عرفت الأرض أسلحة الدمار الشامل قبل أن تعرف البشر ببلايين السنين. بالطبع لا يمكن إعفاؤنا بأي صورة من الشرور التي ارتكبناها في حق الطبيعة، إلا أننا لسنا المجرمين الوحيدين. في الحقيقة، قام الأجداد الأوائل لكل صور الحياة بتدمير سكان الكوكب على بكرة أبيهم.

مع هذا فإن هذا الدمار المهول هو بالضبط المسئول عن نمو حياة من نوع اّخر، نوع غريب يحيا على سموم الماضي وله المقدرة على التعقد بشكل لم يكن ممكنا أبدا لصور الحياة الأولى المنهارة. قد يبدو وقع الأمر غريبا، إلا أن أول سلاح شامل التدمير في تاريخ الأرض لم يكن المواد النووية والمشعة ولا الملوثات، بل الأكسجين الذي نتنفسه.


غلاف جوي وليد

للغلاف الجوي الأرضي حكاية مثيرة لم نعرف كل تفاصيلها بعد. لدينا العديد من السيناريوهات المقبولة والمدعمة نسبيا ببعض الأدلة، إلا أننا كلما تراجعنا في الزمن وجدنا تاريخا أكثر عنفا وتدميرا وصعوبة في حفظ أدلة وجوده. في البدء أحيطت الأرض الوليدة بهالة من الغازات التي التقطتها جاذبية الكوكب الوليد من الشمس والأجسام المجاورة.

طبقا لهذه الفرضية فإن هذا الغلاف المبكر كان مكونا من الهيدروجين والهيليوم بشكل أساسي، لكنه سرعان ما تلاشى قبل أن تبلغ الأرض عمر مليون سنة. تلا ذلك مرحلة من الغلاف الجوي البخاري الخفيف الذي نشأ من تبخر المياه المحبوسة في مركبات السيليكا، وأيضا من تصاعد مختلف المركبات الكيميائية المتطايرة التي تحررت من الطبقات الداخلية إلى السطح، ثم إلى الغلاف بسبب صدمات الكويكبات والنيازك وغير ذلك من الأحداث العنيفة التي شهدتها الأرض اّنذاك. وُجِد الهيدروجين في هذه المرحلة أيضا، إلا أنه لم يأت من الشمس هذه المرة، بل من اختزال جزيئات الماء في الجو.

حفظ الضغط وعمليات الانصهار والتصلب والذوبان حينها توازنا صعبا بين السطح المنصهر والجو البخاري حتى انهار هذا الوضع مع زيادة معدل تصلب السطح، مما أدى لتكثف الجو وإمطاره لسطح الأرض مكونا أول محيطات الأرض السائلة.

خلفت المياه وراءها في الجو كلا من النيتروجين وأول وثاني أكسيد الكربون، وهبطت لمحيط سائل على أرض شبه متصلبة. لم يكن هذا ليدوم كثيرا. ستنهار كل هذه التطورات بسبب تصادم ضخم مدمر سيصنع لنا قمرا فيما بعد.

عاد محيط الماجما للتكون بسبب تصادم الأرض مع جسيم بحجم المريخ دعوناه ثيو، وانصهر معظم وشاح الأرض مضيفا كميات أضخم من الماجما. أصبح الجو هنا سحابة كبيرة من غبار الصخر المتبخر بسبب درجة الحرارة العالية والذي ما إن يبرد قليلا حتى يتكثف ويهبط إلى السطح ليعود ببطء فيعيد مرحلة النمو والتكور ثم يعود لتكوين غلاف جوي تسيطر عليه غازات النيتروجين وثاني أكسيد الكربون والميثان [1].

في هذه الأجواء ظهرت أول الحيوات البسطة، كائنات وحيدة الخلية مفتقرة للأنوية لا تدري من حياتها إلا إيجاد بعض جزيئات الغذاء هنا أو هناك في المحيط الضخم، وبقي الأمر على هذا الوضع إلى أن قامت الثورة.


حياة لا تشبه الحياة

بعد القصف الشديد المتأخر Late heavy bombardment الذي عانت منه الأرض ما بين 4.1 و3.8 بليون سنة مضت [2]، ظلت الأرض خلال الدهر التالي مكانا رهيبا وعدائيا. مع هذا فإن عنفه كان أخف وطأة من الدهر الجحيمي Hadean، تصلبت قشرة الأرض قليلا فظهرت القارات. نحن الاّن في الدهر السحيق Archean.

في مياه المحيط الضخم انبثقت الحياة الأولى على شكل خلايا شديدة البدائية لا تتعدى كونها أكياسا من الحمض النووي. نطلق على هذه الحياة اسم Prokaryote أو عديمات النواة. انقسمت هذه الكائنات وقتذاك إلى بكتيريا Bacteria وبكتيريا قديمة Archea. لم تحتو هذه الخلايا على أي عضيات خلوية نهائيا ولم تمارس البناء الضوئي. اقتصرت حياة هذه الكائنات على استخلاص الطاقة من الجزيئات الكيميائية التي وُجِدت حولها، خاصة مركبات الكبريت.

