الجريمة المنظمة في اليابان قديمة بقِدم اليابان ذاتها، وتُعرف بأن لها ميثاق شرف شديد الصرامة. ميثاق الشرف يساعد الياكوزا على الصمود ضد أي عدو خارجي، خاصةً لو كان عدوًا لا يحمل وشمًا على كافة أنحاء جسده، مثل رجال الشرطة. أما رجال الياكوزا فيمتازون بأن الوشم يُغطي أجسادهم، وكل وشم يدل على الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، وكلما كبرت مساحة الوشم، نظر العامة للفرد بأنه أكثر شجاعةً وأشد بئسًا.

كما يصمدون ضد أصحاب الوشم أيضًا إذا كانوا من خارج اليابان. منذ بضع سنوات دخل الأجانب والصينيون عالم الدعارة في اليابان وافتتحوا أماكن للقمار والمراهنات، أضرّ ذلك بمصالح الياكوزا، فتخلصوا من جميع مديري الأماكن الأجانب في غمضة عين.

ليس لأن الياكوزا تعارض مثل تلك الأفعال، لكن لأنها هي وحدها من تختص بها. تحاول السلطات اليابانية التضييق عليهم دائمًا فكلّفت أفرادا من الشرطة بعمل دوريات مستمرة في المناطق التي يكثر فيها وجود أفراد الياكوزا، لكن أفراد الشرطة غالبًا ما يتجنبون المرور في أماكن محددة بأمر من عصابات الياكوزا. فلجأت السلطات لسياسة تجفيف المنابع فجرّمت أي تعامل مادي في كافة أرجاء البلاد يمكن أن يعود بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالنفع على الياكوزا.

فمثلًا منعت شركات بطاقات الائتمان استخدام بطاقاتها في الأماكن المعروف تبعيّتها للياكوزا لكن لم يمنع ذلك التعامل بالنقد. خاصةً وأفراد الياكوزا وأنشطتهم منتشرة تحت مسميات عديدة في كافة أرجاء اليابان.

«لا تدع الآخرين يعانون بمفردهم»

انتشار الياكوزا يمكن اعتباره بمثابة الجانب المظلم لـ«حكوكب» اليابان المشهور عربيًا بأنه كوكب العدل والإنصاف والرفاهية، حتى أن الياكوزا يتم تقديمها في المحتوى العربي بأنها مافيا طيّبة تساعد الشعب وقت الأزمات. تلك الصورة تنقل نصف الحقيقة فقط، فنعم تساعد الياكوزا الشعب وقت الحاجة، لكن المواطن الياباني يعاني من الياكوزا  وأفعالها بصورة كبيرة ويومية.

أما عن نصف الصورة الذي يحتوى المساعدات فهو متأصل في الياكوزا وفق الميثاق الذي يؤمنون به «لا تدع الآخرين يعانون بمفردهم». في عام 2011 حين تعرضت اليابان لسلسلة من الزلازل المدمرة فأرسلت الياكوز أكثر من 70 شاحنة محملة بالطعام والملابس.

ونصف الصورة المرعب يتضح حين تعلم أن الياكوزا يمكنها التحرك بهذا الأسطول من السيارات في وضح النهار وتحت سمع ونظر السلطات، فلهم دائمًا نشاطات شرعية وقانونية على السطح، بينما يمارسون أنشطتهم الإجرامية تحت غطاء قانوني. لذا يمكن إدراك كيف أن الجميع يعرف أنهم مجرمون وأنهم مشتركون في أنشطة مخالفة للقانون لكن لا يمكن القبض عليهم، لأنه لا يمكن إثبات ذلك بأي صورة.

ويحرص أعضاء الياكوزا على ألا يثبت شيئا ضدهم، لأنهم لا يريدون العودة إلى السجن ولحياة الفقر التي هربوا منها. فالنواة الأولى للياكوزا غرسها البوراكوميون، فئة من المجتمع الياباني تعمل في مهن صناعة الجلود والجزارة. نبذهم المجتمع الياباني واعتبرهم قاع المجتمع ولم يكن أحد يقبل أن يلمسهم ولا أن يلمسوه، اشتغالهم مهن تتعلق بالذبح والموت جعل الناس يظنون فيهم النجاسة وأنه لا يحق لهم لمس البشر.

