في عام 1997، سافر «نصر وهدان القط»، مدرس التاريخ الصعيدي، من جنوب مصر إلى الإسكندرية في شمالها، وخاض معركته النبيلة والشرسة ضد تجار الآثار والفاسدين من أبناء مصر والغرباء، في سبيل الكشف عن موقع مقبرة الإسكندر الأكبر وإنقاذها من أيدي لصوص التاريخ. على مدار شهر كامل، تابعت الأسرة المصرية باهتمام العرض الأول لمسلسل «حلم الجنوبي» الذي كتبه محمد صفاء عامر، وأخرجه جمال عبد الحميد، ولعب بطولته صلاح السعدني، وانتهى بضياع البردية وبقاء مستقر جثمان الإسكندر سرًا يستنزف جهد الكثيرين ولا تنتهي محاولة اكتشافه إلا بخيبة أمل.

عاشت مصر والعالم أحدث خيبات الأمل خلال شهر يونيو/حزيران من العام 2018، حين عثر بمنطقة سيدي جابر في مدينة الإسكندرية على تابوت ضخم من الجرانيت الأسود يتجاوز عمره الألفي عام، ثم لم يعثر فيه إلا على ثلاثة هياكل عظمية في حالة سيئة، بما يتفق مع تصريحات سابقة استبعدت فيها وزارة الآثار المصرية نسبته إلى الملك المقدوني ومؤسس المدينة والقائد العسكري الشهير. لكن بشكل عام، أثارت هذه الواقعة الأخيرة تساؤلات عن قصة مقبرة الملك العظيم وملابسات اختفائها، كما أثارت الفضول لمعرفة أشهر الشائعات القديمة المرتبطة بالمقبرة، وهو ما نعرض له فيما يلي.


جثة قلقة: من الخطف إلى الاختفاء

توفي الإسكندر الأكبر (356 ق. م-323 ق. م) عن عمر 32 عاما في مدينة بابل العراقية التي فتحها مؤخرا. وتختلف المصادر التاريخية حول سبب الوفاة، ما بين السم ومرض الكبد الكحولي وحمى التيفود والملاريا. أوصى الإسكندر على فراش الموت بدفنه إلى جوار أبيه الإله أمون – وهو النسب الذي أكده الكهنة – في معبده بسيوة، لكن القادة اختلفوا حول المكان المناسب للدفن ورأى بعضهم دفنه في مقبرة عظيمة بمسقط رأسه، وجرى صنع تابوت حجري فخم بغطاء من الذهب الموشى بالفسيفساء وكفن للجثة المحنطة من ألواح الذهب المطروقة ونعش وعربة مذهبة لحمله وغير ذلك تشريفًا للقائد الأسطوري الراحل.

بعد نحو عامين من الصراع السياسي والجهد الفني المتواصل – أي قرب نهاية عام 322 ق. م –قام الموكب الملكي يجره 64 بغلًا من بابل متوجهًا إلى مقبرة فاخرة في مقدونيا، إلا أن قوات «بطليموس الأول» – الذي آل إليه عرش مصر فكان أول الأسرة البطلمية الحاكمة – اعترضت طريق القافلة في سوريا واستولت على النعش الذي تنقل بين أكثر من مقبرة، كانت أولها في ممف، لكن سرعان ما نقل إلى قبر بديع في الإسكندرية يضم ضريحًا أسفل الأرض يقود إليه ممر طويل، ملحق به معبد للكهنة، وتحيط بكل ذلك أروقة دائرية شيدت لاحقًا.

كان بطليموس الثاني هو من نقل جثمان الإسكندر الأكبر من مدينة ممف [إلى الإسكندرية].
وصف اليونان، تأليف «باوسانياس»، القرن الثاني الميلادي

تحكي تلك المصادر عن زيارات شخصيات تاريخية بارزة للمقبرة. مثل «يوليوس قيصر» (100 ق. م-44 ق. م) و«كليوبترا» (69 ق. م-30 ق. م) و«أغسطس قيصر» (63 ق. م-14 ميلاديا)، مع تباين أهدافهم. ففي حين لجأت كليوبترا إلى بيع بعض الكنوز لتمويل حربها ضد أغسطس، وضع هو عقب فوزه إكليلا ذهبيا عند رأس الجثمان. ثم جاء «كاليجولا» (12 ميلاديًا-41 ميلاديًا) الإمبراطور الروماني بعد عقود قليلة لينهب محتويات المقبرة ومتعلقات الإسكندر النفيسة رغم ما يجمعه بالقائد الراحل من صفات نادرة، فمثلما نصب الكهنة المصريون في سيوة الإسكندر ابنًا للإله آمون من قبل، حلت رأس كاليجولا محل رءوس تماثيل الآلهة في معابد روما وصكت صورته على العملات في مصر بصفته إلهًا للشمس.

كثيرا ما ارتدى كاليجولا ثياب القائد المنتصر حتى قبل بدء حملاته العسكرية، كما ارتدى أحيانًا درع الإسكندر الأكبر الذي أخذه من تابوته.
سِيَر القياصرة، تأليف «سويتونيوس»، القرن الثاني الميلادي

وخلال القرن الثالث الميلادي، زار «كاراكلا» (188-217)، الإمبراطور الروماني المهووس بالإسكندر الأكبر، المقبرة، ليقرر بعدها التسمي بأسمائه وألقابه ذاتها. و غالب الظن أن المقبرة – حالها كحال مكتبة الإسكندرية ومعظم المدينة – قد دمرت أو نهبت خلال قمع الإمبراطورية الرومانية لتمرد «زنوبيا» ملكة تدمر، وإن لم يكن فقد تم ذلك مع ما تعرضت له المدينة عام 365 من زلزال وتسونامي مدمر، وإن لم يكن فمع اعتداء المسيحيين على معابد الآلهة الوثنية في مطلع القرن الخامس الميلادي. إذ تساءل «يوحنا ذهبي الفم» – بطريرك القسطنطينية والقديس المسيحي – في حديثه إلى أهل مدينة الإسكندرية آنذاك عمن يملك أن يرشد الناس إلي مرقد القائد العظيم الذي ملك الدنيا يومًا ما، في إشارة إلى تفاهة المجد الدنيوي الزائل أيًا كان حجمه.