يختلف العلماء حول إذا ما كانت الحياة قد بدأت في مستهل الدهر السحيق أو في نهايات الدهر الجحيمي. مع هذا فإن الحد الفاصل بين الفترتين لا يمكن اعتباره حدا فاصلا فعلا بأية حال. فبسبب تدميريته وعنفه الشديدين، فإننا نفتقر للكثير من المعلومات حول الدهر الجحيمي ومنها المعلومات عن إذا ما كان مأهولا بالبكتيريا المتحملة للظروف المتطرفة extremophiles كالدهر السحيق أم لا.

يبدأ الدهر السحيق وتبدأ معه تغيرات جذرية في مصير الكوكب. من بين البكتيريا التي تحيا بسلام في ماء المحيط، انبثقت بكتيريا قادرة على استغلال طاقة الشمس (التي فاقت في سطوعها السطوع الحالي) لتحويل المركبات العضوية وغير العضوية لمركبات أخرى واستخدام فارق الطاقة لتحيا.

سميت هذه البكتيريا باسم phototrophs وسمي نشاطها باسم «البناء الضوئي». ولكن احذر، فالبناء الضوئي المقصود هنا هو البناء الضوئي غير الخلاق للأكسجين Anoxygenic photosynthesis وهو يعتمد على فارق الطاقة بين المركبات ولا يقوم بإنتاج أي أكسجين. أما النوع الذي نعهده من البناء الضوئي الخلاق للأكسجين، فقد ظهر على يد بكتيريا تمتلك صبغة خضراء نعرفها باسم سيانوبكتيريا Cyanobacteria. وهنا تبدأ قصة الانقراض الأضخم في تاريخ الكوكب.


الأرض تتحول

طورت السيانوبكتيريا طريقة فعالة للغاية لاستغلال طاقة الشمس لتحصل على طاقتها منذ 2.7 بليون سنة مضت. حدث ذلك عن طريق تطوير ميكانيكية البناء الضوئي مستغلة جزيئات متوافرة لها كالماء وثاني أكسيد الكربون لتصنع جزيئاتها السكرية المطلوبة. وفرت هذه التقنية الحديثة في عالم البكتيريا كما ضخما من الطاقة للبكتيريا الخضراء ممكن جعلها تتكاثر بشكل سريع جدا وتنمو وتزدهر.

كانت المشكلة فقط في مخلفات هذه التقنية. لقد قامت السيانوبكتيريا بصنع كميات كبيرة من ملوث نعرفه باسم «الأكسجين».

لم تكن الكائنات الحية –ولا حتى السيانوبكتيريا – تحتاج الأكسجين بل إنها تهرب منه لتأثيره القاتل على بنيانها البسيط. ولم تكن الأرض اّنذاك خالية من الأكسجين الجزيئي O2 أيضا. إلا أن نسبته الضعيفة جدا في الجو بعيدا عن المحيط حيث تعيش البكتيريا كافية لحمايتها.

ما حدث هو ما يحدث دائما؛ تتراكم المخلفات . بدأت كميات كبيرة من الأكسجين تتصاعد من البكتيريا الخضراء. في البدء لم يهتم الجميع حيث كان الحديد المذاب في مياه المحيط يتلقى الأكسجين ويتأكسد لمختلف مركبات الحديد الثنائية والثلاثية. ظل الأمر على هذا النحو حتى تم استنفاد كل مخزون المحيط من الحديد وبدأ السم يتسرب إلى الجو.

استمر الأكسجين في التراكم، بدأت صخور الأرض الجافة تشعر بالتغير عندما تأكسدت عناصرها وظهر طيف ضخم من الخامات الصخرية التي لم تعهدها الأرض. يعود ذلك بالطبع إلى تعدد حالات الأكسدة للكثير من المعادن، وبالتالي بدأت الصخور القديمة في الاضمحلال لتحل محلها صخور من مركبات جديدة. اكتست الأرض بألوان جديدة تحت هجوم الأكسجين الكاسح.


المحرقة الكبرى

عرفت الأرض الأكسجين الجزيئي على استحياء من عملية التحلل الضوئي لبخار الماء بواسطة الأشعة فوق البنفسجية. قامت هذه العملية بإنتاج هيدروجين خفيف يهرب من جو الأرض بسهولة وأكسجين تلتهمه الصخور لتتأكسد. مع هذا فقد كانت نسبة الاكسجين اّنذاك فقط 10-14 من نسبته الحالية.

