المعارضة والثورة والاحتجاج والتظاهر وحقوق الإنسان؛ كلها كلمات ذات وقع سيئ على أسماع السلطات الحاكمة للنظم العربية، لا يحبون ترديدها أو سماعها أو حتى قراءتها، وعندما يزداد انتشارها فإن السلطات تتخذ إجراءاتها الوقائية ضد مردديها وداعميها بحجج واهية تتعلق بأمن الدولة.

ومن بين التجارب العربية في مواجهة الأصوات النافرة الشاذة عن تأييد السلطة تبرز التجربة السعودية بميزة خاصة بها، ففي أراضي آل سعود لا تحميك حصانتك الملكية أو صلتك بالعائلة المالكة من مقصلة الاستبعاد والإسكات، فالعائلة المالكة لكي تبقى «مالكة»، فإنها قد تضحي بأفرادها إذا انشقوا أو حاولوا.


الأمراء أيضًا يُخطفون

في أغسطس الماضي بثت BBC فيلمًا بعنوان «أمراء آل سعود المخطوفون»، يتناول تحقيقًا استقصائيًا حول اختفاء 3 أمراء سعوديين انتقدوا العائلة المالكة، ويعرض أدلة تشير إلى اختطافهم وترحيلهم قسرًا إلى السعودية.

ويتضمن الفيلم لقاء مهمًا مع أمير رابع، هو «خالد بن فرحان آل سعود»، اللاجئ السياسي في ألمانيا، الذي عرض تعليقاته على اختفاء الأمراء، مُبديًا تخوفه من أن يكون رابع المختطفين، فيما رفضت السلطات السعودية التعليق على محتويات الفيلم.

أول الأمراء هو سلطان بن تركي بن عبد العزيز، الذي انتقل إلى جنيف عام 2002 بحجة العلاج، ثم بدأ في انتقاد النظام السعودي بالإعلام، وفي 2003 دعاه ابن عمه الأمير عبد العزيز بن فهد لتناول الإفطار، ليطلب منه العودة إلى السعودية لكنه رفض، بعدها داهم ملثمون الغرفة واختطفوا الأمير سلطان ليستيقظ بعد أيام بإحدى مستشفيات الرياض.

على مدار 2016 أُدين أكثر من 12 ناشطًا بارزًا بتهم تتعلق بأنشطتهم السلمية، وانتقاداتهم للانتهاكات الحقوقية في مقابلات إعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.

وفي 2004 أعلن الأمير في اتصال مع قناة الجزيرة أنه تحت الإقامة الجبرية، ثم سمحت له السلطات السعودية بالسفر للعلاج عام 2010 إثر تدهور صحته، وبعدها رفع دعوى قضائية في المحاكم السويسرية حول واقعة اختطافه.

وفي يناير/كانون الثاني 2016 كان ينوي زيارة والده في القاهرة، فعرضت عليه القنصلية السعودية طائرة خاصة تنقله فوافق، وحطت الطائرة في الرياض حيث كان بانتظاره جنود مسلحون اقتادوه، وتم احتجاز الطاقم المرافق له (8 أجانب)، وصودرت هواتفهم وجوازات سفرهم، ثم أُطلق سراحهم بعد 3 أيام.

الأمير الثاني هو «تركي بن بندر آل سعود»، والذي دخل السجن بسبب خلاف على الإرث، ثم خرج منه إلى باريس. وفي 2012 بدأ يدعو إلى الإصلاح في السعودية مُدعيًا امتلاكه وثائق عن الفساد، فحاولت العائلة المالكة استمالته ودعوته للعودة، إلا أنه سجّل المكالمة التي تلقاها من مسئول في وزارة الداخلية، وقام بنشرها على الإنترنت مما زاد في إحراج النظام، وفي منتصف 2015 اختفى الأمير تركي.

وبحسب الأمير خالد (الشاهد في الفيلم) فإن الأمير تركي ذهب إلى المغرب ليبدأ مشروعًا اقتصاديًا، لكن السلطات المغربية احتجزته في المطار وسلمته للسعودية، مما يشير إلى اتفاق مسبق.

آخر الأمراء المختفين هو «سعود بن سيف النصر»، الذي بدأ انتقاد العائلة المالكة على تويتر في 2014 داعيًا إلى محاكمة المسئولين السعوديين المؤيدين لعزل الرئيس المصري محمد مرسي. وفي نهاية 2015، نشر أمير سعودي على الإنترنت نداءين يدعو فيهما إلى الإطاحة بالملك سلمان، واصفًا نفسه بأنه «من أحفاد الملك المؤسس عبد العزيز»، فأيّد الأمير سعود نداءيه، ودعا إلى تحويلهما إلى ضغط شعبي لتنفيذ ما جاء بهما، ثم اختفى بعدها.

وقد رجّح الأمير خالد وقوع الأمير سعود في «فخ» نصبته له شركة روسية إيطالية عبر المخابرات السعودية، ليتم بعدها اختفاؤه.


