محتوى مترجم
المصدر
The American Interest
التاريخ
2014/03/17
الكاتب
DAVID P. GOLDMAN
إنّ ليبراليي وعلمانيي اليوم هم في الواقع أحفاد المتشددين البروتستانت في القرن الماضي الذين كان شغلهم الشاغل مسائل الخطيئة والعبوديّة في الكنيسة السياسية.

جوزيف باتوم: «عصرٌ مُقلِق: أخلاق ما بعد البروتستانتية وطبيعة أمريكا An Anxious Age: The Post-Protestant Ethic and the Spirit of America»


إنَّ أكثر ما يميز الليبرالية الأمريكية اليوم هو وصفها بأنها دين علماني: له نصوصه المقدسة، تابوهاته/محرَّماته، حروبه المقدسة، ومحاكم التفتيش الخاصة به. في الوقت نفسه، فإنَّ قواعده السياسية التي يقف عليها هذا الدين اليوم يمكن تتبُّع جذورها التي تعود إلى الليبرالية البروتستانتية في القرن الماضي. المحافظون، كالعادة، يسخرون من الدين الليبرالي الجديد مؤكِّدين أنه نسخة رديئة من الدين الأصلي.

لقد قامت العلمانية ونجحت على أساس ديني، وهذا الطرح ليس شائعًا في فهم العلمانيّة، رغم أنه طرحٌ قويٌ.

على النقيض من ذلك، يتناول جوزيف باتوم «الدين العلماني ما بعد البروتستانتي» بشيءٍ من التعاطف، مؤكدًا أنه اكتسب قوته واستمراريته في السلطة لأنه أعاد صياغة الخطوط الرئيسية للبروتستانتية القديمة في هيئة أقسام/فئات ذات طابع مسيحي دنيوي: مُناهِض للعنصرية، مناهض للتمييز الجنسي، مناهض لعدم المساواة، وهكذا. لذلك، فإن ما يربط الآن بين أتباع البروتستانتية الراحلة، يختم باتوم، هو الشعور بالقداسة؛ لكن ليست القداسة بمفهومها القديم بل قداسة تسعى لحماية الشخصانيّة والفردانية عبرَ التمسُّك بمواقف سليمة صحيحة في القضايا الاجتماعية والسياسية. هذا لأن الدين العلماني الجديد متغلغل في مسام الحياة اليومية تمامًا، لذلك فإنه يحافظ على يقين الخلاص وهالة روحية لا تبلى. لقد قامت العلمانية ونجحت على أساس ديني، وهذا الطرح ليس شائعًا في فهم العلمانيّة، رغم أنه طرحٌ قويٌ.

ككاثوليكي وَرِع، قد يكون باتوم أفضل كاتب أمريكي يكتب في الدين. صحيح أنه من الصعب التنبؤ بما يفكر فيه، فمثلًا، عندما كان باتوم رئيس تحرير جريدة «فيرست ثينجس First Things» الدينية الشهرية المحافظة، وجَّه صدمة للعديد من زملائه عندما صرَّح في مقال واسع الانتشار والقراءة أن الكنيسة الكاثوليكية خسرت المعركة ضد زواج المثليين، وعليها الآن المباشرة في قضايا أخرى. ما عبَّر عنه باتوم هنا ليس وجهة نظره بداعي الهرطقة، لكنه كان يُوضِّح تراجع نفوذ الكنيسة في العديد من القضايا الجنسية.


