سوشيانت.. المسيح.. المنتظر.. الموعود.. المهدي

كل تلك المسميات المختلفة، هي في حقيقة الأمر بمثابة تجسيد لفكرة واحدة، وهي تلك التي تؤمن بأن هناك شخصًا ما سوف يأتي في آخر الزمان ليصحح الأوضاع وينصر أهل الحق على أعدائهم من أهل الباطل.

ونستطيع أن نجد تواترًا عجيبًا لتلك الفكرة على امتداد التاريخ الإنساني في العديد من الأديان الأرضية والسماوية على السواء.

فالكثير من الأديان الشرقية الأسيوية القديمة تبنت فكرة المهدوية وانتظار الشخص الموعود في أدبياتها الأصيلة وكتبها المقدسة، فعلى سبيل المثال تواترت تلك الفكرة في الأديان البوذية والهندوسية والمزدكية، ولعل التجلي الأكبر لتلك الفكرة قد حدث في الديانة الزرادشتية التي انتشرت في بلاد فارس منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام، حيث نجد الزرادشتية تبشر أتباعها بمقدم المخلص المعروف بـ «سوشيانت» الذي سيخلص البشرية من الكبت والحرمان ومن ضغوط الحكام الذين يسعون في الأرض فسادًا [1]، وقد تمت الإشارة إلى ذلك الموعود في عدد من كتب الديانة الزرادشتية المقدسة، ومنها (كتاب أوستا – كتاب زند – كتاب رسالة جاماست).

أما في الديانة اليهودية، فإن الدارس للعهد القديم سوف يلاحظ أنه لا توجد إشارة واحدة واضحة أو صريحة تشير إلى انتظار مخلص منتظر عند اليهود في أسفار التوراة الخمسة [2]، وان كان هناك عدد من التأويلات المسيحية التي ترى أن عددًا من النصوص في العهد القديم ترمز إلى المخلص، ومن ذلك ما ورد في سفر التكوين حول «شيلون» الذي سيأتي وتخضع له شعوب، حيث تم تفسير كلمة شيلون بمعنى حاكم السلام [3].

وكذلك فقد وردت بعض الإشارات في سفر إشعياء [4] تلمح إلى أنه سوف يأتي زمن يقضي الله فيه على كل الجور والظلم الموجودين في العالم [5].

ومع مرور الوقت وازدياد الاضطهاد الواقع على شعب بني إسرائيل من القوى العظمى التي احتلت فلسطين وأخضعتهم مجبرين لسلطانها، ظهرت فكرة ترى أن أحد أبناء داود الملك سوف يظهر ويحرر العبرانيين من الظلم والجور الواقعين تحته، وأنه سوف يقيم ملكًا عظيمًا، وتم تخليد تلك الفكرة في كل من التلمود والمدراش [6].

ويرى العديد من الباحثين أن فكرة انتظار ملك مخلص من نسل داود هي فكرة فارسية الأصل، وأن اليهود قد اقتبسوها من الديانة الزرادشتية [7].

وبما أن اليهودية لم تهتم بالحياة الأخروية أو مسألة البعث والنشور بعد الموت، فإننا نجد أن المسيح المنتظر في العقيدة اليهودية كان يتم تخيله باعتباره ملكًا قويًا بيده سلطان يستطيع به أن يحقق السعادة والخير لبني قومه على الأرض في حياتهم، ولذلك السبب لم يتقبل اليهود أي شخص يدعي أنه المسيح دون أن تكون معه قوة كافية لتحقيق الملك والسيادة.

ولعل حالة (المسيح عيسى بن مريم) من أكثر الحالات التي تدل على ذلك، فقد رفض اليهود تصديق كونه المسيح المنتظر فناصبوه العداء واتهموه بالكذب، ذلك لأنهم كانوا ينتظرون ملكًاً قويًا يقيم دولتهم ويعيد بناء هيكلهم، فإذا بهم يجدون رجلا مسالما ينزع الى الإصلاح والتطهر دون أن يتخذ مسالك القوة والعنف.

وعبر التاريخ اليهودي الطويل، نجد أن الكثير من اليهود قد ادَّعوا أنهم هم أنفسهم المسيا أو المسيح المنتظر، ومنهم: ثيوداس – يهوذا الجليلي – بركوكبا – شبتاي صبي – يعقوب فرانك [8].

أما بالنسبة للدين المسيحي، فهناك اعتقاد بأن السيد المسيح سوف يعود مرة أخرى إلى الأرض حتى يقوم بمحاسبة البشر على ما ارتكبوا من أفعال؛ فكما ورد في إنجيل متى:

إن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته. وحينئذ يجازَى كل واحد بحسب عمله.[9]

وتعرف تلك العقيدة بـــ «باروسيا»، أي المجيء الثاني أو الظهور الثاني للمسيح. وكما هو واضح، فإنها تختلف كثيرًا عن فكرة قدوم المسيح في اليهودية، فبينما ترى اليهودية في مقدم مسيحها سبيلا لتحقيق السيادة والملك في الدنيا، فإن المسيحية تعتقد أن مقدم المسيح ما هو إلا مقدمة لنهاية العالم.

