنوعه وغناه.أمر آخر شديد الأهمية يتمثل في أن قضية السياسة أو السلطة أو الإمامة/الخلافة تعد قضية مبكرة وواضحة في النسق الإسلامي قبل ظهور المؤسسة الدينية بمعناها الرسمي، بل قبل وضوح العلوم والمصنفات المتخصصة، لذا تعدّ المسألة السياسية قديمة قدم التاريخ والتجربة الإسلامية.


متى ظهرت الكتابة السياسية في التراث العربي؟

إن الكتب المتفرِّدة المتخصِّصة في الفكر السياسي المؤسَّسة على الفقه الإسلامي لم تظهر إلا في منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، بظهور كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي، المتوفَّى 450هـ/ 1058م.

وحين نعود إلى كتاب «الفهرست» لمحمد بن إسحاق النديم، المتوفَّى 380 هـ/ خريف 990م، وهو أقدم كتاب ببليوجرافي عربي، لا نَلْقى فيه ذكرًا لمصطلح علم السياسة، ولا رصدًا للفِكر السياسي، المتمثِّل في كتب «الأحكام السلطانية»، أو «السياسة الشرعية»؛ وذلك لأنَّ مثل هذه المصطلحات لم تكن قد تبلورت إلى عهد النديم، ولا اتضحتْ حدودُها وقواعدها، وهو الذي سجَّل في كتابه جميعَ العلوم والمؤلفات التي عُرِفت إلى عصره، فذكر – على سبيل المثال – الكتب المؤلَّفة في الطَّبيخ، وفي التعاويذ والرُّقَى.

ويستدلّ الأستاذ عصام الشنطي رحمه الله على ذلك بأن النديم ألْحَق ما يتعلَّق بالفكر السياسي في الفن الثاني من المقالة الثالثة، الذي يحتوي على «أخبار الملوك، والكتَّاب، والخطباء، والمترسلين، وعمَّال الخراج، وأصحاب الدواوين»، ففيه رسائل عبد الحميد بن يحيى الكاتب، وأخبار عبد الله بن المقفَّع، وأخبار سهل بن هارون، المتوفَّى 215 هـ/830م، الذي وضع كتابه “تدبير الملك والسياسة”، وكتابه إلى عيسى بن أبان في القضاء.

على أن بواكير الكتابة السياسية في التراث الإسلامي قد سارت في خطوط متوازية في حقول معرفية مختلفة، فعلى مستوى الكتابة التاريخية حرصت المصنفات المفردة على إجلاء مسألة الخلافة/السلطة من وجهة نظر الفرق المتصارعة، ففي كتاب «صفّين» لنصر بن مزاحم المنقري الكوفي (ت212هـ)، و «الفتوح» لابن أعثم الكوفي (ت314هـ)، وفي مرويات أبي مخنف الأزدي وهشام الكلبي نجد قضية الدفاع عن علي وآل بيته دافعًا لهؤلاء في مروياتهم، وهي كلها تحرص في سوق الروايات أو شحنها على ما يخدم القضية الشيعية، وأولية مسألة الإمامة في ذرية علي رضي الله عنه، وفي المقابل تخطئة وتجريم الطرف الآخر، وبيان مقدار المظلومية السياسية التي حدثت نتيجة خروج مسألة السلطة من «البيت النبوي».

غير أن ثمة مدرسة أخرى كانت طاغية في الكتابة السياسية في القرون الثلاثة الأولى، وهي مدرسة مرايا الأمراء أو «الآداب السلطانية» و «نصائح الملوك»، فالكتابة فيها هي الأقدم، وأولى الرسائل والتوجهات التي نعرفها لهذه الناحية تعود إلى العصر الأموي، مثل رسائل أرسطو المنحولة إلى الإسكندر، ورسائل عبد الحميد بن يحيى الكاتب الصادرة عن الديوان الأموي، والمسألة الأساسية التي تدور حولها هذه المؤلفات هي البحث عن وسائل استقرار الـمُلك واستمراره، ولا شك أن هذا اللون يتكئ على موروث كلاسيكي أصوله يونانية “هللينية” وهندية وفارسية.


أشكال ومدارس الكتابة السياسية

من ناحية الشكل انقسم التأليف في هذا اللون من التراث السياسي القديم إلى ثلاثة أقسام: فقسم اتخذ شكل الرسالة أو العهد الذي يتركه الملك لوليّ عهده وفيه نصائح سياسيةٌ في طرائق التعامل مع الطبقات الاجتماعية لكي يستمر الـمُلْك ويخلد، وقسم يتخذ شكل الحكاية على ألسنة الحيوانات مثل «كليلة ودمنة» لابن المقفّع (ت142هـ)، وقسم يأخذ شكل الكتاب ذي الفصول والأبواب التي تتحدث عن الفضائل السلطانية من العدل وكتمان السر والتلطف إلى الرعية والتعامل مع الجند وغير ذلك.