الإنجيل الاجتماعي: ميثاق الثقافة الأمريكية

ثقافة الإجماع الأمريكية، يجادل باتوم، هي بلا شك امتداد للملمح الرئيسي للبروتستناتية القديمة، وبشكل خاص «الإنجيل الاجتماعي» الصادر عن ولتر راوشنبوش قبل الحرب العالمية الأولى، واعتمدته الكتل الليبرالية في الطوائف الرئيسية خلال عام 1920. وعلى الرغم من أن هذا الإجماع قد يبدو عاديًا للوهلة الأولى، إلا أن الطريقة التي يعرضه بها باتوم جديدة تمامًا. كمفكر ديني عميق، يفهم باتوم الحياة الروحانية للدين من الداخل. فهو لا يولي اهتماما بالمظاهر الخارجية والدوغمائية [التعصُّب والإيمان غير العقلاني] الظاهرية، بل بالجوهر الداخلي. لذلك فإن هذا النهج يؤدي به لبلوغ مسارات يتعذر بلوغها في مسألة العلمانية. لذلك، فإن الكتاب قد يكون مزعجًا ليس فقط لـ «أبناء ما بعد البروتستانتية الأمريكية»، لكن أيضًا للمعارضة المحافظة؛ فقد انتقلت المعركة إلى ساحة بعيدة كليًّا عن تلك المفاهيم المعتادة في الجدالات السياسية اليومية.

يُورد باتوم في كتابِه:

«نحن نعيش في عصر روحاني. بعبارة أخرى، نحن نصدق أننا محاطون بكائنات لها قوى صوفية وسحرية. فعندما نعيش مع قوى ثقافية عملاقة تتنازع في السماء، وهذا الحسّ الأخلاقي داخلنا الذي يدفعنا للتساؤل عمّا إذا كنّا أُناسًا طيبين أم لا، عما إذا كان سيأتينا الخلاص أم لا – كل تلك الأسئلة أتت إلينا في المقام الأول عن طريق تلك القوى. نحن نعيش في عصر روحاني تحولت فيه السياسة إلى سياسة خلاصيّة [سوتريولوجيّة: أي متعلقة بعقيدة الخلاص]، بحيث تعتبر الطريقة التي نُدلي بها بأصواتنا هي الطريقة التي سيتم بها خلاصُنا».

لقد حلَّت الأفكار السياسية والاجتماعية محل القوى الميتافيزيقية ووُلِدت من الجوع الديني لفهم أكبر للعالم، لكن هذا الجوع تكيف مع العصر الذي يهنِّئ نفسه على هروبه من قيود الدين القديم.

يمكن اعتبار هذا صفعة بلاغيّة على وجه الليبرالية الدوغمائية ببساطة. لقد أرادنا باتوم أن نفهم أن الحياة الجوانيّة للأمريكيين لا تزال ذات تجارب روحانية كثيفة، وأنّ تجربة ما بعد البروتستانتية هي امتداد لعوالم العصور الوسطى الخارقة الخيالية، لكن بكيانات روحية جديدة حلَّت محل شياطين وجانّ العالم القديم: «لقد حلَّت الأفكار السياسية والاجتماعية محل القوى الميتافيزيقية الخارقة […] وُلِدت من الجوع الديني القديم لفهم أكبر للعالم؛ فهم ما وراء الأخذ والعطاء اليومي بين البشر، لكن هذا الجوع تكيف مع العصر الذي يهنِّئ نفسه على هروبه من العديد من قيود الدين القديم»، فما يسمِّيه باتوم: «عودة السحر والروحانية الكثيفة للواقع» هو موضوع الكتاب، وهو سعي مُجهِد، حيث أن إثبات أن مَن يُصنِّفون أنفسهم بأنهم عقلانيون، هم في الواقع يتمتعون باعتقاداتٍ راسخة على نفس مستوى الاعتقادات القديمة في السحر والشعوذة، لكنها اعتقادات حديثة. ففي عصر ما بعد البروتستانتية، نجد أنّ «القوى الاجتماعية تتمتع بالتعصب، السلطوية، الفساد، شمولية الرأي، النزعة العسكرية والقهر كما هي على مر التاريخ» ضد أولئك الذين يجب ضبطهم وتنظيمهم:

«هذه الفظائع لها تقريبًا وجود ميتافيزيقي في العالم، وقد يعتقد «ما بعد البروتستانتيين» أن أفضل طريقة لتعريف أنفسهم هو أن يعلنوا معارضتهم لمثل هذا التعصب والقهر – فيصبح فهم مصطلحات كالخير والشر غير قائم في المقام الأول على أساس السلوك الشخصي للأفراد، بل بتفاعلنا مع حالة اجتماعية معينة. الخطيئة، مثلًا، يجب أن تبدو حقيقة اجتماعية، وعلى الفرد أن يظن أن خلاصه الشخصي سيكون عبر إدراك هذه الحقيقة، فهو يدرك ويرفض هذا الشر الذي يُخيِّم على المجتمع».