فإذا ما تركنا الأديان المشرقية بكل ما تحمله من طقوس مبطنة ورموز غامضة، وولينا وجهنا ناحية الغرب الأوروبي، فإننا لا نستطيع أن نزعم أن فكرة المهدية قد ظهرت فيه بشكل كامل أو واضح، ولعل ذلك بسبب ميل الشرق إلى الروحانيات والبواطن في الوقت الذي اتجه فيه الغرب للعكوف على دراسة الماديات والظواهر، ولذلك نجد أنه بينما كانت الفلسفة والمناهج العلمية التجريبية منتجات غربية صرفة، كانت الحكمة والتصوف والعرفان، في الوقت ذاته، ثمار أصيلة للحضارات المشرقية.

ويشرح الدكتور أحمد أمين سبب عدم ظهور فكرة المهدية عند الغرب، بقوله:

إن فكرة المهدية قد سادت الشرق أكثر مما سادت الغرب؛ لأن الشرقيين أكثر أملا وأكثر نظرًا للماضي والمستقبل، والغربيين أكثر عملا وأكثر نظرًا إلى الواقع، فهم واقعيون أكثر من الشرقيين؛ ولأن الشرقيين أميل إلى الدين، وأكثر اعتقادًا بأن العدل لا يأتي إلا مع التدين.[10]

ولكن على الرغم من ذلك، فإن بإمكاننا أن نجد بعض الأفكار والإشارات والإرهاصات الغربية التي ظهرت فيها بعض الجوانب المكونة لنظرية المهدية المشرقية؛ من أهم تلك الإشارات، ما تواتر في الميثولوجيا الإغريقية القديمة عن تنبؤات وتوقعات مستمرة بظهور عدد من الأبطال الذين سوف يغيرون من مصير مدنهم وشعوبهم، وارتباط مصير تلك الشخصيات بإقرار حالة من السلام والهدوء عقب تغلبهم وانتصارهم على قوى الشر، من تلك الشخصيات البطل بيرسيوس الذي استطاع قطع رأس ميدوسا، وأقر حالة من الرخاء بعد وصوله للملك.

كما أن العصور الوسطى في أوروبا، قد ذاعت بها العديد من القصص والنبوءات عن الشخص الموعود الذي سيقوم بفعل معين لا يستطيع شخص آخر أن يفعله، ومن ذلك أسطورة سيف الملك آرثر التي انتشرت بشكل كبير في معظم البلاد الأوروبية، وادَّعت أن المنقذ الموعود سوف يكون قادرًا على نزع سيف الملك آرثر من الصخر، وأنه سوف يحكم بعد ذلك ويقود شعبه للنصر.

وكذلك تسربت تلك القصص إلى كتاب «قرون»، الذي يعد أهم كتب ومؤلفات المنجم الفرنسي الشهير نوستراداموس، فقد ورد في ذلك الكتاب في النبوءة التاسعة والعشرين أنه سوف «ينطلق الزعيم الأسيوي من بلده ليعبر ابينين ويدخل فرنسا، وهو سيعبر السماء والأنهار والجبال ويرغم كل بلد أن يدفع الضريبة»، وفي موضع آخر من الكتاب يقول: «من الشرق، سيأتي القلب الأفريقي لإثارة القلق لهادري وورثة رومولوس».

بل إن تلك الفكرة قد بلغت من القوة والتأثير ما جعلها تخرج من حدود الإطار الديني التقليدي، وتقتحم الفكر الحداثي المادي الغربي، حتى أن السينما الغربية قد تناولتها في واحد من أشهر أفلام الخيال العلمي، وهو فيلم «ماتريكس matrix» الذي جسد فيه الممثل الشهير كيانو ريفز، دور (نيو) الذي هو المعادل الموضوعي لشخصية المسيح أو المهدي في الأديان السماوية.


[1] عباس محمود العقاد، توحيد وأنبياء، ص757.[2] د. حسن ظاظا، الفكر الإسرائيلي (أطواره ومذاهبه)، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1971م، ص113.[3] متى المسكين، تاريخ إسرائيل، ص370.[4] إشعياء، 1:11-16.[5] روبن فايرستون، ذرية إبراهيم، ص36.[6] المرجع نفسه، ص37.[7] د. أحمد شلبي، اليهودية، ص211.[8] د. حسن ظاظا، الفكر الإسرائيلي، ص131-151.[9] إنجيل متى 16: 27.[10] د/أحمد أمين، المهدي والمهدوية، دار المعارف للطباعة والنشر، القاهرة،1951م، ص6.