لقد وضعت أمي من بطنها لحظة ميلادي توأمين: أنا والخوف.

هكذا كان تعليق الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز المولود في ويستبورت، بمقاطعة ويلتشير في إنجلترا، على حدث ميلاده،حين لفظته أمه قبل الأوان عندما سمعت بقدوم الأسطول الإسباني (الأرمادا) لغزو شواطئ إنجلترا في الخامس من أبريل/نيسان من عام 1588.

تشكّلت أفكار هوبز بعد حدث ولادته العجيب خلال ما خبره وعايشه في النصف الثاني من القرن السادس عشر على مر ثلاثة عقود متصلة. كانت حرب الجميع ضد الجميع في أوروبا، حيث رافقت نشأة هوبز نشأة الدولة الحديثة هناك، فقد عاصر حرب الثلاثين عامًا الدامية منذ اندلاعها وحتى نهايتها بعد عقد «صلح ويستفاليا» الذي تأسس معه الإطار القانوني والسياسي للدولة الحديثة. وعن الدولة الحديثة، قدّم هوبز إحدى أقدم وأهم الأطروحات النظرية عنها عبر كتابه الشهير «الليفايثان».

قدّم هوبز في هذا الإطار تصورًا للدولة بوصفها وحشًا أو «إلهًا فانيًا» على حد تعبيره، و«في هذا الإله يكمن جوهر الدولة» [هوبز، ص180]. شبّه هوبز هذا «الإله الفاني» بالوحش التوراتي المعروف بالليفايثان، وهو وحش مذكور في «سفر أيوب» بالعهد القديم يخرج من جوف البحر.

في الحقيقة، يثير هذا التشبيه المبكر للدولة الحديثة بوحش أسطوري، الكثير من التأملات الدينية والفلسفية التي تجعلنا ربما نعيد النظر بأثر رجعي في البعد الديني المتواري لتلك الدولة، وهو البعد الذي تم تخطيه دائمًا في التناول المستقر لمسألة الدولة الحديثة من خلال السردية العلمانية السائدة للتاريخ الحديث.


الوحش القادم من البحر

عندما نقرأ تاريخ تلك المرحلة التي عاشها توماس هوبز وتبلورت خلالها أفكاره ورؤاه السياسية، يمكننا أن نفهم بسهولة كيف ارتبطت نشأة الدولة الحديثة بقضية احتكار العنف واقترن مفهوم السلطة بالتوحش. فقد تم النظر إلى الدولة في أوروبا مجازيًا كتنين أو وحش مخيف، لذلك لم يكن غريبًا أن تكون غالبية رموز وشعارات الأسر الملكية والدول الأوروبية في ذلك الوقت عبارة عن صور وأشكال لجوارح وضوارٍ مفترسة كالأسود والنمور والنسور، حيث كان الاعتقاد المفترض في السلطة آنذاك هو أن تقدم نفسها كوحش كاسر في الأخير.

ولعل تشبيه هوبز للدولة بالإله الفاني فى هذا الإطار يستدعى التنظيرات المحدثة في علم الاجتماع السياسي التي تتناول الدولة والمجال العام الحديث كمتخيلات جمعية بالأساس كأطروحات إرنست غيلنر وبول ريكور وبندكت أندرسن على تباينها فى هذا الصدد، حيث يحمل وجود تلك الدولة في صميمه جانبًا دينيًا تخيليًا يتمثل في الإيمان الاجتماعي العام بها الذي تتلاشى تلك الدولة وتنهار بسقوطه وسقوط الأدوات التي تضمنه.

تحمل الدولة الحديثة بذلك طابعًا ميتافيزيقيًا في داخلها، تقترب من خلاله بصورة أو بأخرى من آلهة القدماء التي كان وجودها هي أيضًا عبارة عن وجود معنوي ورمزي وغير مادي في مضمونه، لكنّها كانت رغم ذلك تملك سلطانًا فعليًا على أرض الواقع وفي حياة البشر، تستمده من مجرد فكرة الإيمان بها.

من جهة أخرى، فإن تشبيه هوبز للدولة أيضًا بوحش الليفايثان البحري التوراتي بالتحديد، يستدعي في الذهن إحدى أشهر النبوءات في سفر الرؤيا بالعهد الجديد الذي يتحدث فيه يوحنا اللاهوتي عن منام رأى فيه وقائع وأحداث غرائبية، منها موقف خاص يصف فيه مشهد وحش قادم من قلب البحر، ذي رؤوس عديدة، وله عدة قرون، وفوق كل قرن منها تاج، وتتكون أعضاء جسده من خليط من أعضاء عدة حيوانات جارحة مختلفة كالتي نجد رسومها على شعارات بعض الأسر الملكية في أوروبا وبعض الدول الحديثة، وقد «أُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ»، ويسجد له كافة ساكنة الأرض إلا قلة قليلة ممن كتبت أسماؤهم في سفر الحياة.


