ياسين الحاج صالح (1961)، باحث وكاتب سوري، وسجين سياسي سابق، تتناول كتاباته الشأن السوري والمسألة الطائفية والإسلام السياسي وقضايا الفكر العربي الإسلامي، معروف بنشاطه الثقافي في المهجر وبمداخلاته المثيرة للجدل على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، ومعروف أيضا بتواصله الدائم مع متابعيه وقرّاءه.

تكوّنت ثقافته في أروقة السجن، وبشأن هذا يقول في «سيرته الذاتية»:

أدركت وأنا في السجن بين عامي 1980 و1996، أنّ عليّ أن أحاول تعويض هذا الاعتقال المديد، قياسا إلى عمري وقت اعتقالي وإلى «الجريمة» التي ارتكبتُ، بشيء في مجال الثقافة. عليّ أن أكون كفؤاً لحبسي، أن أستحقه. لا شيء يُعوَّض بالطبع، سن الشباب خاصة … لكن الخيار كان بين تعلم شيء ما في السجن، أو عدم تعلم أي شيء … في السجن أيضاً. ليس غير الثقافة تنقذ السجين.

وهو أحد أعضاء مجموعة الجمهورية، ويقول أعضاء هذه المجموعة في رسالتهم: «نحن العلمانيين المناهضين بشكل قاطع لنظام بشار الأسد ولشبكة مصالحه ومثقّفيه؛ والرافضين لنهج حركات الإسلام السياسي والحركات الجهادية، مهما كانت جذرية هي الأخرى ضد نظام الأسد؛ موجودون».

«أساطير الآخِرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده» عبارة عن مجموعة مقالات متفاوتة في الحجم، كتبها ياسين في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية، في الفترة الممتدة من عام 2007 إلى 2010، ثم جمعها في كتاب قسّمه إلى أربعة أقسام؛ تفكير الإسلام، الإسلام مُنازِعاً ومُنازَعاً، الإصلاح الإسلامي، جدالات. يشتغل الكتاب على نقد بُنى الإسلام المعاصر، العقدية والفكرية والفقهية، وعلى نقد النقد العلماني لـ«المشكلة الإسلامية». نستعرض هنا الأفكار التي نرى أن الكاتب وضعها موضع تركيز وألحَّ عليها مرارا في مؤلَّفه.


المُفارقة الإسلامية: عدمية فيض المعنى

إذا كان المأخذ العدمي للحياة قد جاء، في صيغته الغربية، نتيجة نفاد المعنى أو جفافه، فإنّه قد تشكّل إسلاميا حصيلة فيض المعنى وتضخمه: «على أنه إذا كانت العدمية الغربية، العدمية الوجودية بخاصة، مقترنة بشح المعنى وانعدام الغاية من الوجود، فإنه يمكن تمييز ضرب من عدمية إسلامية خاصة، مقترنة بالأحرى بفيض المعنى. وفي حين أن جذر العدمية الغربية هو موت الله، وأن أكثر فروعها تعي ذاتها عَوداً إلى نبي الإله الميت، فريدريك نيتشه، فإن أصل عدمية فيض المعنى الإسلامية المعاصرة هو فرط وجود الله وقدرته وحضوره الكلي. الله هو الموجود الوحيد الحق، لا حَكَم إلا هو، وفقاً لما كان رأى الخوارج، مجسد وأحد النماذج الباكرة للعدمية الإسلامية. وأمام إطلاق الله، سيتضاءل الإنسان إلى ما لا نهاية، ما يضفي قيمة نسبية جداً على حياته، ويجعلها قابلة للحذف والإلغاء و… الإعدام. الله حي، الموت ميت. ومعه الحياة» (ص144).