القمع والقيود في السعودية

تفرض القوانين السعودية قيودًا تصل إلى حد الحظر فيما يخص تنظيم المظاهرات وإنشاء الأحزاب السياسية، كما لا يُسمح بانتقاد الأسرة المالكة عبر وسائل الإعلام.

وبحسب تقرير هيومان رايتس ووتش لعام 2017، فإن السعودية استمرت في الاعتقالات التعسفية والمحاكمات والإدانات للمعارضين السلميين، حيث قضى عشرات المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء فترات مطولة بالسجن لانتقادهم السلطات، والمطالبة بإصلاحات سياسية وحقوقية.

وفي ديسمبر/كانون الأول 2015 وافقت الحكومة السعودية على قانون يسمح بتأسيس جمعيات مجتمع مدني للمرة الأولى، لكن لائحته التنفيذية تسمح للسلطات بحل المنظمات أو رفض تسجيلها إذا كانت «تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، أو تخالف النظام العام، أو تتنافى مع الآداب العامة، أو تخل بالوحدة الوطنية، أو تتعارض مع أحكام النظام أو اللائحة»، وكلها أسباب فضفاضة ومبهمة بحسب المنظمة.

وفي مايو/آيار 2016 أدانت محكمة الإرهاب نشطاء «جمعية الحقوق المدنية والسياسية»، إحدى أولى المنظمات المدنية في السعودية، وبحلول منتصف 2016 حُكم بالسجن على مؤسسيها بين 8 و9 سنوات، وذلك بعد حظر أنشطتها بسبب اتهامات بذمّ السلطات، وإهانة القضاء، وتحريض الرأي العام، والمشاركة في تأسيس جمعية غير مرخصة، وانتهاك قانون جرائم المعلوماتية.

وعلى مدار 2016 أُدين أكثر من 12 ناشطًا بارزًا بتهم تتعلق بأنشطتهم السلمية، وانتقاداتهم للانتهاكات الحقوقية في مقابلات إعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.

والعديد من حالات الاعتقال التي تتم للنشطاء لا يتم الكشف عن أسبابها، كما أن البعض لا يُسمح له بتعيين محامٍ، والبعض يخضع لمحاكمات جائرة، أو يتعرض للتعذيب لانتزاع اعترافات منه أثناء التحقيق، وذلك بحسب هيومان رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، التي ترى أن الاضطهاد الشديد في السعودية للمدافعين عن حقوق الإنسان بمثابة حملة صارخة، تهدف إلى ردعهم عن الحديث عن أوضاع حقوق الإنسان في البلاد ومساعدة ضحايا الانتهاكات.


قمع النشطاء: نمط سعودي متواصل

ترى هيومن رايتس ووتش أن الاعتقالات تتوافق مع نمط القمع المتواصل بالسعودية ضد الحقوقيين والمعارضين السلميين، الذين صدرت بحق 25 منهم على الأقل أحكام قضائية منذ عام 2011، وقد حاكمت السلطات منذ 2014 كل المعارضين تقريبًا في «المحكمة الجزائية المتخصصة»، وهي محكمة قضايا الإرهاب في السعودية، وصدر بحق الكثيرين منهم أحكام بالسجن تتراوح بين 10 و15 عامًا، بعدما أدانتهم المحكمة بتهم عدة، من بينها انتهاك قوانين الولاء للحاكم، ونثر بذور الشقاق، وإثارة الرأي العام.

وتؤكد المنظمة أن الأحكام الغريبة ضد النشطاء والمعارضين السلميين تُظهر تعصب السعودية الكامل تجاه المواطنين الذين يتحدثون عن حقوق الإنسان والإصلاح، كما ترى المنظمة أن السعودية تسعى إلى إسكات وسجن من لا يلتزمون بالخط الرسمي، أو يجرؤون على إبداء رأي مستقل في السياسة أو الدين أو حقوق الإنسان.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016 حظرت السلطات السعودية كتابات «جمال خاشقجي»، أحد أبرز الصحفيين السعوديين، فقد ذكرت وكالة الأنباء السعودية أن خاشقجي لا يمثل حكومة السعودية، وذلك إثر انتقاده للرئيس الأمريكي ترامب، بعدها أعلن خاشقجي أن جريدة «الحياة» منعت نشر عمود الرأي الخاص به.

وفي مقاله المنشور في «واشنطن بوست»، بعنوان «السعودية لم تكن قمعية الى هذا الحد»، أشار خاشقجي إلى الخوف والترهيب والاعتقالات والتخويف العلني للمثقفين ورجال الدين الذين يجرؤون على المجاهرة بآرائهم، والذين تم اتهامهم بأنهم جزء من مؤامرة كبيرة مدعومة من قطر، كما أعلن عن تخوفه من أن السعوديين الموجودين بالمنفى الاختياري أمثاله معرضون للاعتقال لدى عودتهم إلى البلاد.

وأفاد خاشقجي أن الاعتقالات في السعودية تدور في إطار تهدئة وجهات النظر المتعارضة للإصلاحيين الليبراليين ورجال الدين المحافظين، كما حذّر من السياسات السعودية الجديدة المعادية للإسلاميين، مُنددًا بتشجيع الدولة المواطنين على اقتراح أسماء تضاف إلى القائمة السوداء للحكومة.