نبذهم المجتمع فسيطروا عليه

تطور الأمر من رفض التلامس إلى حد أن السلطات بدأت في إرسالهم للعيش خارج المدن منذ القرن الحادي عشر الميلادي، فوجد أبناء تلك المهن أنفسهم في مجتمع مغلق معزولين على أنفسهم بقوة القانون. قبل أبناء تلك المهن وضعهم طوال 500 عام كاملة، حتى وقع جيل الأحفاد في حيرة من أمره. فهم يريدون الاندماج مع المجتمع الياباني وعيش حياة الرفاهية، لكنهم في الوقت ذاته لم يحصلوا على أي تعليم لائق ولا يُرحب بهم في أي مكان، لذا قرروا اللجوء إلى الجريمة لأنهم لا يعرفون سواها.

بدأوا أنشطتهم بافتتاح محال لبيع البضائع المسروقة، ثم أنشأوا دور مقامرة في المعابد والمزارات السياحية بشكل غير قانوني، ثم تتابعت أنشطتهم حتى وصلوا إلى السيطرة على كافة الأنشطة غير القانونية واللاأخلاقية في اليابان خاصةً، وفي عددٍ من دول العالم كذلك. 

توسعهم التجاري وازدياد شهرتم لم يُنسهم أنهم كانوا منبوذين سابقًا، فقرروا هم نبذ المجتمع هذه المرة. فأغلقوا على أنفسهم وأصبحت العصابة هى الأسرة الجديدة، وزعيم العصابة هو الأب المُستحق للولاء، لا يدخل بيهم غريب، وإذا دخل في حالات استثنائية فشروطهم عليه أن ينسى حياته وعائلته خارج العصابة ويلتزم بالولاء للعصابة فقط.

هذا الولاء يُضمن بوشم جسد العضو الجديد كاملًا، ويتم الوشم بالطرق القديمة التقليدية باستخدام عصا خيزران مدببة. تلك الوشوم هى بطاقة هوية العضو الجديد، غير مسموح لها قطعًا بإظهارها في مكان عام، لذا نراهم غالبًا ما يرتدون ملابس رسمية أنيقة تُغطي كامل أجسادهم. لكن العكس هو ما يحدث في اجتماعات العصابة داخليًا، فكل الاجتماعات تُعقد وهم عرايا. السبب هو أن يتأكدوا من وجود الوشم على جسد كل حاضري الاجتماع، والسبب الثاني، أن يتأكدوا من عدم حوزة أيّ منهم لأسلحة أو أجهزة تصنّت.

عصابات ضخمة بإدارة رشيقة

أما الدليل الذي يمكنك أن تلمحه في الأماكن العامة بأن الواقف أمامك من أعضاء الياكوزا أن تجد خنصر يده اليسرى مبتورًا كاملًا، أو جزءًا منه، ذلك لأن العقاب على الفرد الذي يُخطئ أو يفشل هو أن يقطع جزءًا من خنصره الأيسر. لذلك العقاب فلسفة أكبر من كونه عقاب وحشي يليق برجال العصابات، قطع الخنصر يُضعف قدرة الفرد على الإمساك بسيف الساموراي الذي عادةً ما يستخدمه أفراد العصابات للقتال.

وحين يفقد الفرد قدرته على الدفاع عن نفسه منفردًا يحتمي في الجماعة الأكبر من أصدقائه وعصابته ليعوضوا عجزه عن الدفاع، بالتالي تضمن العصابة ولاء كافة أفرادها لبعضهم وعملهم سويًا. تلك القاعدة اكتسبوها من وجود أكثر من 500 ألف مقاتل ساموراي معهم، فقد استغنت اليابان في القرن السابع عشر عن نصف مليون مقاتل بسبب جنوح الدولة للسلم وتطور وسائل القتال إذا لزم الأمر.