إن الخطوط الرئيسية للبروتستانتية التي هيمنت على الحياة العامة للأمريكيين، فيما مضى، لم تمُت؛ لكنها تحولت لعقيدة خلاص علمانيّة.

فقد تم إعادة تعريف الرغبة في الخلاص من الخطيئة بوصفها «حقيقة اجتماعية»، وهذا ما يُعرَف به «ما بعد البروتستانتيين» كأبناء المتشددين. وهذا بالتحديد ما يجعل من كتاب باتوم الجديد مساهمة لا تقدر بثمن لفهم الإطار العقلي للولايات المتحدة، موضِّحًا بالتحديد: ما هو الدين العلماني؟، وكيف يُشكّل هذا الدين الحياة الروحية لمعتنقيه؟، فهو يكشف بمهارة عن الغشاء الرقيق، في الفكر الليبرالي، الذي هو في حقيقته امتداد للوعي الديني البروتستانتي. فالخطوط الرئيسية للبروتستانتية التي هيمنت على الحياة العامة للأمريكيين، فيما مضى، لم تمت، لكنها تحولت لعقيدة خلاص علمانيّة. وقد حدث هذا الأمر بفضل تحول فكرة الذنب من كونها أمرًا شخصيًّا لأمر اجتماعي في نسخة ولتر راوشنبوش «الإنجيل الاجتماعي». في هذا الصدد كتب باتوم: «أن طبقة الصفوة الأمريكية الجديدة هي نفسها طبقة الصفوة الأمريكية القديمة: النخبة المسيحية البروتستانتية الأمريكية، في السراء والضراء، بثقتهم الأخلاقية ويقينهم الروحي. لقد تم تجريدهم فقط من غطائهم المسيحي بمرور الأيام». فبتعريف الخطيئة على أنها الذنب الاجتماعي، خلق راوشنبوش شيطانًا جديدًا ومفردات جديدة للخلاص. ووفقًا لباتوم، فإن مطلب راوشنبوش الرئيسي هو «النظر للشر الاجتماعي على أنه شر حقيقي فعلًا، ويكأنه قوى مِن السحر المظلم الخارق للطبيعة». فيسوع، كما أورد راوشنبوش، «تحمل وزر الخطايا العامة للمجتمع حرفيًا، وهي خطايا مرتبطة بشكل مباشر بالذنوب الفردية الخاصة».


الشخصية ما بعد البروتستانتية

يتضمن الكتاب العديد من إسكتشات لـ «صبيان رمزيين poster children» لما بعد البروتستانتية كما يتخيَّلهم باتوم: طبيب نفسي من ولاية أوريغون، صانع الجيتار في ولاية نيويورك، ناشط في مجال حقوق المثليين من ولاية أوستن، الذين يرى باتوم في مراوغاتهم وشذوذهم، «الكثافة الروحية Spiritual Density» التي أدت لترسيخ ما بعد البروتستانتية كدين مستقر مثله مثل البروتستانتية. وقد يبدو اختيار الشخصيات هنا اختيارًا تعسفيًا للوهلة الأولى، لكن القاسم المشترك بين تلك الشخصيات هو استمرارية البروتستانتية في شكل نظام علماني.

عبر تأمُّل باتوم للثقافة الكاثوليكية التي خفتت، نُمسِك بوضوح الحياة الروحية اليومية المُفعمة بالحيوية، والتي استبدلتها التَقَوِيَّة/البيوريتانية الجافة، بـ الإنجيل الاجتماعي.