وهذا النمط من العدمية ينقل الدين من الطابع الأفيوني المؤدّي للخنوع والمذلّة (ماركس) إلى طابع آخر جديد هو الطابع الكوكايني الحربي المزمجر (إيكو)؛ «[فـ]بينما قد يكون الانتحار أو إعدام الذات مخرجاً من العدمية الوجودية.. فإن عدمية فيض المعنى، الإسلامية وغير الإسلامية، تعادي الانتحار، إلا أنها قد تنحر وتقتل. وهي لا تعادي الانتحار لأنها تكرِّم الحياة بحد ذاتها، بل لأن الحياة وديعة لطرف آخر، أسمى، فلا يحق لحي أن يتصرف بها كأنها ملك شخصي مطلق له، على نحو ما تُشرِّع عدمية شح المعنى» (ص147).

أيضا ثمة مفارقة أخرى، «اقترن شحُّ المعنى في الغرب بثورات ثقافية متصلة أغنت الثقافة الغربية إلى حد لا يصدق. قد يمكن القول إن الثقافة الغربية سعي موصول للتغلب على العدم المتولد عن موت الله، أو ببساطة زوال المسيحية. هذه الروح المسعورة التي تتملكها تُفسِّر عبادتها للإبداع والاختراع والاختلاف والتجدد، وافتتانها بالثورة والتغيير والموت والنهايات. لا يكفٌّ الغربيون عن صنع معان جزئية لأنهم فقدوا بلا رجعة المعنى الكلي. بالمقابل يبدو أن فيض المعنى لدينا معقِّم ثقافيا. هناك معنى كبير واحد، لكنه لا يُعقِّب. كأنه أب أسطوري لا يتوقف عن أكل أبنائه. فيض المعنى هو معنى واحد فائض، وليس ثروة من المعاني وتدفقاً متجدداً لها» (ص148).

و«مفارقة الثقافة أنه لا بد من توسطات، معارف وفنون وقيم وطقوس، من أجل امتلاك التجربة الأصلية. أي أن الابتعاد عنها (التجربة) هو وسيلتنا للاقتراب منها وتملكها» (ص154)، «الثقافة والتاريخ هما ما يتوسط الإسلام كأصل والإسلام كعصر أو كبنية معاصرة، فتمنع تطابقهما، فتحول دون توثُّن الإسلام. لكن الإسلاميين يبذلون جهوداً كبيرة لإنكار فعالية التاريخ، ولحماية مطابقة الإسلام الدائمة لأصله المفترض… ميزة الإسلام في نظرهم هي ثباته ومماثلته الدائمة لذاته. لكن ما هو الشيء الذي يشابه نفسه دوماً، متعالياً على الأزمنة والأمكنة، غير داخل في علاقة مع غير، وغير معانٍ التغير والاغتراب؟ الله» (ص156-157).

ناظرًا إلى صيغ الإسلام المعاصر، يستخلص ياسين وجود حالة من حجب الإله للحياة (عدمية فيض المعنى)، ومن حجب الإسلام للإله (عبادة الإسلام). والطريق للإيجابية أو للآنتي-عدمية أو للاحتفاء بالحياة وكشفها يمر عبر «أنسنة الإسلام»، أي بالتخلص من «وثنيته»، وهو ما لا يتم، وفقا لأطروحة ياسين، إلا بتثقيف الإسلام. لو انتهى الكلام هنا لصار مفهوما في سياق القراءات الحداثية للدين التي انتشرت منذ عقود في عالمنا العربي، على يد محمد أركون وهشام جعيط وعبد المجيد الشرفي وغيرهم، وفي العالم الإسلامي (بالتحديد: إيران، وتركيا)، بيد أن ياسين يضيف شرطًا لا يبدو بحال ضمن سائد القول الحداثي العربي، وهو لزوم مأسسة الإسلام لتمكين عملية الإصلاح الديني.


