الظاهر أن مشكلة الاقتصاد المصري حاليًا عبارة عن أزمة هوية فريدة من نوعها، ففي الوقت الذي يجتهد فيه نظام السيسي لدفع البلاد نحو التحول إلى سوق ليبرالية -أو هو على الأقل يدّعي ذلك- لا يبدو أن لديه إستراتيجية واضحة في التعامل مع تاريخ البلاد من هيمنة مؤسسات الدولة على الاقتصاد وسيطرتها على الأسواق وبرامج الدعم الضخمة.

وبالتالي لا يكون السؤال عن كيفية التخلص من بعض الأنسقة الاقتصادية القائمة، ولكن ما إذا كان هذا هو فعلاً ما يجب استهدافه وإذا ما افترضنا أن لذلك إمكانية واقعية أصلاً.

فالخروج من مثل تلك الأنسقة صعب جدًا ويسبب في العادة كمًا كبيرًا من المعاناة المجتمعية، وهو ما أشك في قدرة المصريين على تحمله حاليًا.

فنحن نتحدث عن دولة وصلت بها نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى 27.8%؛ أي يقتاتون على أقل من 482 جنيه مصري شهريًا. هولاء يعتمدون بشكل كبير على المواد غذائية والخدمات الأخرى المُدعمة، كما تشير بعض الدراسات إلى أن عدد المُشردين وساكني العشوائيات في مصر وصل إلى حوالي 12 مليون.

هناك بالتالي شكوك جادة في كون منهج الخصخصة الذي يتبعه السيسي هو بالفعل أفضل السُبل حتى ولو جاء بدعم وبشروط من صندوق النقد والبنك الدوليين، وحتى لو اتفقنا على ضرورته على المدى الطويل رغم خلافي الشخصي مع الفكرة.

ومن السذاجة المفرطة افتراض أن الحكومة المصرية على غير دراية بتلك البديهيات أو أنها تتجاهلها. أعتقد على العكس من ذلك أنهم يعون جيدًا خطورة أن تؤدي سياساتهم الاقتصادية إلى اضطرابات اجتماعية شديدة، وهم بالتأكيد على علم أيضًا بأن الرهان على شعبية السيسي التى كان يتمتع بها سابقًا لم يعد مُجديًا.

وبالتالي يظل السؤال هو “لماذا تلك المجازفة بدلاً من اختيار درب أقل حدة نحو الإصلاح؟”، خاصة أنه توجد مسارات أخرى كانت ستحقق نفس النتيجة من خفض عجز الموازنة والسيطرة على الدين العام المتفاقم، وكانت ستظل متمتعة بدعم مؤسسات التمويل الدولية لأهمية الحفاظ على استقرار مصر السياسي.

أدرك بالطبع مدى حزم مؤسسات التمويل الدولية في شأن إجراءات الإصلاح الاقتصادي، ولكنهم أيضًا على علم بالمخاطر السياسية ولم يكونوا سيرفضون طريقًا أكثر تمهلاً.

والرد على السؤال أعلاه بسيط للغاية ويكمن في عودة مجتمع الأعمال المصري التقليدي الذي قام مبارك بتربيته لمدة ثلاثين عامًا وبعدما حُوكم منهم الكثيرون بتهم فساد مختلفة عقب ثورة 2011.

أما اليوم فقد تمت تبرئتهم جميعًا ومعظمهم عادوا إلى الساحة، ويبدو أن نظام السيسي يأمل في الحصول على مساندتهم لترسيخ حكمه. الدولة على ما يبدو إذن تعتقد أن تمكينهم من السيطرة على الاقتصاد سيضمن ولاءهم السياسي وهي فرضية ضعيفة للغاية قد تتلاشى تمامًا مع أول خلاف جاد.

ومن سخرية القدر أن نفس رجال الأعمال هؤلاء هم غالبًا من سيقضون على ما تبقى من البلد في زمن قياسي، حيث سجل شهر يناير 2017 نسبة تضخم بلغت زيادتها السنوية 29.6% وسبب تحرير سعر الصرف في نوفمبر الماضي اختناقات شديدة في إمدادات كافة أنواع السلع بما في ذلك الأدوية والمواد الغذائية.

أما رجال الأعمال فيقومون بتحميل فروق التكلفة على سعر المنتج النهائي وليس لديهم استعداد لتخفيض هوامش أرباحهم مراعاة للقوة الشرائية المحدودة. على المدى القصير ستكون الأرباح خيالية بالطبع ولكنها في النهاية ستؤدى حتمًا إلى تعميق الأزمة.

ومن المرجح حينئذٍ أن يتجه مجتمع الأعمال إلى التخارج بأي طريقة وهو ما لن يكون صعبًا، حيث قام فعليًا بنقل أصول ضخمة وأموال طائلة إلى الملاذات الضريبية أو استثمرها بالخارج.

من الواضح إذن أن الرأسماليين المصريين رأسماليون فقط لامتلاكهم رأس المال، وهو ما قد يكون كافيًا في جمهوريات الموز ولكن ليس في دولة مثل مصر بتعداد سكانها المهول واقتصادها المعقد.

ولو فرضنا جدلاً أن الرأسمالية مطلوبة أصلاً -وأنا أختلف على ذلك- فهي لابد أن يكون لديها القدرة على تحسين البنية التحتية واستهداف الاكتفاء الذاتي وتأمين السلام الاجتماعي لضمان أسواق تعمل بسلاسة.

أما رجال الأعمال هؤلاء ففشلوا في أن يكونوا رأسماليين مُستغلين حتى لما كان النظام الرأسمالي لا يؤسس على الاستغلال وحده؛ لأن هناك مرحلة تتطلب نوعًا من المسئولية المجتمعية تتعدى الأعمال الخيرية معدومة التأثير المستدام.

وما يزيد الطين بلة هو أن معظم الفاعلين الاقتصاديين في مصر لديهم تطلعات سياسية تتعدى الفساد المعتاد الذي نجده بأماكن كثيرة لكونه نسيجًا متكاملاً يستهدف أكثر من مجرد استغلال النفوذ السياسي لجنى المال، بل هو في الواقع تحويل النفوذ السياسي إلى المال والعكس صحيح، هذا لابد أن يصل في منتهاه إلى الكارثة.

التغيير إذن مطلوب بلا شك والإصلاح على المدى الطويل ليس اختياريًا ولكن دون أن يؤدي إلى إفقار الجماهير العريضة، ويستلزم بالتالي وجود برامج للحماية الاجتماعية تعمل بشكل كامل حتى تمتص التداعيات المُتوقعة. أما محاولة الحكومة المصرية لفعل الاثنين معًا فسينتج عنها حتمًا ما لا يحمد عقباه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.