هاريسون فلوس (طالب دكتوراه بجامعة ستوني بروك)

ليست العلاقةُ بين الدّولة والكنيسة بقضيّةٍ سهلة. وقد اندرجتِ الحقوقُ في الولايات المتحدة الأمريكيّة تحت راية الحريّة الدينية -مدعية الحقّ الإلهيّ في مجابهة القانون الفدراليّ- بينما لا يزال الجدالُ قائمًا في فرنسا حول حظر الحجاب. ولكن بدلًا من السعي للتعدديّة والحياد من أجل حلّ هذه الإشكالات -كما هي عادة الليبراليين- يُقدّم تراث إسبينوزا Spinoza* وروسو Rousseau وروبسبيار Robespierre بديلاً مُبشرًا لتصوّراتٍ إيجابيّة للخير في الحياة المدنيّة.

وبدلاً من المعتقد الليبراليّ للفصل بين الكنيسة والدولة، فقد عضّدَت هاته الشخصيّات المأسسةَ لأخلاقية علمانيةٍ لتوطيد السيادة الشعبيّة ومكافحة الظلم. وقد عالجوا جميعًا مسألة القهر والاغتراب الاجتماعيّ على خلاف مقاربة «الإلحاد الجديد» النخبويّة التي هاجمت المُعتقدات الدينيّة للفقراء والمُهمشين بشكلٍ مُباشر على أنّه حلٍّ سياسيّ.

وبالنسبة إلى إسبينوزا وروسّو وروبسبيار، فإنّ الدّور الفعّال الذي لعبته السلطةُ السياديّةُ في الدين قد عنى تعزيز أشكالٍ محدّدة للسلوك الإيتيقيّ (الأخلاقي)، في حين يتسامح مع الأديان والمذاهب التي كانت على وئامٍ مع تلك الأشكال الإيتيقيّة.

ويبيّن النّزاع الدائر مؤخرًا حول كيم ديفس Kim Davis بعضًا من المشاكل المُقحمة في أسئلة الفصل بين الكنيسة والدولة. فبصفتها كاتبةً قانونيّةً لمقاطعة روان كنتاكي، تحدّت ديفس القانونَ الفدراليّ برفضها منحَ شهادات زواج للمثليين وسُجنت نتيجةً لذلك مدّة خمسة أيامٍ. واستشهدتْ ديفس بديانتها المسيحيّة بوصفها [أي ديانتها -م] هي السبب لأفعالها: «ليس إشكالًا سهلًا بالنسبة إليّ، إنّه قرار جنة أو نار».

إنّ هذه القضيّة، بالنسبةِ إلى العديد من اليسار، لقضيةٌ مفتوحة ومُغلقة في الوقت ذاته لتذويب رسميّ وقانونيّ للحدود بين الكنيسة والدولة؛ حدودٌ [وهي ههنا (Boundary) وليست (Limits) -م] لا ينبغي إضعافُها أو العبثُ بها. لكن لا يتّفق الكثير من المُحافظين مع هذا، محتجّينَ بأنّ الإيمان قادرٌ على أن يُحفّز سياسةَ شخصٍٍ ما على نحو مشروع.

يقولون إنّه في حال كان مجتمعٌ ليبراليّ ملتزمًا حقًا بتعدديّة الرؤى المتباينة -مع الدولة نفسها التي تعمل كطرفٍ مُحايد-، فحينها لا يوجد أيّ سبب لئلّا يساعد إيمانُ هذا المجتمع في تحديد رسم السياسة العامّة. إضافةً لذلك، للإبقاء على تعدّديّة حقيقيّة، فإنّ السلطةَ العموميّة عليها ألّا تلعبَ دورًا تأسيسيًّا وعليها أن تقبل بالاهتمامات الخصوصيّة وتفسح لها المكان بدلًا من ذلك، حتى وإن حدثت وكانت اهتماماتٍ كهنوتيّة أو معادية لليبراليّة.

يثيرُ دفاع اليمين عن ديفيس أسئلةً شائكة حول الفصل بين الكنيسة والدولة. ففي الولايات المتحدة، يُنظر إلى الفصل باعتباره حجرَ أساسٍٍ للديمقراطيّة والدستور، لكنّ هذا الفصل لا يخلو من الالتباس والغموض. وفي الواقع، إذا ما كان نشاط ما أو مؤسّسة تعبيرًا شرعيًّا عن دينٍِ معترفًا به، فإنّ الأمر، بنهاية المطاف، هو مسألة فرض ضرائب، مع دائرة الإيرادات الداخليّة التي تلعب دورَ المُحكِّم.

