يهدف هذا المقال –ببساطة ووضوح– إلى هدم ما نتصور في أحاديثنا اليومية أننا نصفه حينما نتحدث عن الأعراق البشرية، عن أنها مجموعات منفصلة من البشر تميزها صفات جينية مرتبطة بالذكاء، درجات العنف، المستويات التعليمية، وكم الدخل السنوي، ومنفصلة عن أي سياقات اجتماعية وسياسية.

هناك عدة وجهات نظر لظاهرة العرق؛ العرقية الطبيعانية Naturalism Racial مثلا تقول إن العرق مركب بيولوجي Biological Construct، يعتمد –ويعتمد فقط– على خصائص لها قاعدة جينية، كلون البشرة، طبيعة الشعر، شكل الجمجمة. تصف تلك الخصائص مجموعات محددة من البشر، وتورثها تلك المجموعة لأطفالها، ويرتبط ذلك التقسيم بحدود جغرافية قارية. يؤدي ذلك إلى فكرة أكثر خطورة: أنه بناء على تلك النقاط السابقة يمكن لنا وضع تنبؤات عن صفات معينة لشخص ما موجود «هناك» ضمن نطاق جغرافي محدد ربما أو ضمن مجموعة ذات جلد بلون محدد، هل يمكن ذلك؟

سوف نرى، لكن قبل الولوج لتلك الفكرة دعنا نتعرف على العرقية الاستبعادية Racial Eliminativism، وهي على النقيض تماما تقول إنه لا يمكن لنا تمييز البشر عرقيا على أساس علمي، بمعنى أنه بالفعل قد تكون هناك اختلافات بيولوجية لكنها ليست ذات قدرة على صنع ما نسميه «العرق». هنا يتطور الأمر لنحصل على العرقية كمركب اجتماعي Racial Constructivism، وهو الرأي القائل إن العرق –رغم وجود البيولوجيا– هو تركيبة اجتماعية لا علاقة لها بالبيولوجيا.

لنبدأ بتوضيح أن هناك إجماعا بين متخصصي البيولوجيا على أن تلك الدرجة من الانحياز للنمط الجيني في العرقية الطبيعانية ليست صحيحة بالمرة. فالعرق هو مركب اجتماعي مرتبط بالثقافة واللغة وعادات الشعوب والمجموعات البشرية.

ولقد كانت أول إشارة لما يعنيه «العرق» على يد الطبيب الألماني جون فريدريك بلومينباخ سنة 1776 حينما قسم البشر لخمسة أعراق. وفي تلك الفترة تم استغلال الفروق الجغرافية واللونية بين البشر لصنع حاجز بين تلك المجموعات البشرية وتحميله بعدة أفكار لها علاقة بتبرير استعباد فئة ما من البشر لفئة أخرى.

في الحقيقة، مع تغير الأجندات السياسية في الولايات المتحدة، مثلا، تغيرت طبيعة العرق من فترة لأخرى، خذ مثلا مكسيكيي الأصل، حتى سنة 1929 أنت شخص أبيض، لكن عند حاجة الدولة لإيقاف الهجرة فأنت في سنة 1930 غير أبيض، بينما في بداية الأربعينيات أثناء الحرب العالمية الثانية والحاجة للمزيد من القوى العاملة في الدولة فأنت أبيض من جديد، مبروك.

على مدى زمني واسع تم استخدام ظاهرة العرق لدعم توجهات سياسية واقتصادية، وغالبا ما تم الزج بالبيولوجيا في تلك المزاعم لإعطائها دعما صلبا، لكن هل يؤكد العلم صحة تلك المزاعم؟ دعنا نعيد صياغة هذا السؤال في صورة أخرى: ما الذي يمكن على أساسه أن نقسم نوعا ما لمجموعات –نويعات Subspecies– تقع تحته في شجرة التصنيف؟


تنوعات لوينتن

عرق جينات علوم علم
عرق جينات علوم علم

في الثلث الأول من القرن الفائت طور سيوال رايت، عالم الوراثة الأمريكي الشهير، قيمة تطورت لتصبح الآن ما نسميه «معامل التثبيت Fixation index» للتجمعات الحيوية Fst، وتستخدم للحكم على التجمعات الحيوية من حيث درجة تجانس محتوى أفرادها من الحمض النووي أو اختلاف مجموعة من الأفراد بشكل منفصل عن مجموعة أخرى داخل نفس التجمع. وتكون .0 للتدليل على أن التجمع متجانس تماما، و1 للتدليل على أننا أمام نوعين مختلفين تماما. افترض رايت أن قيمة هذا المعامل بدرجة .25 تسمح لنا بتصنيف تجمع حيوي ما على أنه «ينقسم لنويعات».

