عندما يتحدث معظم الناس عن القتل، فهم مثل العذارى الذين يتحدثون عن الجنس.

من كتاب «في القتل: التكلفة النفسية لتعلم القتل في الحرب والمجتمع» للكولونيل الأمريكي «ديف جروسمان».

غالباً ما يُساوي الناس بين «القوة المميتة» و«القوة المفرطة»، وهذا خطأٌ شائع. فعندما يواجه الشرطي أي عنصر مدني أو مشتبه به، يجب أن يستخدم القوة اللازمة –فقط- للسيطرة على الموقف، والحفاظ على حياة وسلامة ضباط الشرطة والمدنيين الموجودين في مكان الحادث (بدايةً من الأوامر اللفظية، إلى تكبيل اليدين، إلى الهراوات، وأخيرًا السلاح الناري)، أي أن «القوة المميتة» قد تدخل في إطار «القوة اللازمة» للسيطرة على الموقف، وبالتالي لا تُعد «قوة مفرطة» في هذه الحالة.

لأن «القوة المفرطة» هي أي استخدام للقوة يتجاوز ما هو مطلوب للسلامة والسيطرة. وهنا أيضًا قد تكون «القوة المميتة» نوعًا من «القوة المفرطة»، خاصة في تلك الحالات التي يستخدمها الضابط كنوع من العقاب.

يُركز هذا التقرير في تحليله على ممارسة ضباط الشرطة لعمليات القتل كنوع من القوة المفرطة.


القتل الموجّه: خارج على القانون

في نيجيريا، وحشية الشرطة شائعة كالمياه.

جوستوس إيجوما، ناشط في مجال حقوق الإنسان في ولاية أنامبرا النيجيرية.

رغم أن الشرطة هي بالأساس قوات لـ «إنفاذ القانون»، فإن ممارسة عمليات القتل خارج إطار القانون هي واحدة من أبرز سمات الشرطة حول العالم، وهو الأمر الذي يتضاعف في الدول الفقيرة، والتي غالبًا لا يُعاقب فيها رجال الشرطة على هذه الممارسات، بل إن السلطات هناك هي من تشجع أحيانًا على عمليات الإعدام الميداني والفوري بعيدًا عن القضاء، إما للتخلص من المنشقين أو لقمع الجريمة.

ففي الفلبين يحث الرئيس «رودريغو دوتيرتي» الشرطة علنًا على قتل تجار المخدرات المشتبه فيهم، وحتى متعاطي المخدرات، للوفاء بوعود حملته الانتخابية، بإلقاء جثثهم في خليج مانيلا و«تسمين الأسماك هناك». فمنذ أن أصبح رئيسًا في مايو/أيار 2016، توفي أكثر من 12 ألف شخص في عمليات القتل خارج نطاق القضاء، وفقًا لجماعات حقوق الإنسان.

وكذلك كان الأمر في حرب المخدرات في تايلاند، والتي بدأت عام 2003، وبدا أنها فاشلة تمامًا، إذ خلص تقرير صدر بعد أربع سنوات إلى أنه في الأشهر الأولى من عمر هذه الحرب كان نصف عدد حالات القتل خارج نطاق القانون، البالغ عددها 2819 حالة، شملت ضحايا لا علاقة لهم بالمخدرات أصلًا.

وفي عام 2015، أخبر نائب رئيس السلفادور الشرطة أنهم يستطيعون إطلاق النار على أعضاء العصابات «دون أي خوف من العواقب»، ولا شك أن مثل هذا الإفلات الضمني من العقاب أطلق للأسلحة الشرطية العنان. ومع ذلك، فإن عدد أفراد العصابات هناك تضاعف بمقدار 15 ضعفًا، من 39 عام 2013 إلى 603 عام 2016.

وخلال عام 2017، قُبض على أكثر من 600 ضابط سلفادوري بتهمة الانتماء إلى فرق الموت، والمشاركة في عمليات إطلاق النار خارج إطار القانون. كذلك تمكن بعض الصحفيين من الوصول إلى مجموعة محادثة خاصة على تطبيق «واتس آب»، حيث يتشارك الضباط من وحدة النخبة الخاصة مقاطع فيديو للمشتبه بهم وهم يتعرضون للتعذيب، واحتفلوا بالقضاء على من أسموهم بـ «فئران» العصابات، وتبادلوا النصائح حول كيفية تلفيق الأدلة. وعلى الرغم من إلقاء القبض على هؤلاء الضباط، فإنه تمت تبرئتهم.

