عزيزتي الأم أسئلة كثيرة تدور حول المنتسوري، تلك الفلسفة التي حررت الطفل من تعليم القطيع إلى التعلُّم وقتما يشاء كيفما يُحب باستقلالية تحترم اختلافه عن الآخرين. والآن بعد أكثر من قرن كامل على أول حضانة منتسوري أتت للوجود، كيف تحولت هذه الفلسفة العظيمة، على أيدي المصريين لتجارة وعلم زائف و(اِلحق قبل نفاد الأماكن كورس احتراف المنتسوري بـ 300 جنيه فقط)، مما حول هذه الفلسفة السامية إلى خزعبلات و(بيزنس) لا علاقة له بالمنتسوري.


هل يجب أن أشتري أدوات المنتسوري ليمارس طفلي المنتسوري؟

لا، تطبيق فلسفة المنتسوري مُمكنة بالعديد من الأدوات المنزلية العادية، مثلا (الحلل وأغطيتها) مختلفة الهيئة والحجم، هذه أدوات منتسوري كاملة الأركان، فالحلل المربعة والمستطيلة والبيضاوية من النوع الواحد هي وأغطيتها تستطيعين بمطابقة الطفل كل غطاء لحلته المناسبة، ممارسة نشاط مطابقة الأحجام في المنتسوري، (الغطاء الدائري على الحلة الدائرية والغطاء المستطيل على الحلة المستطيلة)، كذلك الحلل ذات الشكل الواحد المتدرجة في الحجم (صغير فأكبر فأكبر)، كذلك نشاط اللضم، فبعض مجموعات الخرز المتطابقة فيما بينها المتباينة كمجموعات، والتي لا تخلو منها علبة خياطة منزلية، يمكن لطفلك ممارسة نشاط اللضم بواسطتها، كذا خلط حبات الليمون والطماطم والبصل صغيرة الحجم وتدريبه على تصنيفها كل مجموعة في إناء خاص بها، كذلك قص الأقمشة السميكة على الهيئات الهندسية – مثلث مربع مُعين دائرة)، ومطابقة الطفل للأزواج معًا.

كل تلك أنشطة منتسوري بدون شراء أدوات منتسوري، لكنهم لن يقولوا لك وسيوهمونك طوال الوقت أن لا منتسوري دون أدوات منتسوري ليدفعوك لشراء أدواتهم غالية الثمن.

الحقيقة أن أدوات المنتسوري تمت صناعتها للتسهيل على الأمهات وصنع أدوات دائمة لا تبلى في يد الطفل، لا لتحويل الأمر لتجارة مادية تُصعِّب الأمور على الأسرة وتزيد الأعباء المالية، لذلك امتلاكك لها جيد، عدم امتلاكك لها لا يؤثر شيئا على فلسفة التطبيق.


أدوات المنتسوري الخشبية وأثاث حجرة الطفل وأدواته الشخصية المصنعة من الخشب غير الملون ذات الأسعار المرتفعة، هل أنا منتسوري الآن؟

الغرض من الاستخدام الخشبي في المنتسوري إعادة حياة الطفل للطبيعة واستعادة فطرة البيئة باستخدامه الأشياء في صورتها المُجردة وحاجتها الأولى، هذا مفيد للطفل نفسيًا، ويشترك فيه المنتسوري مع فلسفات تربوية أخرى كوالدرووف وغيره، لكن ماذا عن طفل يشتري له أهله غرفة خشبية غير مطلية بعشرين ألفا ثم هو لا يذهب لأماكن مفتوحة ولا يرى الطبيعة إلا مرة واحدة شهريًا، وتحت وصاية صارمة من: (متجريش أحسن تقع – متلعبش بدي أحسن تتعور… إلخ)، ولديه في حجرته ألعاب آلية بلاستيكية مضيئة صاخبة، هل هذا منتسوري؟ لا. هل للحجرة الخشبية فائدة في حالة عدم تفاعل الطفل دوريًا مع البيئة الطبيعية ووسط صخب الألعاب الأخرى؟ لا.