لكن ماذا لو كان للسلطة السياديّة نفوذٌ أعظم على الدّور الذي يلعبه الدينُ في المجال العموميّ بتأسيس شيءٍ ما يشبه عقيدةً مدنيّة؟ ماذا لو كفّتِ السلطة السياديّة عن بقائها حياديّةً، ومسؤولًا فارغًا للتصوّرات المتنافسة للخير، وساعدت، بدلًا من ذلك، على تشكيل تمظهرات عموميّة (public displays) للدين بوصفها جزءًا من سياستها؟


إسبينوزا: دين «العدل والإحسان»

http://gty.im/173372697

وكما يصوغ ذلك إسبينوزا، «يكتسبُ الدين قوّته كقانونٍ فحسب من مراسيم السياديّ. فلا توجد مملكة للإله بين البشر فيما عدا ما يُسيطر هو [أي الإله -م] عليه من خلال الحُكام الزّمنيين». فليست التقوى الباطنيّة بالنسبة إلى إسبينوزا، أو الاعتقاد الخاصّ، شيئًا يمكن للسلطةِ السياديّة أن تتداخلَ معه، فالتساؤلات حول كيفَ يلعبُ الدين دورًا في الحيّز العموميّ (أو ما يسمّيه إسبينوزا «التقوى الظاهريّة») أمر موكولٌ إلى السلطة السياديّة.

على سبيل المثال، لا يعود للكنيسة الكاثوليكيّة بأن تُقرّر ما يحصل عليه الموظّفون في مستشفياتها من خيارات التأمين على الصّحة الإنجابيّة. فبقدر ما تُفتح فيه هذه المستشفيات للجمهور، فإن هذا يغدو إشكالًا علمانيًّا وليس إشكالًا دينيًّا.

وعادةً ما يُنظر إلى إسبينوزا باعتباره ليبراليًّا في المسائل الدينيّة والفلسفيّة، وقد كان كذلك بالفعل. فمن أجل مهاجمة النّزعات الثيوقراطيّة مُمثّلةً في الكالفينيّة، اقترحَ إسبينوزا دينًا مدنيًّا قوميًّا ليبراليًّا من شأنه أن يشملَ كلّ الرعايا. وستُفرَض المعاييرُ الليبراليّة للدولة من قبل عبادةٍ عموميّة تعضّد من أيديولوجيا «العدالة والإحسان»، والتي قد عنتْ ممارسةَ التضامن وحبّ جيراننا.

كان هذا الحبّ، بالنسبة إلى إسبينوزا، مظهرًا من مظاهر حبّ لكون عقلانيّ نتشاركه جميعًا؛ لذا أسّس عبادته العموميّة في ميتافيزيقاه الحلوليّة [القائمة على وحدة الوجود -م] الفسيحة. لكن، وبغضّ النظر عن أفكار إسبينوزا المتعلّقة بالإله والكون، فما دامت هذه الأديان مُنسجمةً مع تعاليم الطاعة العموميّة، فسوف تقبلها الدولةُ وتُجيزها وتدعمها، ويمكنها مُمارسة معتقداتها بحريّةٍ. فقد أمّلتْ فكرةُ سبينوزا لدينٍ مدنيّ تصوّرًا مغايرًا لدينٍ قوميّ، وهو ما أسّسه ماكسميليان روبسبيار في أثناء الثورة الفرنسيّة.


روبسبيار: دين الجمهورية المدني

ماكسميليان روبسبيار
ماكسميليان روبسبيار

وفي خضمّ العنف وإراقة الدماء، أسّس روبسبيار وزملاؤه من النّواب اليعاقبة عبادة الموجود الأسمى لوحدة الأمّة روحيًّا وأخلاقيًّا. وكدينٍ قوميّ، فإنّه كانَ توحيديًّا شكلاً لكنّه علمانيّ بالممارسة، محدّدًا مبادئَ الفضيلة السياسيّة التي من شأنها أن تساعدَ على تعليم الشعب والمحافظة على الجمهوريّة الفرنسيّة.