نعرف أن درجة التشابه في المحتوى الجيني للبشر تبلغ 99.9%، يعني ذلك أنه يبقى لنا فقط .1 % للتنوع، ضمن هذا الـ 0.1 ظهرت نتيجة معامل التثبيت بقيمة .12، أو 12%، ما يعني أن كل البشر يتشاركون في 88% من محتوى الـ 1% المسئول عن التنوع الجيني، بينما يظهر الاختلاف فقط في 12% من هذا المحتوى. في تلك النقطة قد يتساءل البعض عن أهمية تلك الـ 12%، بالفعل قد يكون أحد مكوناتها من الصفات في البشر مسئولا عن الذكاء مثلا أو العنف، هنا يدخل ريتشارد لوينتن للعبة.

سنة 1972 نشر ريتشارد لوينتن، الأستاذ بهارفارد، ورقة بحثية بعنوان «توزيع التنوع البشري The Apportionment of Human Diversity»، والتي حصل فيها على قيمة معامل التثبيت Fixation index من خلال تحليل إحصائي لـ 17 علامة وراثية من أفراد من أعراق مختلفة. العلامات الوراثية Genetic markers هي مناطق -تتابعات- للحمض النووي معروف موقعها على الكروموسوم وتسمح لنا بذلك أن نتعرف على الأفراد أو الأنواع.

توصل لوينتن إلى مجموعة من النتائج المهمة، والتي تم تأكيدها فيما بعد في أكثر من دراسة، والتي تستدعي التأمل هنا، لتقول إن:

  • 85.4% من قيمة التنوع يتشارك فيها كل البشر
  • 8.3% من درجة التنوع توجد بين أفراد من نفس العرق
  • 6.3% فقط من درجة التنوع موجودة في أفراد من أعراق مختلفة

يعني ذلك أن درجة التنوع الجيني بين فردين من نفس «العرق»، كدنماركي وبريطاني مثلا، أكبر من درجة التنوع الجيني بين أفريقي وآسيوي، أي أن المسافة بين فردين من دول وسط وجنوب أفريقي، في المحتوى الجيني، قد تكون أكبر من المسافة بين شخص ياباني وآخر إيطالي.

يعني ذلك أن تقسيمنا للعرق، كما قلنا بالأعلى، والمبني على أن هناك مجموعات محددة من الأفراد تمتلك درجة من التجانس فيما بينها، وتختلف في تركيبها الجيني عن مجموعة أخرى، غير صحيح. لنوضح هنا أن الجدل لازال مستمرا حول شكل الدراسات التي تتم حول معامل التثبيت، لقد انتقد أنتوني إدوارد لوينتن في ورقة بعنوان «مغالطة لوينتن» وضح فيها أن الأخير لم يلتفت لارتباط الجينات معا في أفراد نفس العرق.


أفريقيي الأنيميا

التنوع الجيني بين البشر هو أمر طبيعي. كل من يقرأ هذا المقال الآن يختلف عنّي وعن شخص يجلس بجانبه في المترو، أو في المطعم، أو في حفل غنائي ما، بحوالي 3 ملايين جين. في الحقيقة ذلك هو سبب وجودنا إن صح التعبير، لأن التنوع الحيوي هو سر استمرار الجماعات. لكن مشكلتنا هنا ذات علاقة بالفصل بين الاختلاف البيولوجي بين مجموعات من البشر، ومفهوم العرق، الذي يعبر عن بوتقة محددة الملامح نضع بداخلها مجموعة من الأفراد لمجرد أنهم ذوو لون بشرة محدد. لكن هم بالفعل مختلفون في لون بشرتهم، كيف إذن يمكن القول إنه ليس هناك فارق؟

أنيميا الخلايا المنجلية هو نوع من الأنيميا الانحلالية ظهر بسبب طفرة في الجين المسئول عن تكوين الهيموجلوبين في البشر، بحيث تفقد كرات الدم الحمراء قدرتها على حمل الأكسجين وتتغير لشكل المنجل. قديما كان من المعتقد أن أنيميا الخلايا المنجلية هي مرض يصيب الأفريقيين بسبب مشكلة خاصة بهذا العرق، مشكلة لها علاقة بجيناتهم. لكن ما نعرفه الآن هو أمر ذو علاقة بالملاريا، فالعجيب أن هذا الجين الجديد صاحب الطفرة يتسبب في أن الأشخاص الذين يحملون على الحمض النووي خاصتهم نسخة واحدة منه تظهر لديهم مقاومة للملاريا.

