في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن منظمو «بانوراما الفيلم الأوربي» عن عرض فيلم «The Nile Hilton Incident» ضمن فعاليات الدورة العاشرة من البانوراما، انتظرنا أن نشاهد أخيرًا الفيلم المصري الفائز بجائزة لجنة التحكيم من «مهرجان ساندانس السينمائي»، الفيلم الذي تدور أحداثه عن حادثة مقتل مغنية متورط فيها رجل أعمال مصري مقرب من السلطة.

انتظرنا بعد أن تابعنا لشهور أخبار الفيلم الذي تدور أحداثه بالعامية المصرية في القاهرة من خلال مقالات مكتوبة بلغات أخرى تتحدث عن عرض الفيلم في أمريكا، ألمانيا، السويد، وفي النهاية وعقب 6 أيام أعلن منظمو البانوراما عن إلغاء عرض الفيلم لأسباب خارجه عن إرادتهم، وهي أسباب لها علاقة -بالطبع- بأجهزة الأمن المصرية.

بعدها بستة أيام أخرى كان الفيلم متاحًا لمشاهدة كل سكان العالم –من بينهم سكان مصر- من خلال نسخة مسربة على مواقع الإنترنت، وكما نعلم جميعًا، يكفيك تسريب نسخة واحدة من أي عمل محجوب على الإنترنت حتى تنتشر كالنار في الهشيم، وليصبح حجبها عقب ذلك ضربًا من المستحيل.


الظهور السينمائي الأعنف لشرطة مبارك

الفيلم على مستوى المضمون يقدم الظهور الأعنف والأبشع لشرطة ما قبل 25 يناير/كانون الثاني. تدور الحكاية عن جريمة قتل تقع قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011 بأسبوعين، القتيلة مغنية عربية شابة، والمكان هو فندق هيلتون المطل على ميدان التحرير، تدور الأحداث ليذهب التحقيق لضابط شرطي مصرى يُسمى «نور الدين» والذي قام بدروه الممثل السويدي من أصل لبناني «فارس فارس»، يلتقط نور الدين طرف الخيط ليجد أن رجل أعمال مصري مقرب بشدة من رئيس الجمهورية المخلوع «حسني مبارك» ونجله هو المتورط في تلك الجريمة، نتيجة خلاف مع هذه المغنية على خلفية علاقتهما الغرامية.

نعلم من البداية أن الجريمة المقصودة في الفيلم مستوحاة من جريمة قتل المغنية اللبنانية «سوزان تميم» والتي وقعت في عام 2008 في أحد الشقق ببرج رمال دبي، قُتلت سوزان كما حكم القضاء المصري بيد ضابط شرطة مصري سابق بجهاز مباحث أمن الدولة هو «محسن السكري»، وبتحريض مباشر من عشيق سوزان، رجل الأعمال المصري والعضو البارز في الحزب الوطني الحاكم في ذلك الوقت «هشام طلعت مصطفى»، قرر المخرج طارق صالح «سويدي من أصل مصري» أن يستلهم هذه الحادثة ليغير زمانها إلى يناير/كانون الثاني 2011، ومكانها إلى الفندق المطل على ميدان التحرير، ليجعل من هذه الجريمة رمزية لكل الفساد والقهر والدماء التي طفت فوقها مصر قبل ثورة يناير/كانون الثاني.

لا يظهر في الفيلم رجل شرطة واحد شريف، لا يظهر في الفيلم أي رجل صاحب سلطة شريف، يظهر رجال شرطة مبارك طوال الفيلم –ومن بينهم نور الدين- كمجموعة من البلطجية في زي رسمي، يجمعون الإتاوات، يقتلون الأبرياء دون لحظة تردد، ولا يخجلون من تعذيب أي شخص يحاول أن يفكر، حتى لو كان زميلاً لهم، وهذه الصفة الأخيرة تخرجهم حتى من تصنيف البلطجية لما دون ذلك. الخسة، انعدام الضمير، الكذب والخيانة تبدو صفات أقل كثيرًا مما نراه.

الجو قاتم وحزين وكابوسي، هذه بلد بلا ذرة شرف، والانفجار هو مصيرها العادل، هذا ما يقدمه لنا الفيلم طوال أحداثه.


«النوار» بنكهة مصرية

من فيلم The Nile Hilton Incident

أما على مستوى الشكل السينمائي فالفيلم مُنتمٍ لتصنيف أفلام النوار «Film Noir» وهو أحد التصنيفات السينمائية التي أطلقت في الأساس على مجموعة من أفلام الجريمة الميلودرامية الأمريكية في الخمسينات والستينات، قبل أن تؤثر في مجموعة أخرى من الأفلام في السبعينات والثمانينات أطلق عليها النوار الجديد «Neo Noir»، لن نغرق في سرد التفاصيل ولكننا سنركز على خصائص النوار التي تجعلنا نصنف هذا الفيلم واحدًا من بينها.

