محتوى مترجم
المصدر
Foreign Affairs
التاريخ
2016/06/13
الكاتب
فرانك-فالتر شتاينماير

على مدار العقدين الماضيين، شهد الدور العالمي لألمانيا تحولًا ملحوظًا. فبعد إعادة توحيدها سلميًا عام 1990، كانت ألمانيا في طريقها لتصبح عملاقا اقتصاديا دون تقديم الكثير على ساحة السياسة الخارجية. ولكن اليوم، تعد ألمانيا قوة ًأوروبية كبرى تجتذب الثناء والنقد بشكل متساوي. ينطبق ذلك على استجابة ألمانيا لموجة اللاجئين الأخيرة – حيث استضافت أكثر من مليون شخص العام الماضي – وتعاملها مع أزمة اليورو.

مع نمو قوة ألمانيا، نمت معها أيضًا حاجة البلاد إلى توضيح سياستها الخارجية بشكل أكبر. ويمثل تاريخها الحديث مفتاح فهم كيفية رؤيتها لمكانتها في العالم. فمنذ عام 1998، خدمت بلادي كعضو في أربعة حكومات، وكقائد للمعارضة البرلمانية. خلال تلك الفترة، لم تبحث ألمانيا عن دورها الجديد على الساحة الدولية. بل ظهرت كلاعب محوري عبر بقائها مستقرة مع تغير العالم من حولها. مع تمايل الولايات المتحدة بسبب آثار حرب العراق ومعاناة الاتحاد الأوروبي لتجاوز سلسلة من الأزمات، ظلت ألمانيا صامدة. حيث خاضت طريقًا صعبًا لتتجاوز صعوباتٍ اقتصادية، وتتولى الآن مسؤوليات تليق بأكبر اقتصاد في أوروبا. كما تساهم ألمانيا دبلوماسيًا في الحل السلمي لعدة صراعات حول العالم: أبرزها مع إيران وفي أوكرانيا، بالإضافة إلى صراعات أخرى في كولومبيا، العراق، ليبيا، مالي، سوريا، ودول البلقان. يجبر مثل هذه الأفعال ألمانيا على إعادة تفسير المبادئ التي وجهت سياستها الخارجية لمدة تزيد عن نصف قرن. لكن ألمانيا قوة مفكرة؛ فحتى مع تكيفها، سوف يستمر الإيمان بأهمية ضبط النفس، والتشاور، والتفاوض السلمي في توجيه تفاعلاتها مع بقية العالم.


تبني دورٍ عالمي

استمرت قوة ألمانيا الاقتصادية النسبية ونهجها الحذر في استخدام القوة مع التغير الجذري الذي خضعت له البيئة العالمية والإقليمية. كانت شراكة ألمانيا مع الولايات المتحدة واندماجها في الاتحاد الأوروبي محورين رئيسين في سياستها الخارجية. لكن مع تعثر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، صمدت ألمانيا وصعدت كقوة عظمى، إلى حد كبير بشكلٍ افتراضي.

في هذا الدور، توصلت ألمانيا إلى إدراك أنها لا يمكنها الهروب من مسؤولياتها. وبما أن ألمانيا تقع بوسط أوروبا، لا العزلة ولا المواجهة تمثل خيارًا سياسيًا حكيمًا. بدلًا من ذلك، تحاول ألمانيا استخدام الحوار والتعاون لتعزيز السلام وإنهاء الصراع.

فكر بشأن دور ألمانيا الجديد في الشرق الأوسط. فطوال عقود، هيمن الصراع العربي الإسرائيلي على المشهد السياسي للمنطقة. في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، تجنبت ألمانيا عمدًا تولي دورٍ في طليعة الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة. لكن اليوم، مع انتشار الصراعات، تتدخل ألمانيا بشكل أوسع في أنحاء المنطقة. منذ عام 2003، عندما بدأت الجهود متعددة الأطراف لإثناء إيران عن بناء قنبلة نووية، لعبت ألمانيا دورًا محوريًا، وكانت أحد الموقعين على اتفاق عام 2015. كما تشارك ألمانيا بقوة في إيجاد حلٍ دبلوماسي للصراع في سوريا.