تحتوي اليابان ما يُقارب 21 عصابة منظمة، أكبر عصابة أعضاؤها 53 ألف عضو، وأصغرها أعضاؤها 23 ألف عضو فقط. رغم هذا العدد الضخم لكل عصابة إلا تتبع نظامًا هيكليًا يجعلها مؤسسة رشيقة لا تُرهقها كثرة أعداد أعضائها، ث على قمة الهرم «الأويابون»، زعيم العشيرة والأب الروحي، يلية «السايكو كومون»، أو المستشار، الذي يعتمد بدوره على فريق من المحامين والمحاسبين والسكرتيرات، ويليه «الواكاجاشيرا»، وهو الثاني من حيث السلطة، وهو الوسيط الذي يعمل على تنفيذ أوامر الأويابون.

 وهناك بعده «الشاتي جاشيرا»  بسلطاتٍ أقل ويتحكم في من تحته، الذين هم الأخوة أو زعماء كل عائلة منفردة، وتتفرع كل عائلة إلى عائلات أصغر لها حدودها وتخصصها، حيث تبسط سيطرتها على منطقة معينة، وتستعمل الوسائل كافة للدفاع عنها في حالة إقدام عائلة أخرى على اختراقها.

وتستمر البنية في الهبوط إلى عصابات صغيرة يلقبونها بالأولاد أو الأطفال، ويمكن لكل ولد تزعم عصابة تخصه على أن يدفع إتاوة شهرية للعصابة الأعلى وهكذا، ويستمر الأمر على هذا النحو إلى أن يصبح تعداد العشيرة بالآلاف.

أبطال الشعب الذين تكرههم الدولة

كما أن عصابات اليابان تمتلك صلاتٍ قوية بالفنانين ورجال الأعمال الشرعيين وحتى السياسيين، ويدين لها بالفضل أكثر من 10 آلاف ضابط ياباني متقاعد، إذ توظفهم الحكومة بعد تقاعدهم للتفرغ لتتبع ومواجهة أعضاء الياكوزا.

 لكن يُعاني أفراد الشرطة من أن الياكوزا محبوبة شعبيًا بين فئة كبيرة من المحتاجين والفقراء الذين تمد لهم العصابات يد الإغاثة، لذا من الصعب أن تختفي الياكوزا من المجتمع الياباني، فمع كل لعبة ورق أو هانوفدا يتذكرهم الناس، إذ إن أصل التسمية يأتي من لعبة هانوفدا حيث يقوم كل لاعب بسحب ثلاث أوراق، واللاعب الذي يسحب أرقام 3 و8و9 يُعتبر خاسرًا.

كما أن الانطباع عن رجال الياكوزا في الأدب الياباني انطباع جيد ومتأصل في الأدب والسينما، فهم أبطال شعبيّون يخضعون لمبادئ صارمة، ويقطعون أصابعهم تكفيرًا عن أخطائهم، ويخلصون لبعضهم البعض حتى الموت، ولا يقبلون أن يمس أحد بكرامتهم أو كرامة عشيرتهم.

يساعد في تأصيل ذلك الانطباع أن رجال الياكوزا لا يظهرون بمظهر سيئ في غالب الأحوال، فهم يلتزمون بالمعايير العامة ويجوبون الشوارع في المهرجانات الشعبية والدينيّة يوزعون المساعدات على المحتاجين. ربما لأن الشعب الياباني يتشارك مع الجمهور العربي في رؤية جانب واحد من الصورة، فغالبية اليابانيين يرون أن الياكوزا لديهم نظام بنكي متميز، حيث يستطيع أي شخص أن يقترض منهم أي مبلغ يريده، وتوفر الياكوزا له المبلغ في ساعات معدودة، دون أن يضطر لتقديم أي أوراق أو يجيب على أي أسئلة.

لكن الجانب الذي لا يراه سوى المُقترض أن الشرط الوحيد هو تسديد رأس المال مع فوائد فاحشة وفي المواعيد المتفق عليها. ودائمًا ما تكون عواقب تأخير رد المبلغ كارثية، تبدأ بمرحلة المضايقات الأولية ثم في النهاية يقتلون المقترض ثم تتبعه عائلته إذا لم تُسدد.