نوار «Noir» تعني حرفيا أسود أو قاتم في اللغة الفرنسية، ومن هنا جاءت التسمية، فأفلام النوار الكلاسيكية والجديدة تتميز أولاً على مستوى الصورة: بأسلوب بصري قاتم تدور أحداثه في جو يتميز بإضاءة خافتة واستخدام مميز للظلال بالإضافة لكادرات مميزة من زاويا منخفضة «Low angel»، وزوايا مائلة «Dutch angel».

وثانيًا على مستوى طريقة السرد: بسرد متداخل وحبكة ملتوية تدور أحيانًا في جو مشوش شبيه بالأحلام أو الكوابيس، وثالثًا على مستوى القصة والشخصيات: بقصة مثيرة تدور غالبًا عن جريمة قتل يتم التحقيق فيها أو التورط في أحداثها من قبل بطل رئيسي يقابل امرأة فاتنة أو كما يسميها الفرنسيون Femme Fatale، امرأة قاتلة بالترجمة الحرفية، تمثل وسيلة للغواية الجنسية وسط كل هذه الظلال.

تدور أحداث أفلام النوار عادةً في مدينة أو حي فتعطى له روحًا قاتمة وكابوسية، كما نرى نيويورك في «Taxi driver»، ولوس أنجلوس في «Chinatown».

في «Nile Hilton Incident» يصنع طارق صالح كل هذا تقريبًا، وكأنه ممسك بكتاب «كيف تصنع فيلم نوار». المكان كابوسي ولا تحتاج روحه القاتمة إلا دفعة صغيرة للظهور، القاهرة ومن غيرها؟، الحكاية عن جريمة قتل والبطل الرئيسي ضابط ومحقق مشوش، نور الدين الذي لم يتوقف عن التدخين وشرب البيرة طوال الفيلم، السرد مشوش ومضطرب، الإضاءة خافتة، تظهر «المرأة القاتلة» بشكل واضح تمامًا.

«جينا» التي أدت دورها «هانيا عمار»، المغنية العربية وصديقة القتيلة التي تورط نور الدين في غوايتها من النظرة الأولى، علاقة جنسية عابرة نراها من زوايا تصوير منخفضة ومائلة ومعكوسة على الزجاج، جو تشائمي ووضع متشابك لا أمل فيه، يصرخ نور الدين في «سلوى» (أدت دورها مارى مالك) في أحد المشاهد، «امشي، دي بلد مفيهاش أمل».


فيلم أجنبي ناطق بالمصرية

من فيلم The Nile Hilton Incident

رغم كل هذه الجرأة على مستوى المضمون والشكل، فيبدو من الأكثر حكمة أن يتم تصنيف الفيلم على أنه فيلم أجنبي جيد يحاول الاقتراب من الأجواء الكابوسية لما شهدته مصر قبل ثورة يناير/كانون الثاني.

لم يحظ الفيلم بفرصة للتصوير داخل مصر، تم التصوير في المغرب بعد أن تم طرد فريق العمل قبل بدء التصوير بثلاثة أيام كما صرح مخرج الفيلم. لم يحظ الفيلم أيضًا بمشاركة حقيقية من صناع سينما مصريين، فعلى مستوى الكتابة والإخراج يبدو واضحًا للغاية أن طارق صالح ورغم اجتهاده غير قادر على ضبط كل التفاصيل المصرية، فنرى سقطات متتالية لن يلاحظها سوى المشاهد المصري.

فعندما تستمع لأغنية تم إنتاجها عقب يناير/كانون الثاني بسنين في أحد مشاهد الفيلم، وعندما تجد أن هناك من يقدم رشوة عبارة عن مجموعة أوراق فئة الخمسة جنيهات، أو حتى عندما تستمع لأغنية بصوت نجاة وكأنها أغنية للمغنية المقتولة، عندما يحدث كل هذا فمن الطبيعي أن تقل قدرتك على الاستمرار في حالة الإيهام بالواقع التي تقدمها التجربة السينمائية عادةً.

على جانب آخر فبطل الفيلم فارس فارس، قام بأداء جيد للغاية رغم كونه غير مصري، ولن يلاحظ المشاهد لكنته إلا في لحظات معدودة، ساعده في ذلك وجود مجموعة من الممثلين المصريين بجانبه في معظم مشاهد الفيلم وهم ياسر علي ماهر، محمد إبراهيم يسري، أحمد سليم بالإضافة لعدد كبير من الممثلين الثانويين المصريين.

الفيلم أيضًا ورغم اقترابه من لغة الشارع المصرية بكل ما فيها من سب وبذاءة حقيقية، افتقد في لحظاته الأخيرة لأجواء يناير/كانون الثاني وهتافاتها، التي كان من الصعب إعادة إنتاجها بمجاميع غير مصرية، وفي مواقع تصوير غير مصرية.

من المؤكد أن تجربة مشاهدة Nile Hilton Incident بكل ما فيها كانت تستحق العناء، ربما يكون فيلم النوار الأول بنكهة مصرية، ربما يكون ليس حقيقيًا بالقدر الكافي لإيهام من عاش لحظات يناير/كانون الثاني، ولكنه بالتأكيد فيلم عنيف للغاية في وجه شرطة مبارك، التي أظن أنها ستستمر في منع الفيلم من العرض في صالات السينما، حتى تسقط، يومًا ما.