«فتشية» المؤسسة الدينية

بينما قد يكون الانتحار أو إعدام الذات مخرجاً من العدمية الوجودية.. فإن عدمية فيض المعنى… تعادي الانتحار، إلا أنها قد تنحر وتقتل

الرهاب الأساسي عند كاتبنا السوري هو فوضى الإسلام المعاصر وتناثره وتشظّيه وتبعثره: «والواقع أننا لا نجد اليوم مركزًا إسلاميًا من أي نوع، ولو بمعنى نسبي للكلمة. فـ«الإسلام الرسمي»، وهو تنويعة إسلامية مستأنسة تلبي حاجة الدول القائمة إلى القيام بوظيفة «حراسة الدين» وما تدره عليها رعايته من فضل شرعية وما تدرؤه عنها مراقبته من مخاطر محتملة؛ الإسلام هذا ليس مركزاً توجيهياً ينال إعترافا إجماعياً. ولا هو مركز ثقل الإسلام المعاصر في أي من بلدانه. ثم قربه وضد الإسلام الإخواني والإسلام السلفي الدعوي المحافظ اجتماعيًا والموالي سياسياً لمن يحكم، والإسلام السلفي الجهادي، بتنويعات أقل أو أكثر تكفيراً. وهذه التنويعات هي عنصر التفجير الأخطر. أما الإسلام الصوفي فهو الأكثر مسالمة وقدمًا، وإن يكن كذلك الأقرب إلى الإسلام الرسمي. لكن تنوع التيارات هذا يخفي هشاشة وتنوعًا، بل تبعثر كل منها» (ص194).

هناك أزمة حقيقية في وضعية المؤسسة الدينية في بلادنا، لكن التعويل (والتهويل) عليها في عملية الإصلاح الديني، غير مبرر ولا مسوغ له.

في سبيل تجاوز ذلك، يعتمد الكاتب السوري، مبدئيا، وجود سلطة دينية في الإسلام، بما تحتمله كلمة سلطة من عمومية؛ «إذ لا جدال في وجود مراكز شخصية أو اعتبارية تمارس نفوذًا باسم الدين على سلوك أفراد وجماعات، من العامة والخاصة، طوال تاريخ الإسلام. أن لا يكون المركز موحدًا، أن لا تكون هذه السلطة ممأسسة، ألا تكون سيدة كذلك، هذا كله لا ينفي وجودها. والحال لقد كانت غير ممأسسة وغير سيدة بالفعل» (ص183-184).

وبعد مقارنة مع السياق الغربي، يقول: «في مجالنا السياسي الديني، المعوَّل عليه، بالعكس، هو استقلال الدين أو حمايته من الدولة، أي الحد من تسييسه والتلاعب به، ومن ثم تقوية شخصيته التي كان من نتائج الفتوح ضمورها ووضعه باكراً تحت جناح الدولة. وهو ما نقدِّر أنه يحرر الدولة أيضا، ويزيد من قوتها ويضمن استقلالها. وكما كان استقلال الدولة اقتضى هناك توحيدها ومأسستها، فإننا لا نرى كيف يمكن أن يستقل الدين لدينا من دون توحيد السلطات الدينية ومأسستها، أي انضباطها بقواعد مستقرة، إنْ من حيث نظامها الداخلي، أو من حيث علاقتها بالسلطة السياسية، أو من حيث علاقتها بجمهور مسلم متفاوت […] ونرى أن عملية التوحيد والمركزة والمأسسة هي مضمون إصلاحية إسلامية محتملة ومرغوبة. وهو ما يرتب مقاربة مختلفة لمسألة الأإصلاح هذه، يتقدم فيها البعد المؤسسي والتنظيمي على البعد المتعلق بالمضمون أو التعاليم» (ص187).

و«نحدس أن البعد الأخير للإصلاح بات مرهوناً بالبعد الأول، المؤسسي. فمن شأن سلطة دينية مكتملة الشخصية وواثقة من نفسها أن تكون أجسر على اتخاذ قرارات فكرية تسهم في إعادة هيكلة الإيمان الإسلامي حول حرية الاعتقاد وأولوية الإيمان الشخصي […] والأهم أن إصلاحاً مؤسسياً كبيراً للإسلام المعاصر يبدو لنا الشرط الأنسب للعلمنة، أي فصل الدين عن الدولة، أو بالأصح ضمن استقلال الدين عن الدولة. بل إن العلمنة ربما تغدو مطلباً للمؤسسة الدينية بقدر ما ستتمتع به هذه من وزن ذاتي..» (ص188)، «فستبقى هذه (العلمنة) متعذرة إن لم تتكون هيكلية دينية موحدة، في سياق عقلنة أعم للتدين الإسلامي. ولعل من شأن الحرمان النهائي من الدولة أن يكون حافزاً لقيام مرجعية إسلامية ممأسسة، ‹دولة› دنيا وجزئية للمسلمين المؤمنين» (ص189). وفي ردّه على فهمي جدعان يقول: «لكن وجود الإكليريكية، بالمقابل، يثير تطلعات التحرر الديني التي قد تنعكس على المؤسسة الإكليريكية ذاتها، فتأخذ مواقف أكثر تحرراً على نحو يبدو أنه يجري اليوم في إيران» (ص203).