الطغيان الرمزي للدولة

في إطار تناول العهد القديم لعلاقة البشر بأوطانهم ودولهم التي قد تصل فى كثير من الأحيان، لاسيما بعد ميلاد الدولة الحديثة، إلى درجة سفاحية تشبه عقدة أوديب، يلاحظ إيريك فروم أن المطالبة بقطع روابط التراب تتخلل العهد القديم كله، فيقال لأبراهام (إبراهيم) أن يغادر بلده ويصبح هائمًا، ويكمن شرط دعوة بني إسرائيل إلى أن يكونوا شعب الله المختار لاحقًا في الهيام في الصحراء أربعين سنة.

يقول فروم أيضًا في هذا السياق إن المسألة المركزية في تعاليم الأنبياء بعد استقرار اليهود في موطنهم الجديد، وتحولهم إلى العبادة السفاحية للتراب والأوثان والدولة، كانت هي محاربة تلك العبادة السفاحية، ليعظوا بدلاً من ذلك بالقيم الأساسية المشتركة بين كل البشر كقيم الحق والعدل، ويهاجموا الدولة والقوى الدنيوية التي تقصر عن تحقيق هذه المعايير، ويصل فروم من خلال ما سلف إلى أن النتيجة المنطقية لهذا المبدأ الموجود بالعهد القديم كانت هي دخول اليهود في المنفى والشتات فى أرجاء العالم، حتى يكفوا عن العبادة الوثنية للأرض والدولة.[فروم، ص154]

بالرغم من ذلك المنطق الواضح للعهد القديم، والمقاصد الدينية اللاحقة للعهد الجديد، لم تتقلص قوة الدولة مع ذلك في الاجتماع اليهودي والمسيحي تاريخيًا، بل زادت مع الوقت نفاذًا ورسوخًا، إلى أن صارت إلى ما هي عليه اليوم، كمحتكر رئيسي للمشروعية وللقوة القاهرة في الاجتماع الحديث. وأدى ذلك التحول في الأساس الذي كانت تقوم عليه الدولة، بعد عقد صلح ويستفاليا، إلى صيرورة الدولة بالنهاية في غنى عن أي مرجعية تسند شرعيتها من خارج مؤسساتها، بل أضحت في بعض الحالات هي التي تعطى للدين نفسه شرعية تأويله وممارسته في الأخير.

نجد على مستوى آخر في الفلسفة الحديثة مَن نظَر إلى الدولة الحديثة في مراحلها المبكرة، كمتعالٍ يجسد الفكرة الإلهية المقدسة على الأرض، بل ويرى أن قيمة الإنسان بحد ذاته تتأتى من انتسابه المعنوي لها، كهيجل والعديد من الفلاسفة الكلاسيكيين الألمان الآخرين كفيتشه وشوبنهاور. وقد انعكست تلك المفاهيم الفلسفية عمليًا في الفكر القانوني والسياسي الحديث في الأخير، من خلال مبدأ السيادة، الذي يمنح الدولة حضورًا شبه كلي على كل شبر من أراضيها، وسلطة مطلقة على كل رعاياها، وهو ما جعل الدولة ذاتها هي مصدر المشروعية القانونية، وليس الدين كما كان الوضع في السابق.

بجانب ذلك أسهمت الجهود النظرية التي فصلت فكرة الدولة عن مجمل إرادات أفراد السلطة أو الشعب بداخلها، لفلاسفة كهوبز وهيجل على سبيل المثال، في إعطاء الدولة بالنهاية حياة ذاتية خاصةً على المستوى الرمزي وشخصية معنوية مستقلة. وبعد أن كانت فكرة الدولة تاريخيًا بشكل عام مرتبطةً بشخص الحاكم وسلالته، عملت تلك الشخصية المعنوية المكتسبة للدولة الحديثة على إكساب مفهومها فى الأخير طابعًا ترانسندنتاليًا يتجاوز حاكميها، ما جعلها تشكل بنهاية المطاف بديلاً تاريخيًا عن الدين للإله.

وكما كانت للآلهة القديمة تماثيل من الحجارة أو الذهب تصورها فى عالم المشاهدة وتنقل وجودها المعنوى إلى حيز الوجود المادي، تماهت الدولة الحديثة مع مفهوم القومية بكل حمولاته المعنوية المرتبطة بالفخر والكبرياء الهوياتي.

تماهت كذلك الدولة مع مفهوم الوطن بحدوده الجغرافية وما تحمله له مشاعر الناس من ارتباط وحنين تقليدي، ليؤدي تسربل الدولة الحديثة بتلك المفاهيم التي أحاطت بها من خارجها، إلى أن تحولت بالنهاية لامتداد طبيعي لفكرة الطوطم أو الوثن. ولعل هذا يتجسد بشكل كبير في فكرة العلم الوطني، شعار الدولة الحديثة، الذي يتم التعامل معه أحيانًا بأشكال طقوسية لا تخفى؛ كعملية تحية العلم وما يحيطها من وقار وهيبة وطابع شعائري واضح.

كما يمكن بشكل عملي رصد ذلك التبدل العاطفي والإيماني الذي حلت بموجبه الدولة الحديثة محل الإله والدين في الأزمنة الحديثة، عبر الفن والشعر الذي تحول فى جزء كبير من تعبيره القديم من الابتهال والترنيم الديني بحب الإله، إلى الإنشاد و الغناء بوجدان حار وشبه ديني للوطن أو للقومية.