عندما نعي أصولهم البروتستانتية، يُورِد باتوم، «يمكننا أن نستشف الطريقة التي يرون بها أنفسهم ويرون بها العالم من حولهم. فهم بنسبة كبيرة ليبراليون سياسيون، يُفضِّلون مظلة الحكومة عوضًا عن مظلات الجمعيات الأهلية (مثل الأسرة النموذجية في الكنائس التي خلفوها وراءهم) لعلاج قضاياهم الاجتماعية. إلا أنهم يظلُّون متزمِّتين وطُهرانيين/بيوريتانيين للغاية مُطلِقين أحكامهم طوال الوقت، ففي مسألة كالصحة مثلًا، وهذا أقل ما يقومون به، فهم على أتم استعداد لاستخدام القانون لإجبار الناس على الخضوع للنظام الصحي الذي يرونه سليمًا».

يقارن باتوم بين الصبيان الرمزيين لما بعد البروتستانتية وجيل من شباب الكاثوليكية المهمِّين، مثلهم مثل «سَنونَو سان خوان كابيسترانو» العائدين للعش. وعبر تأمُّل باتوم للثقافة الكاثوليكية التي خفتت منذ 1940 ولـ 1950، نُمسِك بوضوح ما يُطلِق باتوم عليه «الميتافزيقيا الكثيفة»، الحياة الروحية اليومية المُفعمة بالحيوية، والتي استبدلتها التَقَوِيَّة/البيوريتانية الجافة [نزعة دينية متطرِّفة]، بقواها النافذة في البروتستانتية، بالأنجيولوجيا [عِلم الملائكة] والديمنولوجيا [علم الشياطين] كما وردوا في الإنجيل الاجتماعي. وبمهارة شديدة، يوضح باتوم وصفًا حيًا لأعماق الكنيسة الكاثوليكية قبل المجمع الفاتيكاني الثاني:

لقد فقدت الكنيسة الكثير مِن زخم الحياة اليومية، وأصبح من الصعب على السنونو العائد، الاستقرار في أعشاشه [عودة طيور السنونو إلى أعشاشها في كنيسة سان خوان كابيسترانو، يعتبرها البعض مُعجِزة لأنها تحدث في عيد القديس يوسف، 19 مارس، من كل عام]. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على الكاثوليك، بل إن الحياة الروحية لليهود الأرثوذكس لا زالت شديدة الزخم وتزدهر في الولايات المتحدة في ظل ممارسة «الميتزفة Mitzvoth» [القانون اليهودي بالعبرية]، في حين تخسر روابط اليهود في الحركات المحافظة والداعمين لليبرالية بروتسانتية أعضائها بشكل خطير.


من الروحانية الدينية إلى الدين العلماني البارد

اكتشاف إلى أي مدى يشكل الدين المجتمع لا يتسنى لنا بقراءة العقيدة بل بالنظر في طقوس الحياة اليومية، يجادل باتوم. وفي خضم وَهَن الكنيسة الكاثوليكية المستمر، فإن اعتماد «الحق الطبيعي» في العقيدة الكاثوليكية مِن قِبل بعض المحافظين يكون مجرد عزاء بارد. يتناول باتوم «جورج بوش» وبطانته بشكلٍ حاد. ففي مراجعة لعناوين الصحف في بداية الفترة الثانية من حكم بوش، يلاحظ باتوم: «لقد أعطى جو التدين الذي خيم على المناسبة نوعًا من الطمأنية لمؤيدي الرئيس البروتستانتين: الصلوات، وجوقة غناء: «إله آبائنا» [نشيد مسيحي كُتِب في الذكرى المئوية للاستقلال الأمريكي] التي قدَّمتها البحرية وهم مطأطأي الرؤوس. لكن «إله أولئك الحكماء ليس نفسه الإله الذي سيعود بصحبته الناس للمنزل. لقد أصبح خالق الكون المادي عِوَضًا عن المخلص؛ وهذا ليس نوع الإيمان الذي يتخيل مسيحيو أمريكا أن رئيسهم يدين به».