عبر الانتخاب الطبيعي، كان سيتم التعامل مع جين هذا النوع من الأنيميا على أنه خطأ في الحمض النووي يجب استبعاده من أجل استقرار النوع. لكن بالنسبة للسكان في بعض المناطق في العالم كوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا، فالأمر مختلف، لأن وجود هذا الجين أصبح له قدرة على حماية الأفراد من مرض يقتل 1.2 مليون شخص سنويا.

هل تلاحظ مدى التشابه بين توزيع وجود كل من الملاريا وأنيميا الخلايا المنجلية؟

مكنت تلك القدرة البشر هناك من صنع تكيف جديد يموت فيه عدد أقل من البشر. فالعائلات التي تحمل الجين المتطفر تعيش وتنجح تزاوجيا وتترك للعالم أفرادا أكثر قدرة على مقاومة الملاريا، لكنهم معرضون دائما لأنيميا الخلايا المنجلية. بينما العائلات التي لا تحمل هذا الجين سوف تكون أكثر عرضه لانقضاض الملاريا وسوف يقف الانتخاب الطبيعي ضدها.

لذلك حافظ البشر على هذا الجين في بعض المناطق، وفي مناطق أخرى تخلص الانتخاب الطبيعي منه. إذن أنيميا الخلايا المنجلية ليست مرضا أفريقيا الطبع، لكنها فقط نوع من التكيف. كذلك يمكن فهم نفس القضية بالنسبة للون البشرة وحاجة الانتخاب الطبيعي في بعض المناطق لبعض الصفات دون غيرها. لكن هنا يجب توضيح أن أثر الانتخاب الطبيعي على الجينوم البشري لم يتخط 0.007 من التنوع، في الصفات/الألائل الخاضعة للانتخاب الطبيعي، وتم رصده فقط في مناطق لها علاقة بالطقس، المرض، النظم الغذائية.


ملوك العدو

عرق جينات علوم علم
عرق جينات علوم علم
عرق جينات علوم علم
توزع لون البشرة في القرن الحادي والعشرين

في الحقيقة، يؤدي ذلك بنا لنقطة أخرى مهمة، دعنا الآن نقارن بين توزيع لون البشرة في العالم وتوزيع فصائل الدم في الخرائط السابقة. هل تلاحظ شيئا؟ بالضبط، لا يوجد نمط واضح يربط مجموعات الدم ببعضها، وبلون البشرة. في الحقيقة سوف نحصل على أنماط مشابهة في أثناء محاولاتنا لتحليل الكثير من الصفات، وحينما نجد أن بعض البشر أكثر تميزا من غيرهم في شيء ما، فنحن لا نجد بعد دلائل جينية لهذا التميز.

عرق جينات علوم علم
لنجرِ قليلا ..

يوساين بولت بطل العالم، وأسرع عداء في التاريخ، جاميكي الجنسية. في الحقيقة يمكن القول إن الجاميكيين يسيطرون – رجالا ونساء – على مسابقات العدو السريع لمسافات قصيرة في الأوليمبياد. ورغم ذلك فعدد سكان جاميكا هو 2.7 مليون فرد فقط، بينما يسيطر التنزانيون والأوغنديون على مسابقات الماراثون. دعنا نربط ذلك بالنتائج المهمة التي تقول إن الأمريكان من أصل أفريقي يحرزون تقدما ضعيفا في الدراسة، ويحصلون على نتائج أقل في اختبارات الـ IQ، بينما تحصد الأصول اليهودية جوائز نوبل، هل يمكن لذلك كله أن يكون بتأثير جيني؟ ما سر تلك الفجوات؟

جميل جدا، يمكن أن نصنع اختبارا جيدا في تلك النقطة، دعنا مثلا نكشف عن نسب وجود كل عرق في الحمض النووي لمجموعة من الرياضيين الجاميكيين، وكذلك مجموعة من غير الرياضيين الجاميكيين، إذا ظهرت درجة أكبر لوجود العرق «الأوروبي» مثلا أو «الأفريقي» في العيّنة الرياضية، فقد نتأكد أن للعرق أو التمثيل الجيني لسلف محدد هنا دورا ما في تحديد مصير بعض البشر.