ماذا عن آلة موسيقية تُصنَّع من الخشب والزجاج (المواد الطبيعية الموصى بها في المنتسوري) وتتراوح تكلفتها بين 500 و 700 دولار للعبة موسيقية من المواد الطبيعية تُماهي (الأكسلفون) العادي غير أنها خشبية؟ وفي نفس اللحظة كل شيء آخر في عالم الطفل مُصنع تدخل فيه الفلسفة الاستهلاكية الفجة؟

لا فائدة وراء هذا سوى (بيع الوهم) للأمهات، إما أن تصبح الطبيعة فلسفة تطال كل أركان حياة طفلك: أدواته، أنشطته، طعامه، روحه نفسها؛ وإما لن يفيده نهائيا إدخال لُعبة خشبية بسعر خرافي في حياته وسط هذا الكم المرعب من الحداثة المشوِّشة.. لذلك لن يفيده سريره الخشبي الذي يطل على التلفاز!


حضانات المنتسوري وبيع الوهم

هل تعرف أن أربع حضانات فقط هي المعتمَدة في مصر كحضانات منتسوري حاصلة على اعتماد عالمي لممارسة المنتسوري، لها بعض الأفرع في مناطق مختلفة، لكنها جميعها لا تتجاوز عشرة أماكن، هي حصيلة الحضانات المعتمدة عالميا لتطبيق منهج المنتسوري داخل مصر؟

وحتى إحدى هذه الأربعة ترتكب أخطاء في تطبيق المنتسوري، كوضع جدول محدد لممارسة نشاطات المنتسوري، كما تفعل إحداها من تحديد ثلاث ساعات صباحا لممارسة أنشطة المنتسوري فـ «هيا بنا أيها الأطفال الآن لنمارس نشاط منتسوري من الساعة كذا للساعة كذا»، طبعا هذا ليس من المنتسوري في شيء، فالإجبار النظامي للأطفال لممارسة أنشطة المنتسوري وعدم مراعاة ميول الأطفال والفروقات الشخصية بينهم (ربما يكون أحد الأطفال محبا لاستمرار اللعب في الحديقة ولا يريد اللعب بالمثلثات الخشبية)، فدفعه لمشاركة باقي الأطفال (المنتسوري!) ليس منتسوري، فشغف الطفل وحبه وفضوله هي المحركات الأساسية لممارسة أنشطة المنتسوري، وليس الجدول الذي وضعته إدارة الحضانة!

هذا في الحضانات العالمية المعتمدة في مصر الخاضعة لإشراف الكيانات الأم حول العالم، فماذا عن باقي الحضانات غير المعتمدة، كتلك الموجودة على ناصية شارعك وتضع كلمة منتسوري على يافطتها؟ أترك لك التخيّل.


المنتسوري ينصح بوضع أطفال الأعمار المتفاوتة سويًا أثناء اللعب وممارسة الأنشطة، فهل يحدث هذا؟

في الحياة العادية يتفاعل الأطفال في أعمارهم المتفاوتة سويًا بشكل طبيعي، فطفلك يشارك أبناء العائلة الأكبر منه بعامين وثلاثة، ويتعلمون من بعضهم في دقائق ما نعجز نحن الكبار عن تعليمه لهم في شهور، هذه حقيقة يراها كل من يضع طفل العامين ونصف مع طفل يبلغ 5 أعوام، لذلك ينصح المنتسوري في فلسفته بوضع الأطفال من سن ثلاث سنوات حتى ست سنوات معًا أثناء ممارسة الأنشطة، فالطفل الكبير هو أفضل مُعلم للصغير، والصغير هو أرقى تجربة لتحمل المسئولية قد يتعلم منها ومعها الطفل الأكبر تولي الأمور والعناية بالآخر، لكن هل تفعل حضانات المنتسوري هذا؟

لا، يفصلون بين الأطفال، فأطفال كل عام على حدة مع أقرانهم خشية ارتكاب الأخطاء، هنا فُقِد أحد أهم أركان المنتسوري، فلن يتعلم الصغير من الكبير ولن يستفاد الكبير من التفاعل مع الصغير، حتى ارتكاب الخطأ نفسه بين خليط الأعمار مقصود لأنه يؤدي للتعلُّم، فلا تعلُّم دون ارتكاب الأخطاء.

هذه هي الفلسفة العظيمة للمنتسوري، وهذا ما لا تفعله الحضانات المصرية جميعها، باستثناء الاربع حضانات المُعتمدة فقط.


