يبدأ «مارك جيمينيز» في كتابه المعنون «ما الجمالية» باستعراض مفارقة شيخوخة لفظ الجمالية في حين أن مولد اللفظ كان حديثًا مقارنة بألفاظ أخرى، فهو يرجع لمنتصف القرن الـ18. ويسند هذه المفارقة إلى اختلاف دلالة لفظ الجمالية ذاته، وغرض الجمالية -أي الفن- وما يثيره من تناقضات.من التناقضات التي ذكرها جيمينيز؛ أنه على الرغم من مركزية الصورة في عصرنا الحالي تتدنى مكانة تعلم الفنون التشكيلية التي لا ترقى منافسة المكانة التي تحتلها علوم أخرى كالعلوم الرياضية على سبيل المثال. كما أن الجمالية متكتمة –منذ نشأتها- حيال الفن الذي هو في طور التشكل، وتحفظت على الأعمال الجديدة، فتعترف بما هو معترف به، فمثلًا نجد أن كانط وهيجل في دراساتهما عن الجمال قد امتنعا عن ذكر كبار فناني عصرهما.

يقدم جيمينيز من خلال هذه المقدمة عرضًا وافيًا لمجمل إشكاليات الكتاب، منها مفهوم الجمالية، والتفكير النظري في الفن في مقابل تذوقه الحسي، والعلاقة بين الفلسفة والفن، والدور المؤسسي، وأزمة الفن الحديث.


إشكالية «إلباس الفن ثوب الفلسفة»

فمفهوم الجمالية الكلاسيكي كما وضعه «باومجارتن» تعني علم الأحكام التقويمية التي تميز الجمال والقبيح، أما جيمينيز فيعرف الجمالية باعتبارها التفكير النظري في الفن، فيمتزج خيط فلسفة الفن بالتعريف. ولهذا نجدنا مصاحَبين بتاريخ تطور الفكر الفلسفي الغربي في امتداد نصه بمركزية غربية لا يتجاوزها.التفكير النظري الفلسفي في الفن يثير تساؤلات ما، مثلا هل يمكن الحديث عن فيلسوف الفن؟ لو اعتبرنا الفن تجربة حسية وممارسة محسوسة لا يستطيع الفيلسوف الإمساك المجرد بها، أو يقوم بتقديم تأويلاته وتأملاته الخاصة للأعمال الفنية باعتبارها فلسفة، فدائما ما تحتم تأويلات العمل الفن سوء الفهم للفيلسوف والفنان. فيبدو لنا أن الحديث عن «فلسفة الفن» أمر غير ممكن. شليغل يعبر عن هذا بقوله إن الجمالية بسبب أصولها الفلسفية بوصفها «فلسفة الفن»، قابلة لأن تستبد بالفن. ويعيد على الطاولة سؤالا حول هل معايشة الفن تجربة حسية أم نظام معارف يتأتى من ملكة منطقية كما يرى بومغارتن.كما أن اللغة التي تعبر بها عن الفن نفسه، لا يمكن التمكن التام منها، إذ تستعصي عليك اللغة، فقد يجعلك – كمتذوق للعمل الفني- غنيًا بالإحساس إلى حد الرعشة، فقيرا في التعبير إلى حد الإملاق، كما يقول «صلاح عبدالصبور». اللغة قد لا تحيط بكل جوانب التفاعل مع التجربة والإدراك الكامل لما هو جميل. فماذا عن صياغة هذه اللغة في نص فلسفي تنظيري عن العمل الفني؟ أليس من المنطقي أن تكون معضلة أكثر صعوبة.وهذا يوضح جوهر التناقض داخل مفهوم الجمالية نفسه؛ فرغم استخدام لفظة الجمالية من قبل عدد من الفلاسفة فإن دلالاته اختلفت من أفلاطون إلى كانط وهيجل ثم شيلر والتربية الجمالية ثم فرويد إلى انعطافات القرن العشرين مع لوكاش وهايدجر ووالتر بنيامين وأدورنو وهابرماس وغيرهم. يباعد «بومغارتن» بين الخطاب الفلسفي والفن، بينما شيلغر يرى أن الجمالية لا تفصل بينهما بل هي فلسفة الفن. فالجمالية -عند شيلغر- ممارسة قائمة بذاتها تعمل التفكير في الفن لتوليد عالم مفاهيمي معرفي. وهذا يمثل صلب إشكالية التفكير الجمالي. فهل الجمالية تدوين نظري ليحصل على تأييد لما يُعَرّف ما هو جميل أو يثير الاعتراض، وما جدوى التأييد من عدمه؟تدخل المؤسسات في الفن والحديث عن الدور الاجتماعي للفن، وكونه أصبح متاحًا للجميع وتعدد المراكز الثقافية وتدخل السياسة في عمل هذه المؤسسات، ودعم الدولة للفن وكثرة المهرجانات، والترويج الثقافي المسيس للفن، وغيرها من مظاهر تغلغل الفن في مسار الحياة اليومية، وتأثيره على تبدل العلاقة بين الفن والجمهور، وتبلور ظاهرة الحديث عن الفن باعتباره مناط تسلية أو ترفيه.