لا تبتعد ألمانيا عن مسؤولية المساعدة في بناء هيكلٍ أمني جديد في المنطقة؛ وهي عملية ربما مهد لها الطريق اتفاق إيران. يقدم تاريخ أوروبا هنا بعض الدروس المفيدة. . فقد ساعد مؤتمر هلسنكي عام 1975 في تغلب القارة على انقسامات حقبة الحرب الباردة عبر إنشاء منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. إن اختار اللاعبون الإقليميون التطلع إلى هذا المثال، سيجدون دروسًا مفيدة قد تساعدهم في معالجة صراعاتهم الحالية.

أحيانًا يحتاج الألمان من الآخرين أن يذكروننا بفائدة تاريخنا. على سبيل المثال، في العام الماضي، أجريت محادثة ملهمة مع مجموعة صغيرة من المثقفين في جدة، بالمملكة السعودية. وقال أحدهم: «نحتاج سلامًا وستفاليًا في المنطقة». يلهم الاتفاق الذي توصل إليه الدبلوماسيون في مونستر وأوسنابروك عام 1648، لفصل الدين عن القوة العسكرية، المفكرين في الشرق الأوسط إلى يومنا هذا؛ بالنسبة لأحد سكان وستفاليا الأصليين مثلي، ليس هناك تذكير أفضل من هذا بالقوة المفيدة للماضي.


الارتقاء إلى مستوى التحدي

مع تعثر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، صمدت ألمانيا وصعدت كقوة عظمى، وفي ظل هذا الدور أدركت ألمانيا أنها لا يمكنها الهروب من مسؤولياتها.

وفي مكان أقرب إلى الوطن، اختبرت الأزمة الأوكرانية القيادة والمهارات الدبلوماسية الألمانية. فمنذ انهيار نظام فيكتور يانوكوفيتش وضم روسيا للقرم مطلع عام 2014، قادت ألمانيا وفرنسا جهودًا دولية لاحتواء الأزمة السياسية والعسكرية وحلها في النهاية. مع تركيز الحكومة الأمريكية على تحديات أخرى، تولت ألمانيا وفرنسا دور المحاورتين الرئيستين لروسيا بشأن المسائل المتعلقة بأمن أوروبا وبقاء الدولة الأوكرانية.

لم تزاحم ألمانيا الآخرين لتحصل على هذه المكانة، كما لم يخترها أحد لنيل هذا الدور. إنها علاقات سياسية واقتصادية طويلة الأمد مع روسيا وأوكرانيا جعلتها وسيطةً للطرفين، رغم دعم برلين الواضح لضحايا العدوان الروسي. أدى الحوار السياسي المكثف الذي جرى بألمانيا بشأن كيفية الاستجابة للتحدي إلى تعزيز مصداقية برلين، عبر التوضيح للعالم أن الحكومة لم تتخذ قراراتها باستهتار. يعتبر اتفاق مينسك الذي توسطت ألمانيا وفرنسا لتوقيعه في فبراير 2015 لوقف الأعمال العدائية بعيدا عن المثالية، لكن هناك شيء واحد مؤكد: دونه، كان الصراع ليخرج عن السيطرة منذ وقت طويل وليمتد إلى خارج منطقة دونباس الأوكرانية. ومع المضي قدمًا، سوف تستمر ألمانيا في فعل ما بإمكانها لمنع التوترات من التصاعد لدرجة بدء حرب باردة جديدة.

ربما ليس هناك دولة أوروبية أخرى يرتبط مصيرها، لهذه الدرجة الوثيقة، بوجود ونجاح الاتحاد الأوروبي كما يرتبط مصير ألمانيا.

وفي غضون ذلك، أثناء أزمة اليورو، أُجبرت ألمانيا على مواجهة الخطر الذي تشكله مستويات الديون المفرطة لبعض دول البحر المتوسط في الاتحاد الأوروبي. وقد دعمت الأغلبية العظمى من أعضاء منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي خططًا للمطالبة بفرض دولٍ مثل اليونان لضوابط على الميزانية وإصلاحات اجتماعية واقتصادية صعبة ولكن لا يمكن تجنبها لضمان التقارب في النهاية لاقتصادات منطقة اليورو. لكن بدلًا من وضع مسؤولية مثل هذه التغييرات في يد النُخب الوطنية لهذه الدول، فضل الكثيرون في أوروبا لوم ألمانيا لقيادتها أجزاء من جنوب أوروبا نحو الفقر، والخضوع، والانهيار، حسبما زعموا.