لا يذكر باتوم تأثير الحروب على الدين الأمريكي إلا بشكل عابر. إلّا أن مزيدًا من التركيز على العوامل الخارجية التي شكلت الحياة الروحية للأمريكيين يُعزز قضيَّته. فقد قدَّمت أمريكا دماء 700 ألف مدني في الحروب الأهلية، وهذا ما لاحظه لويس ميناند في كتابه «النادي الميتافزيقي The Metaphysical Club» الصادر عام 2002 حول التجربة المروِّعة لنُخب بوسطن في الحرب الأهلية والذين أقنعوا جيل «وليام جيمس» و«أوليفر وندل هولمز الابن» أن لا أمر كان يقينًا أبدًا كالحُجج التي بمقتضاها قاموا بعمليات الذبح في شبابهم. والسؤال الآن: هل ظهر الإنجيل الاجتماعي كنتيجة لفناء التَقَويين المتشددين في الحرب الأهلية؟.

«إنّ أحكام الرب حقيقة وعادلة كلها» كما قال أبراهام لينكون. ولكن بنهاية القرن، ظلت أفكار البروتستانتية الرئيسية لإصلاح العالم مبنية على انحيازاتها الخاصة.

الانزلاق المفاجئ من صدارة المسيحية الليبرالية إلى ما بعد البروتستانتية العلمانية حدث عندما تحطَّمت الثقة في المسيحية الليبرالية أمام أخلاقيات الحرب الباردة الرثَّة.

وعلى نفس المنوال، فإن الانزلاق المفاجئ من صدارة المسيحية الليبرالية إلى ما بعد البروتستانتية العلمانية حدث عندما تحطَّمت الثقة في المسيحية الليبرالية أمام أخلاقيات الحرب الباردة الرثَّة. بعد عقود من الزمن، قطعت خيبة أمريكا في العراق وأفغانستان أوصال المحافظين المسيحيين من الجذور. فقد انتقدت عشرات الكتب تمدُّد الثيوقراطية [الحكم الديني] خلال إدارة بوش، وقد بالغ اليسار في تقدير تأثير المحافظين النيو – كاثوليكيين، كمُنظّر الحق الطبيعي «مايكل نوفاك» كاتب السيرة الذاتية للبابا جورج ويجل. وهنا يظهر باتوم معارضًا بامتعاض: «لو أن المحافظين الجدد الكاثوليكيين أصبحوا من مفكري أمريكا المعروفين، وأصبحوا يتحكمون في كل شيء، لماذا خسروا انتخابات الكونجرس في 2006 خسارة مدوية؟». لا شيء أفشل من الفشل: لقد كانت خسارة المحافظين الجدد الكاثوليك مدوِّية لأن سياستهم كانت كارثية.

كذلك، لم يكن لدى الإنجيليون ولا الكاثوليك، سواء بشكل منفصل أو حتى في تحالفاتهم العابرة غير المستقرة، الوسائل الكافية لزحزحة البروتستانتية من مركز السلطة الثقافية، يجادل باتوم، حتى أن كليهما الآن في موقف دفاعي كجيل من المراهقين في سن البلوغ. ولكن لماذا؟، هل يكون سبب هذا أن ما تنطوي عليه ما بعد البروتستانتية لا يزال قويًا؟، أم أن رهان الإنجيليين والكاثوليك على أجندة الحريات التي وعد بها بوش كان رهانًا خاسرًا؟، يترك باتوم السؤال دون إجابة.


هل تستمر حقًّا ما بعد البروتستانتية؟

«لم يكن أي مِن شالات الكهنة وبدل وأردية القداس المزخرفة، طقوس الصلاة وبركات الماء المقدس، الكهوف التي يصطف فيها المصلين بجانب الشموع في الكؤوس الحمراء، الدرجات الخاصة التي يعتليها كبير الكهنة، خِمار الأخوات، الجَدَّات الأسبانيات صغيرات الحجم في أوشحتهن السوداء يغمزن ويلمزن، فتيات المناولة الأولى في ملابسهن البيضاء كالعرائس، التمتمة في الطقوس الأيرلندية، والجهر بالأصوات في الاحتفالات الإيطالية، يوبيل الباب المقدس، الكُتيِّبات الصغيرة عن الفلسفة اللاهوتية، فِرسان كولومبوس بقُبَّعاتهم المنسقة وسيوفهم الهزلية، أجراس الكنيسة في المهمات الصغيرة، ترتيلات كورس الكنيسة؛ أقول: لم يكُن أيّ مِن هذا هو الكنيسة فعلًا، بل إن بعض تلك الممارسات شوش على الكنيسة، وقد كان قرار إصلاح الفوضى التي سببتها تلك الممارسات ذكيًا ومنظمًا ومقصودًا، لقد كان الأمر محض جنون، فقد كانت تلك الثقافة متغلغلة في شقوق وزوايا وأركان الكنيسة الكاثوليكية، ولم تكن الكنيسة مُدرِكة إلى أي مدى تحتاج تلك الممارسات إلى الاندفاع حول الُمصلِّيات والرفرفة حول الكاتدرائيات».

