من غير المعتاد في منطقتنا أن يحظى النظام الصحي وتفاصيله باهتمام خاص من قبل الحكام، بل إنه من المعتقد أن الحكام لا يعرفون حقيقة أية تفاصيل بخصوص النظام الصحي، وفي غالب الظن لا يفهمون آليات وأسس إدارة النظم الصحية المختلفة أو المعايير التي يتم استعمالها لتقييم كفاءة النظم الصحية أو المحددات والمؤشرات التي يمكن اعتبارها ذات قيمة في تقدير مدى كفاءة النظام الصحي وقدرته على تقديم رعاية صحية حقيقية للمواطنين. على الجانب الآخر من العالم، يحظى النظام الصحي على الكثير من الاهتمام والتركيز من قبل السلطات الحاكمة للدرجة التي تجعل رئيس أكبر دولة في العالم حاليا يقوم بنشر ورقة بحثية كاملة عن «إصلاح النظام الصحي الأمريكي، التقدم الذي تم تحقيقه، والخطوات اللاحقة» في واحدة من أهم المجلات العلمية الطبية في العالم، وهي «مجلة الجمعية الطبية الأمريكية»، وتدفع العالم لقراءة تلك الورقة 1,055,723 مرة منذ تاريخ نشرها في الحادي عشر من يوليو/تموز 2016م.


أول رئيس يقوم بنشر ورقة بحثية أكاديمية

بنشره لتلك الورقة البحثية، أصبح باراك أوباما أول رئيس أمريكي يقوم بنشر ورقة بحثية أكاديمية أثناء وجوده في المنصب. تركز تلك الورقة البحثية على ما يعتبره هو أهم التغييرات السياسية التي قام بتبنيها خلال فترته الرئاسية، وهي تغييرات سياسات الخدمات الصحية لتشمل عددا أكبر من المواطنين فيما يعرف بمشروع Obamacare. حيث تناقش تلك الورقة البحثية التغييرات التي تسبب بها إقرار حزمة القوانين والقرارات التي أطلق عليها «Affordable Care Act» ومقدار التحسن في معايير جودة الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين وكيف تم ذلك دون زيادات كبيرة في الإنفاق الصحي وكيف يتوقع أن يؤثر ذلك على الاقتصاد الأمريكي بوجه عام، وقد تضمنت الورقة البحثية 68 إشارة مرجعية لأبحاث أخرى وإحصاءات معلنة كمصدر أساسي للمعلومات التي استندت عليها.

وعلى الرغم من كونه رئيس الجمهورية، فإن ذلك لم يكن مؤثرا في قرار قبول نشر الورقة البحثية في المجلة، فعلى الرغم من أن الورقة البحثية لم تخضع «لمراجعة الأقران peer review»، وعلى الرغم من أن الورقة تم إدراجها في المجلة تحت عنوان «مساهمة خاصة» إلا أن رئيس تحرير المجلة أعلن في مقابلة صحفية: «مع الاعتراف بأننا ندرك موقع المؤلف كونه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن مجلة الجمعية الطبية الأمريكية تقوم باختيار المقالات المنشورة وفقا لمعايير عالية جدا، وقد كان على الرئيس أن يتجاوز تلك المعايير» مضيفا أن الورقة البحثية خضعت لشهرين من المراجعات وتدقيق الحقائق والتعديلات.

ووفقا لكريستي كانجالو، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض، فإن تلك الورقة البحثية ناتجة عن تقييم أداء مشروع Obamacare الذي طلبه الرئيس في نهاية العام الماضي، وأضافت أن الهدف منها هو توجيه صناع السياسات في المستقبل نحو الاتجاه الصحيح فيما يخص الرعاية الصحية، مشيرة إلى أن الرئيس قد اختار مجلة الجمعية الطبية الأمريكية لأنها مجلة علمية جادة تبحث عن الحقائق.


ما الذي حققته حزمة القوانين الجديدة؟

الوضع الأوَّلي

تلخص الورقة البحثية أهم المشاكل التي واجهها النظام الصحي الأمريكي في عام 2009 مع بداية تولي أوباما منصبه في الولايات المتحدة. حيث زاد الإنفاق على قطاع الصحة ما بين عام 1998م وعام 2008م من 13% من إلى 16%، دون أن ينعكس ذلك على نتائج علاج المرضى، كذلك كان النظام الصحي يعاني من العديد من المشكلات، منها الانتظار لعلاج الناس بعد إصابتهم بالأمراض، بدلا من الاهتمام بالوقاية، كذلك تقديم الرعاية الصحية بصورة مجزأة دون تنسيق بين الجهات المختلفة التي تقوم بتقديم الخدمة الصحية. علاوة على ذلك، فقد ترك النظام الصحي الأمريكي واحدا من كل سبعة مواطنين دون تأمين صحي، وعلى الرغم من الجهود الناجحة لزيادة التغطية التأمينية لبعض الفئات كالأطفال، فإن الولايات المتحدة لم تشهد انخفاضا مستمرا في أعداد غير المؤمن عليهم منذ بدأ برنامجي Medicare و Medicaid (كما هو موضح في الرسم البياني)، وما يترتب على تلك الأعداد غير المؤمن عليها من أعباء اقتصادية وغيره.