تعرضت ألمانيا لانتقادات مماثلة أثناء أزمة اللاجئين المستمرة. في الخريف الماضي،فتحت ألمانيا حدودها للاجئين، الذين يأتي أغلبهم من العراق وسوريا. وقلقت حكومات جمهورية التشيك، والمجر، وسلوفاكيا حيال أن هذه الخطوة سوف تؤدي إلى تفاقم الأزمة عبر تشجيع المزيد من اللاجئين على دخول بلادهم أملًا في العبور إلى ألمانيا في النهاية. ولكن، حتى الآن، أثبتت هذه المخاوف أن لا أساس لها من الصحة.

تظل كيفية وموعد حل أوروبا لهذه الأزمة غير واضحين. ولكن ما هو واضح هو أن دولة قوية نسبيًا كألمانيا لا يمكنها حلها وحدها. لا يمكننا الاستسلام للرغبة المتزايدة لدى فئات معينة من الناخبين للاستجابة على مستوى وطني منفرد، عبر فرض حدود تعسفية على قبول اللاجئين، على سبيل المثال. فألمانيا لا يمكنها ولن تبني سياستها الخارجية على حلولٍ تعد بإصلاحات سريعة لكنها في الواقع تؤدي إلى نتائج عكسية، سواء أكانت تلك الحلول أسوارًا أو حروب.

تتطلب السياسة الخارجية التأملية تشاورًا مستمرًا بشأن الخيارات الصعبة. كما تتطلب مرونة. فكر بشأن الاتفاق الأخير المتعلق باللاجئين الذي ساعدت ألمانيا الاتحاد الأوروبي على توقيعه مع تركيا. وفق هذا الاتفاق، سوف يعيد الاتحاد الأوروبي إلى تركيا أي مهاجرٍ يصل بشكل غير قانوني إلى اليونان، وفي المقابل، سوف يفتح مسارًا قانونيًا للسوريين ليأتوا إلى الاتحاد الأوروبي مباشرة من تركيا. كما يتضمن الاتفاق أحكامًا من أجل تعاونٍ أعمق كثيرًا بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. رغم التطورات المثيرة للجدل داخل تركيا، مثل تصاعد العنف في المناطق الكردية والمضايقات المتزايدة لوسائل الإعلام والمعارضة، أدركت ألمانيا أن لتركيا دورًا حساسًا لتلعبه في الأزمة وأنه لا يمكن إحراز أي تقدم مستدام دونها. لا أحد يستطيع أن يقول اليوم ما إذا كانت العلاقة الجديدة ستكون بنَّاءة على المدى الطويل أم لا. لكن لا يمكن أن يكون هناك تقدم أو إدارة إنسانية للحدود الخارجية مالم يشارك القادة الأوروبيون بشكل جاد مع نظرائهم الأتراك.

وصف بعض السياسيين، مثل وزير الخارجية البولندي السابق، راديك سيكورسكي، ألمانيا بأنها «الدولة التي لا غنى عنها» بأوروبا. لم تطمح ألمانيا إلى هذه المكانة. لكن الظروف أجبرتها على تولي دورٍ محوري. ربما ليس هناك دولة أوروبية أخرى يرتبط مصيرها لهذه الدرجة الوثيقة بوجود ونجاح الاتحاد الأوروبي. ولأول مرة في التاريخ، تعيش ألمانيا في سلامٍ ومودةٍ مع فرنسا، بولندا، وبقية القارة. يرجع ذلك إلى حد كبير إلى التخلي عن السيادة الكاملة ومشاركة الموارد، وهما أمران شجعهما الاتحاد الأوروبي لحوالي 60 عامًا. نتيجة لذلك، يمثل الحفاظ على الاتحاد وتشارك عبء القيادة أهم أولويات ألمانيا. وحتى يطور الاتحاد الأوروبي القدرة على لعب دورٍ أقوى على الساحة العالمية، ستبذل ألمانيا قصارى جهدها لتظل صامدة قدر الإمكان؛ لمصلحة أوروبا كاملة. سوف تكون ألمانيا قائدة مسؤولة، محتاطة ومفكرة، ترشدها بشكل رئيسي غرائزها الأوروبية.