أزمة الفن الحديث

الحديث عن «فلسفة الفن» أمر غير ممكن. شليغل يعبر عن هذا بقوله إن الجمالية بسبب أصولها الفلسفية بوصفها «فلسفة الفن»، قابلة لأن تستبد بالفن

التساؤلات السابقة مهدت لما يُسمى «أزمة الفن الحديث»، فالفن الحديث ينهل قوته من ديناميته الخاصة في تأكيد شرعيته، وتساقطت تلك الشرعية بفعل الثورات الشكلية التي أسقطت معها القواعد والمعايير التي كان يتقيد الفن القديم بها، وبالفعل تظهر قواعد ومعايير جديدة، ولكنها غير ثابتة، فما تلبث أن تزول سريعًا. فالفن المعاصر يعاني أزمة شرعية والفنان الحالي مُتهم باستساغة السهولة، وبتفضيل الصيت الإعلامي عن الإبداع الفني الحقيقي. وهذا أحد تجليات النزعة الحداثية التي قطعت الصلة بكل ما هو كلاسيكي وفككت القناعات، وبدأ الحديث عن موت الفن باعتباره مسارا حتميا.

لم يعد الحديث عن الجمال المطلق المثالي المتعالي كما عند أفلاطون بل تشغل الجمالية المعاصرة أن الفن يحمل خصوصية ثقافية وحضارية تعكس رؤية كل مجتمع

ذكر جيمينيز أمثلة يوضح بها غياب المعايير في الحكم على ما هو جمالي منها؛ تمثال العصفور في الفضاء البرانكوزي الذي اُستغل ماديًا من خلال فرض ضرائب عليه وصلت لـ 40%، وعاملة النظافة في أحد المتاحف التي ألقت أعمالا فنية لجوزيف بويز في القمامة، لتجسد إشكالية تداعي التعبير عن المعايير الجمالية الناجمة عن أزمة الحداثة الفنية.ولكن أزمة تشريع الفن تحض بدورها على التفكير في الفن، وغياب المعايير يحث على البحث عن معايير، ما يطرح تساؤلا: هل يجب العودة إلى الماضي، وترميم القيم القديمة أم قبول نزعة ما بعد الحداثة التي تدعو لعدم التمييز بين الأشكال والمواد والأساليب؟ وما دور الوسائط الإعلامية والتقنية التي ساعدت في إعادة إنتاج الفن والأسطوانات وإعادة استدعاء الزمن في لحظات ماضية في تعريف الفن وفي تفاعل الجمهور ونظرته للفن؟ فهل الفن حينما صار معروضًا على الشاشات وبواسطة التقنيات ظل هو ذاته الفن السابق، هل تغير أي شيء في ماهيته؟ اعتبار الفن المعاصر باعتباره مفارقا للواقع، ووسيلة إلهاء للقطيعة مع الحياة اليومية. يمكننا القول إن ثمة سؤالا مركزيا دارت حوله مقدمة كتاب جيمينيز ما الجمالية، وهو هل يتطور الفن؟ هل هناك مسار خطي عبر الأزمنة التاريخية يمر بها الفن أم هو انقطاعات ومراحل متفرقة لا تصل بعضها بعضا؟يرى الكاتب أنه لم يعد الحديث عن الجمال المطلق المثالي المتعالي كما عند أفلاطون بل تشغل الجمالية المعاصرة قيمة أخرى تمثل في أن الفن الجميل كما البشع يحمل خصوصية ثقافية وحضارية تعكس رؤية كل مجتمع للعالم في لحظة تاريخية بعينها. فلا يعقل تواجد إجماع أحكام ذوقي شامل، وذلك يفسر التخلي عن تطور زمني في نظريات الجمالية. فتأريخ للجمالية – حسب جمينيز – سيكون لا تاريخ النظريات والعقائد عن الفن، وإنما تاريخ الحساسية والتخيل والخطابات التي سعت لإعلاء قيمة المعرفة الحساسية. فالفن لا يعرف التطور؛ فهو تجربة حسية ذاتية، ومعطى ثابت وقيمي خالص متجاوز التاريخ. فلا ينبغي أن نقحمه في خط أحادي ونجعله يتموضع في مراحل زمنية في عرض خطي لنظريات والعقائد الجمالية.