ويبدو تنوع مصادر الأخلاق والقيم في هذا اللون من التأليف جليًا، صحيح أنه يتكئ على مرتكزات العقيدة والشريعة؛ لكنه مع ذلك يتأثر بالمعارف الفارسية واليونانية في تلك المرحلة المبكرة من عمر الدولة الإسلامية، التي انفتحت على العالم الفارسي كما العالم الهلليني.

أمامدرسة الفلاسفة فقد استندت في تصوراتها للدولة أو المدينة على خليط من الأفكار الهللينية، خاصة تصورات أفلاطون وأرسطو وتلامذة فكريهما، وإشكالية هذا التقليد تحقيقُ السعادة في المدينة الفاضلة أو الكاملة، وأشهر هؤلاء أبو نصر الفارابي (ت339هـ) في «آراء أهل المدينة الفاضلة»، الذي تابع أفلاطون في شروطه التي وضعها في «رئيس المدينة الفاضلة»، فلا «يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فُطر عليها»، ناقشها برويّة في كتابه الآنف.

على أنمدرسة المتكلمين كانت أكثر المدارس ثراءً في مناقشة قضية السلطة والإمامة من غيرها، ربما صارت هذه القضية متداخلة مع الفقهاء فيما بعد، خاصة أن علمي أصول الدين والفقه كانا ولا يزالان متلازمين في المنهجية الإسلامية، أو النظرية المعرفية. لقد سُمي الإمامية الشيعة بهذا الاسم لارتباط الإمامة/السلطة عندهم بالنص؛ ومن ثمّ فهي جزء من الاعتقاد والتصور العام، وربما كان الشيعة الزيدية أول من ألّف في ذلك، ثم تبعهم آخرون كما يقرر دكتور رضوان السيد، ثم المعتزلة والإباضية، حتى الأشاعرة بدأوا في الكتابة عن نظرية الخلافة والإمامة، صحيح أنهم لم يربطوها بالنص كما فعل الشيعة، وجعلوها في إطار «المصلحيات» التي يؤيدها الدليل العقلي، والحق أن المذهب الأشعري قد برز في الواقع لمعاندة المذهب الشيعي، كما يقرر الدكتور مصطفى حلمي.

أماالفقهاء فيعدّون من أهم من كتبوا في النظرية السياسية والتراث السياسي الإسلامي، وكان إسهامهم في هذا المجال منصبًّا على مسألة الشرعية، ومدى مقاربة هذه السلطة مع النص/الوحي، لذا يُقاس مدى هذه الشرعية عند الفقهاء «الدستوريين» في الإسلام سواء في مسائل الفروع أو مسائل الإمامة والخلافة والسلطة من جهتين؛ جهة ما قام به الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتنصيبهم وبيعتهم وشورتهم، وجهة وظائف هذا المنصب المتمثلة في «حراسة الدين وسياسة الدنيا».

وبداية من المقال القادم سنقف بصورة تفصيلية مع أمرين أساسيين هما: وجهة نظر الفقهاء للسلطة ومدى شرعيتها وأهم ما كُتب في هذا المضمار، ووجهة نظر الساسة وكُتّاب مرايا الأمراء والآداب السلطانية.

المراجع
  1. 1. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، دار التراث، الطبعة الثانية – بيروت، 1987م.
  2. 2. محمد ضياء الدين الريس: النظريات السياسية الإسلامية، مكتبة التراث، الطبعة السابعة – القاهرة.
  3. 3. عصام الشنطي: تراث العرب السياسي في المشرق، ندوة قضايا المخطوطات (تراث العرب السياسي)، معهد المخطوطات العربية – القاهرة، 2002 م.
  4. 4. نصر محمد عارف: في مصادر التراث السياسي الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى – فيرجينيا، 1994م.
  5. 5. علي عبد الواحد وافي: المدينة الفاضلة للفارابي، نهضة مصر للطباعة والنشر، د.ت.
  6. 6. مصطفى حلمي: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية – بيروت، 2004م.
  7. 7. رضوان السيد: الآداب السلطانية ومرايا الأمراء والفكر السياسي الإسلامي، ندوة السياسة في الج ال الإسلامي، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية – بيروت، 2012م.