أُسّس مفهوم عبادة الموجود الأسمى في آيار 1794 من خلال مرسوم يؤكّد على:

  • أن يعترف الشعب الفرنسيّ بوجود الموجود الأسمى وخلود الرّوح.
  • أن يعلنوا بأنّ أفضل خدمة للكائن الأسمى هي ممارسة واجبات الإنسان.
  • عدّ أنّ أهمّ هذه الواجبات هي: مقت الإيمان الفاسد والاستبداد، معاقبة الطغاة والخونة، مساعدة البؤساء، احترام الضعفاء، الدفاع عن المضطهدين، تقديم كلّ ما هو خيّر للجارّ، والتصرّف بعدالةٍ مع جميع البشر.

كان روسو منبع الإلهام المُباشر لروبسبيار في فكرة الدين المدنيّ الجمهوريّ، بيد أنّ باحثين من أمثال لويس فوير Lewis Feuer ونيك نيسبت Nick Nisbett شدّدوا على وجود البواعث الإسبينوزيّة مختبئةً فيما وراء أفكار روسو وروبسبيار. فبالنسبة إلى كلٍّ من إسبينوزا وروسّو، كانت فكرة الدين المدنيّ تمثّل مؤسّسة سياسيّة وأخلاقيّة، ليست مؤسّسة من أجل العبادة فحسب، بل من أجل تشكيل المعتقد السياسيّ كذلك.

يحمل موقف روبسبيار حول الدين عِبرًا ذات أهميّة لليسار اليوم. إنّ شنّ حروبٍ ضدّ المسيحيّة أو الدين بوصفه تجريداتٍ عامّة، بدلاً من مُهاجمة المنابع الأكثر دنيوةً للاغتراب والطّغيان، ما هو إلّا فعل أحمق سياسيًّا.

ولم تكن عبادة الموجود الأسمى مجرد نسقٍ مؤسّسٍ على نزوة سياسيّة. إذ كان هناك أيضًا سببٌ إجرائيّ لروبسبيار ولتأسيس زملائه لدينٍ قوميّ: تعزيز الوحدة بين مختلف الفصائل الجمهوريّة للأمّة بعد الكثير من الصّراعات الضارية، وإيقاف العداء ضدّ الفلاحين المُتديّنين، وهو العداء الذي حرّضت عليه الحملات السابقة لاجتثاث التنصير de-Christianization. فقد هددت مثل هذه الحملات الإلحاديّة الهيمنةَ السياسيّة التي حقّقها اليعاقبةُ في توحيد المدينة والريف.

وكان لدى روبسبيار نفورٌ توحيديّ من الإلحاد، لكنه كان معارضًا فعليًا لمجتثّي التنصير الذين سعوا إلى حلّ التناقضات السياسّية من خلال صراعٍِ أيدولوجيّ أُحاديّ الجانب. وكان الصحفيُّ جاك هيبير Jacques Hébert هو الخصمَ الرئيس لروبسبيار في هذا الصراع، الذي دعا الشعب الفرنسي لاجتثاث جذر المسيحيّة وفرعها.

يحمل موقف روبسبيار حول الدين عِبرًا ذات أهميّة لليسار اليوم. إنّ شنّ حروبٍ ضدّ المسيحيّة أو الدين بوصفه تجريداتٍ عامّة، بدلاً من مُهاجمة المنابع الأكثر دنيوةً للاغتراب والطّغيان، ما هو إلّا فعل أحمق سياسيًّا. فما من شيءٍ بطبيعته تقدميٌّ أو ثوريٌّ في كون شخص ما مُلحدًا، لأنّ الإلحاد، في حدّ ذاته، ليس أساسًا إيجابيًّا للسياسة.

وبالفعل، يمكن [للإلحاد] أن يتحوّل إلى أمرٍ نخبويّ ورجعيّ إذا اعتبرَ قتالَ المعتقدات الدينيّة أكثر أهميّة من القتال من أجل حقوق المُضطهدين. فأيان راند Ayn Rand والملحدون الجُدد من أمثال ريتشارد دوكينز Richard Dawkins وسام هاريس Sam Harris هم شواهد مُحكَمةٌ للإلحاد في خدمة الارتكاس الخبيث.