محمد بن سلمان وعصر جديد من الاعتقال

في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 حظرت السلطات السعودية كتابات «جمال خاشقجي»، أحد أبرز الصحفيين السعوديين، وذلك إثر انتقاده للرئيس الأمريكي ترامب.

بعد 3 أشهر من تولي محمد بن سلمان منصب ولي العهد، قامت السلطات السعودية بحملة اعتقالات في سبتمبر/أيلول 2017، شملت علماء دين بارزين ومفكرين، منهم سلمان العودة، وعوض القرني، وعلي العمري، والكاتب الاقتصادي عصام الزامل، فبدت الحملة وكأنها تطويع للبلاد؛ لتمكين محمد بن سلمان من بسط نفوذه، في خطوة تحسبية لتهيئة الأوضاع داخليًا، خاصة وأن بعض المعتقلين لم يعرف عنهم معارضة النظام، كما أن التوافق بين النظام السعودي ورجال الدين يبرز بقوة في مواقف عديدة.

وقد أشارت «رويترز» إلى أن رجال الدين الموقوفين لم يدعموا السياسات السعودية بما يكفي، وبخاصة في الأزمة القطرية، وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن الاعتقالات قد تكون متصلة بالتحضير لتنازل الملك سلمان عن العرش لصالح ابنه محمد بن سلمان.

أعلنت رئاسة أمن الدولة السعودية في أكتوبر/تشرين الأول 2017 القبض على 22 شخصًا بينهم قطري الجنسية بتهمة تأليب الرأي العام وإثارة الفتنة والنعرات القبلية.

فيما ذكرت هيومان رايتس ووتش أن العودة والقرني كانا عضوين بارزين في حركة «الصحوة» مطلع التسعينات، والتي انتقدت قرار السعودية بالسماح للجيش الأمريكي بدخول البلاد لحمايته من الغزو العراقي المحتمل، كما أن العودة قد سُجن من 1994 إلى 1999. وفي 2011 دعا العودة إلى مزيد من الديمقراطية والتسامح الاجتماعي، فيما أعلن القرني منعه من الكتابة لإدانته بإلحاق الضرر بالنظام العام.

وبالتوازي مع هذه الحملة تم تداول أنباء حول قيام «رئاسة أمن الدولة» (الجهة الجديدة لمكافحة الإرهاب بالسعودية) برصد أنشطة استخباراتية لمجموعة أشخاص لصالح جهات خارجية ضد أمن المملكة؛ بهدف إثارة الفتنة والمساس باللحمة الوطنية، وأشارت الأنباء إلى أن المجموعة تضم سعوديين وأجانب متهمين بالقيام بأنشطة استخبارات والتواصل مع كيانات خارجية من بينها جماعة الإخوان المسلمين، والتي تعتبرها السعودية منظمة إرهابية.

فيما قامت الجهات الأمنية بمناشدة المواطنين على موقعي تويتر وفيسبوك للإبلاغ عن الحسابات التي تنشر أفكارًا إرهابية أو متطرفة، وذلك لمواجهة دعوات من سعوديين في الخارج بتنظيم حراك سعودي يوم الجمعة 15 سبتمبر/أيلول؛ لحشد معارضة ضد سياسات الأسرة الحاكمة.

بعد هذه الموجة الاعتقالية أعلنت رئاسة أمن الدولة السعودية في أكتوبر/تشرين الأول 2017 القبض على 22 شخصًا بينهم قطري الجنسية بتهمة تأليب الرأي العام، فيما أعلنت الداخلية عن اعتقال 24 شخصًا متهمين بإثارة الفتنة والنعرات القبلية، وذلك بعد أن رصدت الجهات الأمنية تداول مقاطع مرئيّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تثير الرأي العام، وتؤجج المشاعر تجاه قضايا داخلية، وتحرض بشكل مباشر وغير مباشر على ارتكاب أفعال مجرمة شرعًا ونظامًا.

كما اعتقلت الجهات الأمنية شخصًا قام بإنشاء (هاشتاج) على مواقع التواصل لإثارة الفتنة والنعرات القبلية ودفع البسطاء لارتكاب ما لا تحمد عقباه، والتأثير على سير الإجراءات النظامية والعدلية.

في ظل هذاه الحوادث العديدة لمواجهة الاعتراض في الأراضي السعودية لم يعد السؤال الأصوب هو: لماذا يسعى محمد بن سلمان إلى السيطرة على البلاد؟ بل يمكن أن يكون السؤال هو: لماذا تعجّب البعض من سيطرة بن سلمان في ظل أن الأمر متوارث في العائلة المالكة؟ فكما يتوارثون الملك يتوارثون السلطة والسطوة والسيطرة، وما محمد بن سلمان إلا قناع جديد للسيطرة السعودية يجمع بين القوتين العسكرية والاقتصادية، فلم العجب والثورة لم تمر يومًا من الأراضي السعودية؟