ما تم إنجازه

تعرض الورقة البحثية لأهم الإنجازات الناتجة عن تطبيق حزمة القوانين الجديدة في عدة نقاط أهمها:

1. زيادة التغطية التأمينية: حيث انخفض معدل المواطنين الغير مؤمن عليهم بحوالي 43% من 16% في عام 2010م (حوالي 49 مليون مواطن) إلى 9.1% (حوالي 29 مليون مواطن) في عام 2015م، فيما يعتبر أكبر معدل للانخفاض في أعداد المواطنين خارج مظلة التأمين الصحي منذ بدأ برنامجي Medicare و Medicaid منذ حوالي 50 عاما، وتقدر الحكومة عدد المواطنين الذين حصلوا على تغطية تأمينية منذ بداية 2016م بحوالي 20 مليون مواطن. وتشير الأدلة الأولية إلى أن زيادة التغطية التأمينية تؤدي إلى زيادة سهولة الحصول على العلاج وكذلك تحسين الوضع المالي والصحي للمؤمن عليهم حديثا.

2. تحسين خدمات التأمين الصحي الموجودة فعليا: فتبعا للقوانين الجديدة، فإن خطط التأمين الصحي المقدمة لابد وأن تتضمن مجموعة من الخدمات الأساسية، كخدمات رعاية الأمومة، وعلاج الاضطرابات العقلية وتعاطي المخدرات وغيرها من الخدمات التي لم يكن يتم تغطيتها على الإطلاق في بعض البرامج سابقا. كما يجب على معظم خطط التأمين المقدمة حاليا أن تقوم بتغطية الخدمات الوقائية دون مشاركة من المؤمن عليهم في التكلفة، وهي خطوة مهمة بالوضع في الاعتبار أن الكثير من خدمات الصحة الوقائية لم يكن يتم استخدامها من قبل المواطنين بشكل كافي. كذلك وفرت حزمة القوانين الجديدة المزيد من الأمان للمواطنين المؤمن عليهم خاصة في حالات التكاليف الكبيرة، بتجريم الحد الأقصى للتأمين مما يمنع شركات التأمين من وضع حد أقصى لمساهماتها، بل وعلى العكس، بإجبار كل مقدمي خدمات التأمين الصحي على وضع سقف سنوي لمساهمات المؤمن عليهم، تتحمل الشركات بعدها كل التكاليف.

3. تحسين آليات المحاسبة في النظام الصحي: قبل أقرار حزمة القوانين الحالية، كان النظام الصحي محكوما بمنظومة «الدفع مقابل الخدمة»، والتي تعتمد على دفع مقابل مادي لكل إجراء طبي يتم للمريض (بغض النظر عن جودة الرعاية الصحية المقدمة)، ذلك النظام يؤدي إلى تقليل المبالغ المدفوعة للمؤسسات الصحية التي تبتكر أساليبا أقل تكلفة في الرعاية الصحية حيث أن تلك الأساليب غالبا ما تتضمن إجراءات طبية أقل، لذلك يستهدف القانون على المدى الطويل تغيير آليات الدفع وربطها بنتائج الرعاية الصحية المقدمة ومدى جودتها.

4. تحسين كفاءة الإنفاق الصحي: عن طريق العديد من الإجراءات التي تتضمن المزيد من الشفافية في إعلان التكلفة الفعلية للخدمات الصحية، وتحسين التنافس في السوق المحلي لمقدمي خدمات التأمين الصحي وغيرها مما يدفع نحو المزيد من الكفاءة في الإنفاق الصحي. ويظهر الشكل البياني التالي معدلات التغير في الإنفاق الحقيقي لكل مستفيد من خدمات التأمين، حيث يظهر أن متوسط الإنفاق على كل مستفيد من خدمات التأمين الحكومية Medicare و Medicaid في تناقص ويوضح زيادة معدلات التناقص بعد عام 2010م (مع بدأ تطبيق حزمة القوانين الجديدة).


تضم الدراسة الكثير من التفاصيل المثيرة التي أعتقد أنها قادرة على المساعدة في تشكيل وعي العديد من صانعي السياسات في منطقتنا فيما يخص الخدمات الصحية والإنفاق عليها وكيفية إدارتها.