فقد أثارت النّزعات التدميريّة والعدميّة لأنصار جاك هيبير Hébertists، الذين كانوا عازمين على احتقار الدين، سخط روبسبيار. فكما قد حاجج لنادي اليعاقبة، حيث يقول:

«لا أرى سوى طريقة واحدة لإحياء العصبيّة fanaticism فيما بيننا: ألا وهي التأثير على الاعتقاد في سلطته … فقد نُدِّد بالقساوسةِ لتلاوتهم القُدّاس. وسيواصلون فعل ذلك طالما حاولتَ منعهم. فمَن يسعى إلى منعهم لهو أشدّ تعصّبًا من القسيس نفسه.»

ما من شيءٍ بطبيعته تقدميٌّ أو ثوريٌّ في كون شخص ما مُلحدًا، لأنّ الإلحاد، في حدّ ذاته، ليس أساسًا إيجابيًّا للسياسة.

إنّ الجدالات الحالية الدائرة حول تمظهر الحجاب في فرنسا لها أصداءٌ في الماضي الثوريّ للدّولة. فعلى سبيل المثال، قيِلَ في مرسومٍ هيبيريّ: «تحت طائلةِ السجن، يُحظر على القساوسة والكهنة الظهور بالزيّ الدينيّ في أيّ مكان خارج معابدهم». ويمكن للجمهوريين الذين يعارضون ارتداءَ الحجاب في المدارس الفرنسيّة اليوم أن يتّتبعوا تراثهم في هذه السياسات.

لكن يبدو أنّه من غير المُحتمل أن كانَ لدى روبسبيار كثير تعاطفٍ مع البواعث العلمانيّة لحظر الحجاب، أيّ تعاطف أكثر مما كانَ لديه تجاه حظر أشكالٍ أخرى من التعبير الدينيّ. فقد كان روبسبيار أكثر التزامًا بالعدالة و[بحقوق] المُضطهدين من مجرّد الولاء للدولة العلمانيّة. ومن ثمّ، جاء تصريحه بأنّ:

«الإلحادَ أمرٌ أرستقراطيّ، في حين أنّ التصديق بالموجود الأسمى الذي يطّلع على براءة المظلوم ويُعاقب على جرائم الظالمين لهو أمرٌ شعبيّ.»

وكما يحاججُ نيسبت، «لم ينظر روبسبيار للإلحاد على أنّه أمر زائف؛ بل بوصفه ترفًا لعاداتٍ وتعليمٍ أرستقراطيّ وبرجوازيّ ذات امتيازات». لقد كان الهدفُ الحقيقيّ يتمثّل بتأسيس سيادةٍ شعبيّة حقيقيّة، وهذا يعني احترامَ الألولويّات الدينيّة القائمة للشعب. فبالنسبة إلى روبسبيار، فإن هؤلاء الذين كرهوا الدينَ بهذه الضّراوة قد قنّعوا ازدراءَهم الأرستقراطيّ والبرجوازيّ الخاصّ بهم للفقراء.

في هذا الصدد، فإنّ الدينَ المدنيّ الجديد لروبسبيار قد صُمم ليُحافظَ على الجمهوريّة: إذ كان يُنظر لهذا الدين الجديد بوصفه الفرصة الأخيرة لإحياء الطاقات الروحيّة للأمّة الفرنسيّة، كما قدّم روبسبيار هذا الدين للأمّة في الجلسة الافتتاحيّة للاحتفال بالذكرى العشرين للـ Prairial (الشهر التاسع في التقويم الجمهوريّ الفرنسيّ) الذي أُقيم في الثامن من حزيران.

فأيان راند Ayn Rand والملحدون الجُدد من أمثال ريتشارد دوكينز Richard Dawkins وسام هاريس Sam Harris هم شواهد مُحكَمةٌ للإلحاد في خدمة الارتكاس الخبيث.

قام جاك لويس Jacques-Louis David بتصميم رقصاتٍ مهرجان باريس، حضرته حشودٌ غصّ بهم المكان، وهو ما يدلُّ على استجابة روبسبيار للاحتياجات القوميّة. افتُتح الحفل بخطاب روبسبيار وحرق لتماثيل اللّاشيء الإلحاد، ليظهر من ورائها تمثالٌ للحكمة. بل حتى نُصِّبَ تمثالٌ لهرقل ليُمثّل قوّة الشعب.