أما في الهند وباكستان، فهناك ما يُعرف بـ «القتل الموجه»، ويعني تصفية المشتبه بهم مباشرة في موقع الوصول إليهم، ويتم تبرير هذه الأفعال تحت ذريعة «الحرب على الإرهاب». ويكفي أن نعرف أنه في الفترة بين عامي 1997 و2016 تم تسجيل 8800 حالة قتل من هذا النوع في باكستان.


عصيان الأوامر

خالف مرارًا أوامرها.. نظر إليها بطريقة مزعجة.. اختفت يديه لفترة وجيزة من بصرها.

هكذا بررت الشرطية «بيتي شيلبي» قتلها لـ «تيرينس كروتشر» في ولاية أوكلاهوما، في سبتمبر/أيلول 2016، رغم كونه أعزل، بعدما تعطلت سيارته وأغلقت الطريق.

وذكرت «شيلبي»، في أحد اللقاءات التليفزيونية، أنه مع هذه الأشياء الثلاثة يحق لها أن تقتله، فهي لم تر أنها اقترفت أي خطأ.

وهنا يبدو جليًا أن العديد من ضباط الشرطة حول العالم الذين يرتدون الزي الرسمي، يظنون أن لديهم ترخيصًا بقتل الأشخاص الذين يعصون أوامرهم، أو يحاولون الهروب، أو القيام بشيء يعتقد الضابط أنه قد يشكل خطرًا عليهم.

وفي ذات اللقاء التلفزيوني، وعندما سُئلت «شيلبي» عن سبب عدم إطلاقها النار على كروتشر في منطقة غير مميتة، كانت إجابتها: «نحن غير مدربين على ذلك». رغم أنه من المفترض أن يتم تدريب الضباط على إطلاق النار من كل الوضعيات، وبكل دقة على الأهداف المُحددة. بما في ذلك القدرة على إصابة المشتبه بهم وليس قتلهم.

قد يعاني بعض الضباط، في بعض الدول، من نقص في التدريب بالفعل، ولكن هذه الحالات هي الاستثناء، لأن معظم الخبراء يعتقدون أن خيار القتل غالبًا ما يكون المفضل لدى ضباط الشرطة، سواء بسبب قناعاتهم الشخصية أو بسبب تعليمات وأوامر رؤسائهم.

وعلى مستوى العالم عمومًا، من النادر إدانة شرطي بسبب قتله لشخص مدني، بسبب المعايير القانونية التي تسمح للشرطي باستخدام القوة المميتة. ورغم وجود الكثير من المبادئ التوجيهية لاستخدام القوة من قبل الشرطة، إلا أنه في كثير من الأحيان تتلخص هذه المبادئ فيما يعتقده الضابط وقت إطلاق النار، خاصة عندما يعتقد أو يُفيد بوجود تهديد فعلي على حياته أو حياة آخرين.


لماذا يقتل الضباط؟

هناك في علم النفس ما يُسمى بـ «التحيز الضمني»، وهي أفكار ومشاعر تم إطلاقها بسرعة كبيرة، بغرض توجيه ردود فعل سريعة، على غرار الأشخاص الذين يُبعدون أيديهم بعيدًا عن موقد ساخن في أجزاء من الثانية، كذلك يقوم الأفراد بتطوير استجابات سريعة وانعكاسية تجاه أشخاص آخرين، وذلك لاتخاذ السلوك المناسب للتعامل معهم، حتى تصبح هذه السلوكيات قوالب نمطية، وهي بالمناسبة قد تكون غير صحيحة، أو قد تُسفر عن نتائج غير مرغوب فيها.

هذا ما أكده «جوردن ب. موسكوفيتش» أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة «ليهاي» الأمريكية، خلال تحليله لسلوكيات الضباط، وقيامهم بعمليات القتل أثناء عملهم. وأضاف موسكوفيتش أن الخوف قد يقود المرء إلى تصرف متحيز أو غير مناسب؛ فالإنسان الطبيعي يقوم بتقييم كل شيء يراه، وكذلك كل شخص يلتقيه للمرة الأولى، في غضون 200 جزء من الثانية، لتحديد إذا ما كان هناك تهديد مُحدق به أم لا. هذا التقييم السريع هو ما يتحكم في رد فعل الإنسان؛ سواء في الاتصال بهذا الشيء أو ذاك الشخص، أو في تجنب الاتصال به. وفي مرحلة ثانية (في حالة الضباط) يتحدد إذا ما كان عليه أن يُطلق النار أم لا.