لاحقًا، نجد في كتابات الرحالة أخبارًا عن مقبرة للإسكندر الأكبر – يشير المسلمون منهم إلى الإسكندر المقدوني باسم ذي القرنين – وموقعها. مثل ما ذكره «ليون الأفريقي» (1488-1554) الجغرافي والدبلوماسي الأندلسي المغربي عن تبرك المصريين بمسجد «ذو القرنين» الذي يقع مكانه مسجد النبي دانيال الآن. أو ما ذكره «مارمول كاربخال» (1520-1600) المؤرخ والعسكري الإسباني، من وقوع القبر في وسط المدينة بين الخرائب قريبًا من الكنيسة المرقصية المجاورة لمسجد النبي دانيال. وتدور أغلب النظريات حول هذه البقعة تحديدًا، وقد أثارت كثير من الجهود الكشفية المحلية والأجنبية التي كشفت بالفعل عن عدد من البقاع الأثرية في المنطقة لكن موقع المقبرة المنشودة ما يزال مجهولًا.

من تلك الجهود بعثة المركز البولندي للآثار عام 1990 التي استهدفت قلب مدينة الإسكندرية، في منطقة كوم الدكة تحديدًا. وقد بلغ التنقيب عمقًا تعدى الخمسين قدمًا تحت سطح الأرض. أسفر ذلك عن اكتشافات أثرية فريدة، منها مسرح صغير من الرخام يعود إلى الإمبراطورية الرومانية، بينما لم يعثر على أي شيء يحتمل ارتباطه بالمقبرة الضائعة. كما تكررت عمليات التنقيب داخل حدود مسجد النبي دانيال كثيرًا حتى تعالت الاعتراضات خوفًا على أساسات المسجد الذي قتل حرمه بحثًا.

تفرغ [بطليموس] في باقي مدته لتنظيم مملكته العظيمة، وأن يبرز في تشييدها حكمته.. فشرع في تتميم الهياكل والقصور والمباني… فمن هذه المباني ضريح الإسكندر الأكبر الذي خفي الآن عن العيون وظنت أنه في محل نبي الله دانيال الظنون.
تاريخ مصر والعرب قبل الإسلام، تأليف «رفاعة رافع الطهطاوي»

مقبرة سيوة: أدلة واهية وحكاية شيقة

لعل أشهر الشائعات وأكثرها عالمية هي ما شهدتها التسعينيات كذلك، ولعبت بطولتها «ليانا سوفالتزي». كانت سوفالتزي عالمة آثار يونانية تدعي التخصص في تاريخ الإسكندر الأكبر، تبنت فرضية ضعيفة تنص على أن بطليموس الأول قد لبى رغبة الإسكندر بدفنه في معبد آمون بواحة سيوة، على عكس إجماع غالبية المجتمع العلمي. دفعها ذلك إلى إعادة التنقيب في موقع أثري بمنطقة بلاد الروم التي تبعد عن الحدود الليبية نحو خمسين كيلومترا. وقد أثارت ضحة وجدلًا عالميين حين أعلنت بعد فترة قليلة – في منتصف التسعينيات – اكتشاف ممر تحرسه أسود منحوتة يقود إلى نصب واضح الأهمية، وثلاثة ألواح تحكي قصة تسمم الإسكندر واصطحاب بطليموس للجثة إلى مرقدها هناك.

بادر كثير من العلماء بالتحذير من زيف نسبة تلك الآثار إلى الفترة المنشودة والترجمة الواهية للنصوص المكتشفة، حتى نشرت جريدة التايمز الخبر حينها تحت عنوان «الإسكندر الزائف»، وأكدت اللجان الأثرية المتتالية صدق التحذيرات وأوصت بمنع سوفالتزي وفريقها – على وجه الخصوص – من دخول الموقع. لكنها ما تزال تزعم حتى اليوم أن الحكومة المصرية قد حظرت أي محاولة لاستكمال التنقيب أو الاقتراب من الموقع دون أي تبريرات، إلى جانب قصص عن دور لعبته تشابكات سياسية معقدة بين دول البحر المتوسط واللاعبين الإقليميين، مثل إسرائيل التي زار سفيرها إلى مصر الموقع في فترة مبكرة وحذرها – وفق مزاعمها – من خطورة ذلك الكشف على استقرار المنطقة.

ويبقى مكان مقبرة الإسكندر الضائعة لغزًا محيرًا بدرجة تسبب الإحباط وتثير الحماسة في الوقت نفسه، ما بين علماء يجزمون بضياعها خلال الكوارث الطبيعية التي ضربت الإسكندرية وآخرين يزعمون أنها حلم قارب على التحقق. لكن على كل حال، لا ينقضي عقدان تقريبًا إلا وتجذب شائعة العثور عليه انتباه الفريقين وسائر العالم مجددًا لكن بلا جدوى.