ننتقل الاّن لفترة 2.5 بليون سنة مضت. نحن الاّن نخطو خطواتنا الأولى في الدهر البروتيروزوي. استمر التصاعد الأكسجيني وبدا أن جو الأرض يتحول جوا مختزلا إلى جو مؤكسد. كان الأمر شبه محرقة للبكتيريا التي يبدو أن الأكسجين قد قام بتطهير الأرض منها فيما يعرف باسم حدث الأكسجة الأعظم Great oxygenation event. بقي البعض بالطبع مختبئا بعيدا في عمق الكهوف إلا أن الغالبية العظمى من البكتيريا –بما فيها السيانوبكتيريا – قد قضت نحبها. لقد اكتسب هذا الحدث اسم «كارثة الأكسجين oxygen catastrophe» عن وجه حق [3].

في حادثة عجيبة من نوعها وفي خضم هذا الدمار المروع، ابتلعت إحدى البكتيريا زميلتها. لم تمت أي من الخليتين بل عاشتا معا بصورة تكافلية رائعة. يعتقد العلماء حاليا أن هذا السيناريو هو أصل الميتوكوندريا في خلايانا. ساعد هذا الأسلوب بعض البكتيريا على الصمود ثم التطور إلى خلايا ذات أنوية ومن ثم بداية الحياة التي نعرفها الاّن والقادرة على استهلاك الأكسجين. ليس هذا فقط بل التي يحميها الأكسجين –على هيئة أوزون أي جزيء يتكون من 3 ذرات أكسجين- من التأثير القاتل للأشعة فوق البنفسجية وبالتالي ستتمكن من الخروج من المياه التي كانت تستخدمها للاحتماء والسير على الأرض لأول مرة.

مع هذا لم يكن الانتقال من الحياة اللاأكسيجينية Anoxic إلى الحياة الأكسجينية Oxic انتقالا تدريجيا هادئا كما يبدو، بل كاد كل شيء أن يدمر عندما سقطت الأرض في مصير جليدي. كانت الغازات المسيطرة على جو الأرض قبل الأكسجة تعمل كغازات صوبة greenhouse أي تقوم بحبس الحرارة داخل الكوكب بصورة فعالة جدا مما حافظ عليه دافئا.

عندما تصاعد الأكسجين في الهواء، قام بأكسدة الميثان (وهو أحد غازات الصوبة الأساسية وقتها) إلى ثاني أكسيد كربون صاحب القدرة الأقل على الاحتفاظ بالحرارة مما أدى لسقوط الأرض في عصر جليدي تتلوه مرحلة دفء ثم عصر جليدي اّخر وهكذا فيما عرف باسم Snowball earth. استمر هذا الوضع حتى استقر المناخ عندما وصل الأكسجين نسبة تقارب نسبته الحالية في الجو.

ربما تتساءل الاّن كيف نمت إلى معرفتنا الحديثة أحداث من بلايين السنين. عند البحث في التاريخ شديد القدم، عليك دائما أن تتجه للأرض. تحتوي قشرة الأرض على صخور تم حفظها تحت طبقات أخرى أحدث، وبالتالي فإن دراسة مكونات وتفاصيل هذه الصخور يمدنا بالكثير من الصور عما كان الكوكب عليه قديما.

إذا نظرت في عمق الأرض، فستجد أن الصخور المتكونة في فترة ما قبل ظهور حفريات السيانوبكتيريا تحتوي على كميات من الحديد العنصري في حين تتضاءل هذه الكميات في الصخور الأحدث حتى تنعدم في البروتيروزوي وتحل محلها صخور حمراء من جراء أكسدة الحديد إلى مركباته المختلفة أكاسيد وهيدروكسيدات.

يمكن استخدام المقارنة ذاتها مع نسبة الكبريت الذي يعد تغير نسبته في الجو علامة واضحة على منافسة الأكسجين له [4]

هكذا انتقل الكوكب من صورة حمراء عدائية مخيفة إلى كوكب يسيطر عليه الأخضر والأزرق، لونا صبغة الحياة التي ولدت من الموت. ربما كنت تعتقد أن فناءنا كبشرية سيضع حدا للحياة على الكوكب إلا أن هذه مغالطة كبيرة يدحضها التاريخ الطبيعي الذي لا يقف عند سلالة أو نوع أو حتى «نوعية حياة» كاملة. ربما نشعر الاّن بأننا محظوظون بدمار الحياة الأولى، لكن من يعلم من سيأتي بعدنا ليقتات على مخلفاتنا التي أفنتنا؟!

المراجع
  1. Kula C. Misra – Introduction to Geochemistry- Principles and Applications. pt 2 chap 12 (P. 283) : The core-mantle-crust system, chap 13 (P. 326) : The crust-hydrosphere-atmosphere system
  2. Encyclopedia of Astrobiology – Late heavy bombardment
  3. Marshak- Earth: a portrait of a planet. (P. 456- 460)
  4. Jaheim Hackett – Geological History of Earth. Chap 3,4 and 5 (P. 23,25,28)