إلى جانب هذه العملية التقييمية التي يقوم بها الإنسان هناك عملية أخرى تتحكم في سلوكيات الإنسان بشكل كبير، وهي «الصورة النمطية الضمنية»؛ فحينما يقع سمعك أو نظرك على كلمة «سمك القرش»، فإنك لا تستحضر في ذهنك صورته المادية فقط، ولكن تستحضر من ذاكرتك كل ما لديك من معلومات وصفات عن هذا الكائن، وذلك دون أن تدرك أو تريد ذلك.

هنا يكمن الخطر، فرجال الشرطة، غالبًا ما تتكون لديهم صورة نمطية «سلبية» وأحيانًا «دونية» تجاه بعض الفئات، فيرون في بعضهم مصدرًا للتهديد، يجب أن يتم التعامل معه على الفور (أي قتله)، كما أن النظرة «الدونية» للبعض الآخر تمنح الضباط الإذن الأخلاقي لأي ممارسات (بما في ذلك القتل) تجاه هؤلاء الأشخاص.

هذا، وقد تناول الكولونيل الأمريكي «ديف جروسمان» هذا البعد في كتابه «في القتل: التكلفة النفسية لتعلم القتل في الحرب والمجتمع»، ولكن بأسلوب مختلف.

غلاف كتاب: «في القتل: التكلفة النفسية لتعلم القتل في الحرب والمجتمع».

حيث ذكر أن قرار الضابط بقتل ضحيته (أو المشتبه به) يتوقف على المسافة التي تفصل بينهما، وهي التي تأخذ أكثر من صورة:

  • المسافة المادية أو الميكانيكية

غالبًا ما يجد الإنسان السوي صعوبة شديدة في قتل شخص آخر على مسافة قريبة منه، حيث يشعر بأنفاسه ويرى الخوف في عينيه. لكن يكون الأمر مختلفًا عندما تفصل مسافة كبيرة بين القاتل والمقتول، مثل إطلاق المدفعية، أو إطلاق النيران عبر شاشات إلكترونية، لا ترى خلالها الهدف البشري بشكل مباشر.

  • المسافة الثقافية والاجتماعية

تتمثل في رؤية الآخر على أنه نموذج أدنى من البشر، وأحيانًا يتم تجريده من إنسانيته تمامًا. ففي العصور الوسطى، كان من الصعب أن يقوم جندي بقتل جندي آخر مرتعد (وغير راغب في القتال) من قوات العدو، فكان الفرسان من النبلاء هم من يقومون بجل أعمال القتل، فهم ينظرون إلى الجنود على أنهم كائنات أدنى منهم منزلة، وأن فقدانهم ليس بالأمر المهم. وكذلك تعامل النازيون مع اليهود قبيل الحرب العالمية الثانية، والأمريكان مع السود خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

  • المسافة الأخلاقية

حيث ترى في الآخر نموذجًا غير أخلاقي، يتجه بالبشرية نحو الانحدار، ومن ثَمَّ وجب قتله.

كل هذه المسافات قد تنتج عن قناعات الفرد نفسه، أو قد تُزرع قسرًا داخله عن طريق المجتمع أو منظومة عمله (الأجهزة الأمنية). ووجود هذه المسافات لا يلغي العوامل الأخرى التي تدفع الضباط للقتل خارج إطار القانون، بدايةً من الخوف، ومرورًا بالانتقام، ووصولًا إلى الكراهية.


الخلاصة

كتاب - التكلفة النفسية لتعلم القتل في الحرب والمجتمع
كتاب – التكلفة النفسية لتعلم القتل في الحرب والمجتمع

هي أن الشر ليس سهلًا، وكذلك القتل. فالقاتل، سواء أكان مُجرمًا أو شرطيًّا، يمارس عملية مُرهقة، تتعدى القدرات النفسية والعصبية لأي إنسان، الذي يكون مُضطرًا للتغلب على الكثير من الأسلاك العصبية القوية، لأن دماغ الإنسان مُبرمجة على الشفقة والشعور بالذنب، والتي تجلب المعاناة لمن يُلحق الأذى بغيره.

وتؤكد الدراسات أنه خلال الحرب العالمية الثانية، 15-20% فقط من جنود الحلفاء، هم من انصاعوا لأوامر إطلاق النار في ساحات القتال.

لذلك، في تلك الدول التي يُشاع فيها ممارسة ضباط الشرطة لعمليات القتل خارج إطار القانون يتعرض هؤلاء الضباط لعمليات تدريب مكثفة، وأوامر مباشرة بالقتل، وتلقين دائم حول سمو ضباط الشرطة وعدالة قضيتهم، وكذلك تجريد «الآخر» من إنسانيته، وبالتالي من حقوقه. وهو ما يُحوِّل الضابط من شاب وإنسان طبيعي إلى «قاتل متحمس».