تقول كارين أرمسترونج في هذا السياق، إنه إذا ما عرفنا عمومًا ما هو مقدس على أنه الشيء الذي نحن مستعدون للموت فى سبيله، فإن ما سماه بيندكت أندرسون في كتابه «الجماعات المتخيلة» بالمجتمع الخيالي للأمة جاء بالنهاية خلال الزمن الحديث ليحل محل الدين، وهو ما أفضى بدوره إلى أن أضحى الموت في سبيل الوطن أو القومية خلال القرون الثلاثة الماضية يحتل الموقع الشاغر السابق للموت في سبيل الإله والعقيدة.[ذوات، عدد 6]

وقد أدى انتقال السلطة من فكرة الهيمنة ذات الطبيعة و المصدر الديني إلى فكرة بسط السيادة على المجال العام، إلى دخول الفكر البشري بالنهاية في مستوى غيبي آخر لفهم حقيقة المؤثرات الخفية في التاريخ، حيث عوضًا عن الآلهة والملائكة والشياطين، صار ما نسميه «البنية» بحد ذاتها فاعلاً تاريخيًا جديدًا، تمتع بمستوى من التعالي والميتافيزيقية، تمامًا كالفاعلين القدامى الآتين من عالم الغيب، وإن صار ذلك الفاعل الأخير – للمفارقة في هذه المرة – أكثر خفاءً وتواريًا.


موت الإنسان و موت الواقع

في تلك الأثناء حلّت الفلسفة تدريجيًا محل اللاهوت، وشهدت الأنطولوجيا (مبحث الوجود في الفلسفة) منعطفًا جديدًا توارت فيه الميتافيزيقا والمسائل المرتبطة بها، وحلّ الإنسان والمباحث المتعلقة به محلها.

مع كل هذه التحولات في طبيعة السلطة والمجتمع والمعرفة، تشكلت بالنهاية الأيديولوجيات الحديثة التي سيطرت على العقل الإنساني فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين. عكست تلك الأيديولوجيات بوضوح هيمنة فكرة «البنية» على الإنسان الذي ظل يرزح تحت ثقل وطأتها حتى اكتشفت الفلسفة الحديثة بالنهاية أنه – أي الإنسان – قد مات بالفعل بعد أن عانى في سنواته الأخيرة من الاغتراب وفقدان المعنى. أصبح الحديث يدور لا عن موت الإله وفق ما كان يقول نيتشه فحسب، بل صار الحديث لاحقًا هو عن موت الإنسان نفسه، الذي أصبح موقع المركز الذي كان يشغله هذا الأخير سلفًا فضاءً خاويًا بعد ذلك، لتتشكل من خلال تلك الحالة من الفراغ المركزي حالة ما بعد الحداثة الراهنة.

وبموت الإنسان، الفاعل التاريخي الأساسي، مات الواقع كما يقول بودريار وغدا تمثيلات لا تحيل إلا إلى تمثيلات أخرى، وبذلك اندرست فكرة الحقيقة ذاتها، وصارت نصوص اللغة فى الأخير قفرًا خاليًا من المعنى (التفكيكية)، وانحسر المعنى العام بالنهاية عن الحياة البشرية كما ذهب تيري إيجلتون، وأضحى الإنسان بعد أن مات ومات الواقع من حوله شبحًا واهنًا يتساءل في حيرة قلقة: هل العالم الذي احتوى وجوده الآفل ذات يوم ما زال على الأقل حقيقة مستمرة، أم أنه أصبح بالنهاية مجرد ضرب من الوهم كما تناولت ذلك أفلام هوليود السينمائية كسلسلة أفلام The Matrix الشهيرة، وفيلم Inception للكاتب والمخرج المعروف كريستوفر نولان؟

لقطة من مشهد الختام في فيلم «Inception»
لقطة من مشهد الختام في فيلم «Inception»

لعل ذلك الموجز التاريخي يساعدنا، بشكل أو بآخر، أن نفهم كيف بدأت النهاية الرمزية لإنسان هذا الزمان مع بداية الدولة الحديثة « وحش الليفاثيان»، الذي التهم من صممه في الأخير، وكان أشبه ما يكون في ذلك بالمسخ الذي قام بتخليقه فيكتور فرانكشتين في رواية الأديبة البريطانية الكلاسيكية ماري شيللي، الذي قام بعد أن دمر حياة مخترعه تمامًا بقتله شخصيًا في النهاية.

المراجع
  1. توماس هوبز، الليفاثيان: الأصول الطبيعية و السياسية لسلطة الدولة. ترجمة: وديانا حبيب حرب وبشرى صعب. هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، بالتعاون مع دار الفارابي، الطبعة الأولى، يناير 2011).
  2. إريك فروم، التحليل النفسي والدين. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي. (أزمنة للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، الطبعة الأولى، 2011)
  3. كارين أرمسترونج، أسطورة العنف الديني. ترجمة: محمد معاذ شعبان. (مجلة ذوات، عدد 6، 2015)