تقول أطروحة ياسين إنّه كي يتم الإصلاح، الذي هو ضرب من العقلنة، ينبغي الانتهاء من حالة التبعثر والتشظّي، ومن أجل ذلك يتوجب الدخول في مستوى أولي من العقلنة، أي في مسلكيات مأسسة، بحيث يتم تأطير وإيجاد «شكل» للإسلام المعاصر وتجاوز واقع «اللاشكل». فتمظهر الإسلام في «شكل» أو قالب معين يسمح بالتعامل أو «الصراع» معه.

من المفهوم الحديث عن استقلال المؤسسة الدينية، عن السلطة السياسية، من حيث تعيين رؤسائها ومجالس إدارتها وتسيير شؤونها المالية ووضع برامجها وخططها ومناهجها وإصدار فتاواها، في إطار سيادة القانون، وهذا التصور للاستقلال هو أحد مطالب شريحة لا بأس بها من الحقوقيين العلمانيين في مصر، مثلا، بخصوص المؤسسة الأزهرية. وهو استقلال من أجل مزيد من الدمقرطة والتحديث والمواطنة. لكن ما لا يبدو مفهوما، أو بالأحرى ما يبدو ممجوجا ومستهجنا، هو تصور إمكانية، خارج إطار الإكراه، للتوحيد والمركزة، ثم بناء تصور آخر يعوّل على دور هذه المؤسسة في عملية الإصلاح الديني، وثالثة الأثافي القول إنها ستتخذ «مواقف أكثر تحرراً على نحو يبدو أنه يجري اليوم في إيران»!

جماع هذه التصورات هو عمليات إلغاء وإبطال نظري لواقع العولمة، الذي هو واقع تكثّر وتنوع واختلاف وأنماط «مأسسة شبكية/ريزومية» وفضاء سبراني، من أجل مقاومته أو تحويله يُفترض العمل على عولمة بديلة لا النكوص نحو صيغ هيراركية مراتبية (كما تفعل التيارات الإسلامية والقومية حين ترفع شعار «الخصوصية»)، هي صيغ كسولة وساذجة في آن.

كيف يتصور توحيد كل هذه الإسلامات (الرسمي والإخواني والجهادي والصوفي) إلا بالإكراه أو الإلغاء أو الإقصاء السياسي والاجتماعي؟ وتنحية الدعاة ونجوم المشايخ، كيف تتم بغير تعسف وعنف؟

الواقع يشهد أنَّ أكثر المؤسسات والتحالفات واتحادات العلماء «تنوعًا» في عالمنا العربي والإسلامي، هي أكثرها رجعية ومحافظة (لا ننكر أن ذلك قد يعود لغلبة الايديولوجي فيها على ما سواه)، وأكثر المفكرين تقدمية هم من تناصبهم المؤسسات الدينية الحالية العداء وتشهر بهم. هناك أزمة حقيقية في وضعية المؤسسة الدينية في بلادنا، لكن التعويل (والتهويل) عليها في عملية الإصلاح الديني، وجعل عملية المأسسة تأخذ هذا البعد الصنمي (فيتيشزم) – ليس من المبالغة أن نقول فيض المؤسسة – غير مبرر ولا مسوغ له.


* نشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع صحيفة التقرير يناير/كانون الثاني 2015.