لقد تم نزع فكرة الخلود الإلهي من الروحانية الأمريكية، مقابل اعتناق أشكال متعددة من ثقافة اللاموتى (الزومبي).

لكن ما مدى متانة ثقافة ما بعد البروتستانتية؟، إن إسكتشات باتوم لأطفال ما بعد البروتستانتية لم تأت على ذكر البعض. فمعدلات الخصوبة بين أعضاء الكنائس البروتستانتية منخفضة مثلها مثل النسبة بين اليهود التقدميين، حتى قد يظن المرء أنها ثقافة جيل واحد فقط لن يكون له امتداد. فأطفال أطفال ما بعد البروتستانتية يشغلون أنفسهم الآن بممارسة اليوجا، الأطعمة العضوية، والهُويات الجنسية بشكل كبير (فيسبوك الآن يقدم فئات جنسية عدة للاختيار من بينها)؛ فالثقافة الشعبية تحتضر. والتعددية التي قدمها الإنجيل الاجتماعي تبدو مميَّزة مقارنة بما تملأ به أمريكا عالمها الميتافيزيقي اليوم. فالأمريكيون يقضون المزيد من الوقت اليوم مع الوحوش الخارقة للطبيعة، الزومبي، مصاصي الدماء والشياطين أكثر مما فعل مسيحيو أمريكا في أي وقت مضى. ففي 2012، كان واحد من بين كل ثمانية أفلام أمريكية فيلم رعب. قبل ذلك بعشر سنوات، كان واحد من كل 25 فيلمًا هو فيلم رعب. لقد تم نزع فكرة الخلود الإلهي من الروحانية الأمريكية، مقابل اعتناق أشكال متعددة من ثقافة اللاموتى (الزومبي).

هذا هو ما يجعل أطروحة جوزيف باتوم مُقلِقة للغاية تحديدًا؛ فهو لا يبحث عن طريق العودة، حتى أن الفصل الوحيد الذي قد نلتمس فيه بعض التفاؤل، ويحمل مسحة صوفية، هو الذي يتناول تأثير البابا يوحنا بولس الثاني، ويُعزِي هروبه من رصاصة قاتلة إلى ظهور «مريم العذراء/السيدة فاطمة» للأطفال البرتغاليين الثلاث (حادثة وقعت 1917 في مدينة «فاطمة» في البرتغال حيث ظهرت العذراء لأطفال برتغاليين هناك، وأُطلِق على العذراء بعد تلك الحادثة: السيدة فاطمة». وقد يكون باتوم مُحِقًّا في رد الأمر لقوى خارقة، لكن فصل البابا يحمل لهجة مختلفة تمامًا عن بقية فصول الكتاب، وقد استطاع هذا التناقض أن يظهر حجم مخاوف الكاتب. هذا الطرح ينطوي على تشاؤم عميق، وإن كان الإيمان بالتدخل الإيماني يخفف من حدة هذا التشاؤم، فالطرح يقدم لُب أفكار الكاتب بشكل رمزي. ختامًا، هذا العمل على قدر كبير من الأهمية ولابد من قراءته، وحتى إعادة قراءته ومناقشته مع جمهور المثقفين، المؤمنين والملحدين على حدٍ سواء. وعلى أمل ألا تثبط لهجة الكتاب القاتمة من عزيمة أولئك الذين يميلون للحصول على التشجيع بدلًا من التثبيط.


* الإيضاحات بين القوسين […] هي للمترجم.