في الحقيقة لقد حدث ذلك في أكثر من دراسة، لكن أيا منها لم يصل لنتائج حاسمة. فالرياضيون كغيرهم من غير الرياضيين، يحملون نفس التمثيل الجيني لنفس المجموعات. كذلك سوف يصل بنا الحديث هنا –حينما يمتد مناقشا فكرة أن الارتباط لا يعني السببية- إلى قابلية الأمريكيين من أصل أمريكي للإصابة بأمراض قلب معينة بدرجة أكبر من غيرهم. لكن في النهاية يتبين أن لذلك علاقة بأسلوب حياة تلك المجموعة ونمط مأكلهم من البشر وليس الجينات.

إذا تحصّلنا على الحمض النووي الخاص بشخص ما الآن، وقمنا بتحليله، فلا يمكن لنا تحديد عرقه، بالطريقة التي نعرّف بها العرق، بأي آلية. دعنا نتصور أن الجنس البشري كاملا هو تدرج ما، مُتّصل يمر بنعومة بين كل الأفراد على سطح الأرض، فلا تجد فيه بوتقات خاصة بمجموعة محددة من البشر تجمعهم صفات محددة.

في الحقيقة لا يوجد ما يمكن أن نسميه «عرق نقي»، هناك دائما بداخل كل منا درجة من الآخر، وهذا هو ما يظهر بالفعل حينما نتتبع الهابلوجروب الخاص بنا، وتلك نقطة مهمة، فمن الممكن أن نقوم بعمل تحليل الجينوم لنتعرف على أصولنا ودرجة تمثيل كل أسلافنا في جيناتنا. لكن ذلك لا يدل على شيء، حينما ادعى جيمس واطسن أن المشكلات الاجتماعية في أفريقيا لا حل لها لأن لديهم عوزا جينيا، لم يكن يعرف أن تحليل الجينوم الخاص به سوف يُظهر وجود حوالي 20% من سلف أفريقي !

نعم، العلوم البيولوجية في العموم هي أمر غاية في التعقيد، تحتاج للكثير من الوقت والجهد والتجارب التي تعطينا أطنانا من البيانات التي تحتاج لطرق مختلفة من التحليل الإحصائي للوصول لنتائج دقيقة. ولا أستطيع في مقالي البسيط أن أؤكد أن المواضيع محسومة، لكن ما هو مؤكد بالفعل أن كل ذلك الهراء الذي يروج له القائلون بالعنصرية الجينية لا دليل واحدا صحيح وواضح عليه، العِرق هو مركب اجتماعي لا علاقة له بعلوم البيولوجيا.

صديقي، لو عدنا للوراء فقط 50 جيلا فإن كل البشر -على قيد الحياة الآن- سوف يتشاركون نفس الجد. لو نزل كائن فضائي إلى الأرض حالا لعرّف البشر على أنهم عرق واحد. لطالما تم استخدام تلك الكلمة البسيطة «عرق» لإشعال العالم، مرة بعد مرة، وها نحن من جديد نستعد لدورة جديدة من الحماقة. لذلك فما أود أن أتساءل عنه هنا هو: إلام سوف نحاول جر العلم لمعاركنا الخاصة؟ كم حربا عالمية نحتاج لكي نقتنع أن ما نفعله الآن هو فقط مبرر لغضبنا، ليس من آخرين، ولكن من ذواتنا؟

المراجع
  1. Why culture is chunky and genes are creamy
  2. Genetic Structure of Human Populations
  3. What is a Haplogroup?
  4. Why are Jamaicans so good at sprinting?
  5. Importance of mitochondrial haplotypes and maternal lineage in sprint performance among individuals of West African ancestry.
  6. The Apportionment of Human Diversity
  7. Human genetic diversity: Lewontin's fallacy