كما خُطِّطَ للعديد من المهرجانات للأمّة من أجل تكريم الموجود الأسمى والشعب الفرنسيّ. وضمّ البند الخامس من الإعلان، والذي اقُتبسَ منه أعلاه، أسماء المهرجانات المُزمع عقدها «بعد أحداث الثورة المجيدة للاحتفال بمناقبها العزيزة على قلوب الرّجال، والأكثر فائدةً لهم، والبركات العليا للطبيعة». ففي سيرته الذاتيّة لروبسبيار، يسرد جورج رودي George Rudé تلك الأحداث كما سردَ سقوط الباستيل، والإطاحة بالنظام الملكيّ، وطرد الجيرونديين Girondins من الاتفاقية. فقد كانت فضائل والبركات الكبرى للطبيعة:

«مرقَّمةً ثلاثة عشر قسمًا، وكلّ قسم لعقدٍ من الزمن، وتراوحت خلال مجموعة غنيّة متنوّعة من العناصر، تتضمّن الوطنيّة، والجمهوريّة، وكراهية الطغاة والخونة، والصداقة، والحبّ، والإخلاص بين الأزواج، وحبّ الأم، وبرّ الوالدين، والمُحسنين للبشرية.»

وأعلنَ روبسبيار أنّ زملائه النّواب والمواطنين قد «تخلّوا عن الكهنة وآبوا إلى الإله». كانت الأخلاقيّة العموميّة مدجّجةً بأساسٍ ميتافيزيقيّ، مؤسّسةً على «حقائق أبديّة ومُقدّسة». فقد يُساهم الدين العموميّ في إلهام النّاس «بأنّ التقدير الدينيّ للإنسان، وبأنّ الشعور العميق بالواجبات، هما الضمانُ للسعادة الاجتماعيّة».

بالنسبة إلى روبسبيار، فإنّ تلك المهرجانات قد عرضتْ «سعادة شعبٍ عظيمٍ، اجتمع معًا تحت نظره [أي الموجود الأسمى] من أجل عقد أواصر أخوّة كونيّة قوية وجميلة، كما تقدم له ولاءً من قلوب نقيّة وحساسّة».

فإن الأهمّ من الإيمان والمُعتقدات الدينيّة بالنسبة للسياسة هو المضمون التقدّميّ لهذه المُعتقدات، أو ما أطلق عليه إسبينوزا الدين الحقّ كونيًّا لـ«العدل والإحسان».

كان الدينُ المدنيّ توحيديًّا ظاهريًا، لكنّه ترك المجال مفتوحًا لتأويل ما هي عليه طبيعة الموجود الأسمى. وقد فسّر روبسابير تلك الطبيعة على نحو إيمانيّ: «إن خالقَ الطبيعة قد ربطَ البشر جميعًا ضمن سلسلٍة ضخمةٍ من الحبّ والسعادة». لكنّ روبسبيار استدعى الطبيعة أيضًا كسلطةٍ في ذاتها: «لندعِ الطبيعةَ تأخذ مرةً أخرى كاملَ بهائها وحكمتها، لندعها تأخذ كل إمبراطوريّتها، هذا لن يؤدي لطمس الموجود الأسمى». كما أنه بدا في بعض الأحيان حلوليًّا: «إن الكاهن الحقيقيّ للكائن الأسمى هو الطبيعة، والمعبد، والكون، وعبادته، والفضيلة».

امتلك زملاءُ روبسبيار الحريّة في تأويل ما يعنيه الموجود الأسمى. فجان جوريس Jean Jaures، الذي كتب تاريخًا اشتراكيًّا للثورة الفرنسية في مطلع القرن العشرين، أوردَ أنّ إله الدين المدنيّ لدى اليعاقبة و(Laveaux) بأنّه إلٌه «مُلتبس» مع الطبيعة.

ويُزعم أنّ هذا «الالتباسَ» مبنيٌ على خطابات وتصريحات روبسبيار ذاته، وإنّ الأمر المثير للانتباه في نقاش جوريس حول عبادة الموجود الأسمى هو الكيفيّة التي دافع بها عن الحاجة لميتافيزيقا سياسةٍ تقدميّة (وللاشتراكيّة على وجه الخصوص) دون الحاجة لقبول تفضيل روبسبيار المخصّص للربوبيّة:

«ربما تكون الاشتراكية قد توصّلت لفكرة واضحة ولوعي بالذّات واضح وعميق، وقد تكون اعترضتْ على كون الإله خارجيًّا وأسمى من العالم الذي استشهدَ به روبسبيار لتحقيق وفرْض العدالة الإنسانيّة الحقّة، ذلك العالم الذي فكّك التضامنَ الإنسانيّ مكانيًا وزمانيًا … بيد أنّ الشيوعيّة لم تكن تمتلك، بعدُ، صياغتها، ولم تكن قادرة على صوْغ وتشكيل ميتافيزيقيا للعالَم».

http://gty.im/599977455

إن كل محاولات روبسبيار لرأب صدوع الأمّة وتوحيدها ضمن دينٍ مدني كانت محاولاتٍ مُتأخّرة. إذ ترك السلطة بعد شهرٍ واحد فقط من حفل تكريم الموجود الأسمى. وفي الوقت الذي انقسم فيه اليعاقبةُ ذاتهم إلى فصائل «طاهرة» وأخرى «فاسدة»، أحيت عبادة الموجود الأسمى، لتبدو أفكار روبسبيار اللاحقة حول الدين المدنيّ أضحوكة تمامًا، بل أسوأ من ذلك؛ وذلك لأنّ روبسبيار كان يؤدي دورَ البابا. تسبّبت سخريتُهم اللاذعة وازدراؤهم لجدّية روبسبيار بالإدبار وغضّ النّظر عن كلّ المكاسب الشعبية التي حقّقها اليعاقبةُ حتى ذلك الهدف.

وأنهى أعضاء التيرميدور Thermidor مصيرَ روبسبيار، وأرسلوه هو ومناصريه إلى المقصلة. وقد حلّ في أعقاب روبسبيار حكومة الاستشاريين Directory بدلًا من المؤتمر الوطنيّ الفرنسي، وقد حافظت هذه الحكومة على مصالح ملكيّة الأغنياء المحدودة على حساب المصالح الشعبيّة لعامّة فرنسا وأفراد الطبقة الدُّنيا sans-culottes.


مات دينُ روبسبيار معه، لكنّ هذا لا يعني أنّ المشاكل التي توجّب على روبسبيار مواجهتها قد انتهت. وسواء أكان ذلك مُتعلقًا بأحقيّة رجال الدين بالهيمنة على العمليّة السياسية، أو بالشوفينيّة الأيدولوجيّة المختبئة خلف رايات التنوير والعقل. فلا تزال العلاقةُ بين الكنيسة والدولة مسألةً ذات شأنٍ وأهميّة.

ولكن في حين أنّ الليبراليّة المعاصرة تفتقرُ إلى المنابع لحلّ المعضلة الثيولوجيّة-السياسيّة التي تواجهها، فإنّ إسبينوزا، وروسّو، وروبسبيار قد يقدّمون حلًّا لنوع العلاقة بين الكنسية والدّولة اللازمة ليس لحركةٍ تحرّريّة فحسب، بل من أجل مجتمع تحرّري للمستقبل.

إن ما يمكننا أنْ نتعلّمه من هؤلاء الفلاسفة ليس تمامًا الحاجة لإقامة دين جديد، بل هو درسٌ علمانيّ تمامًا حول العلاقة بين الاعتقاد والسلطة الشعبية. يشمل هذا الدرس الأبعاد الفلسفيّة والأخلاقيّة لسياستنا، أو كيف يمكن لأخلاقيّةٍ كهذه أن تُنَظم لتعزيز نضال المُضطهدين، في حين نحترم ونتقبل المُعتقدات الدينيّة.

أمّا بعد، فإن الأهمّ من الإيمان والمُعتقدات الدينيّة بالنسبة للسياسة هو المضمون التقدّميّ لهذه المُعتقدات، أو ما أطلق عليه إسبينوزا الدين الحقّ كونيًّا لـ«العدل والإحسان».


* كلّ الأسماء التي وردت بالنّص الأصليّ أوردتُ صيغتها الإنجليزيّة كما هي، كما أوردت المقابل الأصليّ للمفاهيم التي انبنى عليها المقال والمصطلحات الأساسيّة. وأشيرُ إلى أنّ كلّ معكوفتين على هذه الشاكلة [ -م] هي منّي كتدخّل طفيف لتوضيح فكرةٍ أو الإحالة إلى ضمير قد يغيب على القارئ، والميم بالمعكوفتين اختصارًا للمترجم.

المراجع
  1. Revisiting the Cult of the Supreme Being