الطفل لا يُعلَّم، بل يُترك ليتعلم

في المنتسوري ليست هناك أوامر مباشرة أو طلبات مباشرة من الأطفال، بل عمليات إرشاد وتوجيه بلغة حسنة تعتمد المواراة وإتاحة المجال للطفل للاختيار الطوعي ولا تعتمد التوجيه المباشر، فحرية الطفل في التعلُّم هي عمود المنتسوري الأول الذي يُبنى عليه كل شيء، كأن يكون لديّ فصل داخلي ومساحة خارجية خضراء مفتوحة مُحيطة به، وهنا يهيئ نشاطا للطفل، وهناك شيء آخر ليتعلمه، ويترك للطفل طوال الوقت حرية الاختيار بين تمضيه وقته في الفصل الداخلي أو الذهاب للمساحة الخارجية والاستكشاف والتعلم هناك، كلاهما يتعلم فيهما الطفل وكلاهما يخضعان للإشراف الدائم، فتواجد الطفل في أي منهما تعليم وتطوير له،وحرية كذلك.

هل يحدث هذا؟ لا، ما يحدث هو (هيا لنفعل كذا فهو وقته في الجدول الآن)، هذا ليس منتسوري.

كذلك نقطة مهمة يوليها المنتسوري عناية خاصة: تدريب الطفل على العناية بأدواته الشخصية بعد انتهاء الحاجة منها. مثلاً في المنتسوري على الطفل بعد النهوض من المنضدة غلق كرسيه وترتيب أدواته، ماذا لو لم يغلق الطفل كرسيه بعد النهوض أو أهمل إعادة إدواته لمكانها؟ في المنتسوري يتم لفت انتباه الطفل لهذا بأسلوب غير مباشر كـ: «عزيزي هل نسيت شيئًا ما؟»، «هذا الكرسي سيظل كما هو مفتوحا وهذه الأدوات غير منظمة فما رأيك في هذا؟ هل أنت في حاجة لغلقه؟، كيف سيكون الوضع لو تركنا جميعًا كل هذه الأدوات على هذه الحال؟» وعلى الطفل أن يقتنع أولا ثم يذهب لتدارك ما نسيه ثانيًا.

هل يحدث هذا في بعض الحضانات المعتمدة أو غير المعتمدة؟ لا. ما يحدث هو «أنت نسيت كرسيك وأدواتك، اذهب لغلق كرسيك وتنظيم أدوات ثم نذهب للحديقة بعد ذلك».

مقايضة الطفل هي أسوأ ما يمكنك أن تمزجه مع فلسفة المنتسوري، وهو ما يحذر منه المنتسوري ولا يتسامح معه، وهو ما يحدث في معظم الحضانات العاملة بمناهج المنتسوري، فلا وقت في الوعي المصري لهذه الترهات، يجب على الطفل أن يعتني بأدواته، إذن فليعتني بها!


في النهاية، وكما يتضح من كل ما سبق، المنتسوري فلسفة وليس بعض الخطوات لو حرصت على تطبيقها بت مُعلمًا بمنهج المنتسوري، بل إن إدراك هذه الفلسفة وتطبيع حياة الطفل كاملة بها، هي المنتسوري نفسه وليس ما حوله من بيزنس، كذلك إدراكها كاملة يجعلك كمربٍ قادرا على سد ثغرات المنتسوري نفسه -فلا شيء كاملا سوى الله- لذلك في المنتسوري بعض الثغرات كالثغرة الإبداعية، عليك التعامل معها وتعويضها بممارسات وفلسفات أخرى، ستعرف كل هذا ببساطة حين تُدرك فلسفة المنتسوري نفسها، لا حين يذهب طفلك للحضانة التي تضع كلمة منتسوري على يافطتها أو حين تشتري لحجرته أثاثًا خشبيًا وتضع مرتبته على الأرض، أو حين تتناول فلسفة كهذه تناولك للوجبات السريعة في مُحاضرة ساعتين، فالمنتسوري فلسفة ما إن تُدركها وما حولها، أسبابها ونتائجها وعللها، حتى تكون أنت وطفلك في الطريق الصحيح لتطوير الإدراك ودفع النمو العقلي والجسدي والحركي والروحي إلى الأمام.

هذا هو المنتسوري الحقيقي، فلسفةً وفطرةً وعِلمًا، وليس تجارةً بيعًا وشِراءً.