محتوى مترجم
المصدر
فورين أفيرز
التاريخ
2016/02/06
الكاتب
أبراهام لوينثال وسيرجيو بيطار
منذ حوالي خمس سنوات، أطاحت احتجاجات حاشدة بالمستبد المصري، حسني مبارك، عن رأس السلطة في مصر. اعتقد معظم المراقبين المحليين والخارجيين أن مصر أصبحت على مسار تحقيق المستقبل الديمقراطي، بل وأعلن البعض عن وصول الديمقراطية بالفعل. ولكن انتخاب محمد مرسي وحزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين أحدث حالة من الاستقطاب والعنف، وفي عام 2013، بعد اندلاع احتجاجات أكثر حشدًا، استولى الجنرال عبد الفتاح السيسي على السلطة عبر انقلاب عسكري. ومنذ حينها، قتل نظام السيسي أكثر من 1000 مدني، سجن عشرات الآلاف، وشنّ حملة أمنية استهدفت الإعلام والمجتمع المدني.لكن تونس المجاورة كانت أفضل حالًا. حيث بدأت موجة الثورات العربية هناك عام 2010، وصمدت الحكومة الديمقراطية التي بشرت بها الثورة التونسية. كما نجحت الثورة هناك في أحد المهام الحاسمة للتحول الديمقراطي؛ ألا وهي الاتفاق بشأن دستور جديد، وهو إنجاز اعترفت به لجنة جائزة نوبل عندما منحت جائزتها للسلام إلى رباعية من منظمات المجتمع المدني التي نشطت خلال التحول التونسي نحو الديمقراطية. ومع ذلك، تظل الديمقراطية التونسية هشة، مهددة من قبل العنف السياسي، قمع المعارضين، وانتهاكات حقوق الإنسان.وفي كوبا أيضًا، هناك تطلعات نحو مستقبلٍ ديمقراطي، مع بدء الحكام المستبدين المسنين هناك إجراء إصلاحات. وفي ميانمار (المعروفة أيضًا باسم بورما)، يجري تحولٌ بطيءٌ ومتقطع عن الحكم العسكري، نحو حكم شامل، ولكن يظل الطريق محفوفًا بالصعوبات.
بوستر لمحمد مرسى بأغسطس 2013
بوستر لمحمد مرسى بأغسطس 2013.
ما الذي يحدد إن كانت محاولات إجراء التحولات الديمقراطية ستبوء بالنجاح أم بالفشل؟، تقدم لنا التجارب السابقة بعض الرؤى. لقد أجرينا حوارات موسعة مع 12 رئيسًا سابقًا ورئيس وزراء سابق، الذين لعب جميعهم أدوارًا حيوية في التحولات الديمقراطية الناجحة بالبرازيل، تشيلي، غانا، أندونيسيا، المكسيك، الفلبين، بولندا، جنوب أفريقيا، وأسبانيا.كان بعضهم قادة في أنظمة استبدادية، ولكنهم مع ذلك وجهوا دفات بلادهم نحو ديمقراطية حقيقية. تفاوض إف دبليو دي كليرك، بصفته رئيسًا لجنوب أفريقيا، مع نيلسون مانديلا، والمؤتمر الوطني الأفريقي لإنهاء الفصل العنصري. وأصبح بي جى حبيبي، نائب الرئيس الأندونيسي المستبد طويل العهد، سوهارتو، رئيسًا بعد استقالة سوهارتو في مواجهة احتجاجات قوية. عند ذلك حرر حبيبي السجناء السياسيين، شرّع النقابات العمالية، أنهى الرقابة على الصحف، وسمح بتكوين أحزاب سياسية جديدة، وحوّل قواعد السياسة الأندونيسية، ممهدًا الطريق نحو الديمقراطية الدستورية.مثّل القادة الآخرون شخصيات بارزة في حركات المعارضة التي أنهت الحكم الاستبدادي، وساعدت لاحقًا في بناء ديمقراطيات مستقرة. أصبح باتريسير أيلوين، قائد المعارضة للجنرال أوجستو بينوشيه، الدكتاتور التشيلي طويل العهد، أول رئيس منتخب بعد استعادة الحكم الديمقراطي عام 1990. وبلغ المفكر الكاثوليكي وقائد نقابة «تضامن» العمالية، تاديوس مازوفيتسكي، منصب رئيس الوزراء، ليكون الأول في بولندا ما بعد الشيوعية.
انضم فيدل راموس، أحد كبار المسؤولين العسكريين في الفلبين في ظل النظام الاستبدادي إلى المعارضة بعد تظاهرات «سلطة الشعب» الضخمة عام 1986
كما أجرينا مقابلات مع شخصيات تحولية؛ أي القادة الذين امتطوا الخط الفاصل بين الاستبداد والديمقراطية في تواريخ بلادهم، مثل ألكسندر كفاشنيفسكي، أحد وزراء حكومة بولندا الشيوعية، الذي شارك في محادثات المائدة المستديرة، التي أدت إلى الانفتاح الديمقراطي ببولندا. وساعد لاحقًا، بعد توليه الرئاسة، في بناء مؤسسات بولندا الديمقراطية. وانضم فيدل راموس، أحد كبار المسؤولين العسكريين في الفلبين في ظل النظام الاستبدادي بقيادة فرديناند ماركوس، إلى المعارضة بعد تظاهرات «سلطة الشعب» الضخمة عام 1986، وعمل لاحقًا وزيرًا للدفاع، وتولى الرئاسة في الدورة الثانية لديمقراطية ما بعد ماركوس.رغم لعب القوى الاجتماعية، المدنية والسياسية الأوسع لدورٍ هامٍ، يعد دور هؤلاء القادة محوريًا في نجاح تحولات بلادهم. لقد ساعدوا في إنهاء حكم الأنظمة الاستبدادية وبناء الديمقراطيات الدستورية محلها، والتي تأسست عبر الانتخابات المنتظمة والنزيهة بشكل معقول، إلى جانب القيود الفعالة على السلطة التنفيذية والضمانات العملية للحصول على الحقوق السياسية الأساسية – ولم يتخذ أي من تلك التحولات مسارًا معاكسًا. يظل تحقيق الديمقراطية عملية مستمرة في بعض تلك البلاد، ولكن التحولات غيرت بشكل جذري توزيع السلطة وممارسة السياسات.بالتأكيد ليس هناك نموذج واحد يصلح تطبيقه بجميع الدول الساعية للتغيير الديمقراطي، ولكن التحولات السابقة تطرح بالفعل بعض الدروس القابلة للتطبيق على نطاق واسع. يتعين على الإصلاحيين الديمقراطيين أن يكونوا مستعدين للتفاوض، مع تفضيلهم للتقدم التدريجي على الحلول الشاملة، كذلك بناء تحالفات، التواصل مع بعض العاملين داخل الأنظمة التي يسعون للإطاحة بها، والتعامل مع الأسئلة المتعلقة بالعدالة والعقاب. كما يتوجب عليهم إخضاع الجيش للرقابة المدنية. يمكن لهؤلاء المهتمين ببناء الديمقراطيات فوق أنقاض الدكتاتوريات أن يحسّنوا فرص تحقيق أهدافهم عبر اتباع الممارسات الأفضل.

إعداد الحاضنة المناسبة

تبدأ التحولات الديمقراطية الناجحة قبل وقت طويل من وصول السياسيين المنتخبين إلى مناصبهم، حيث يتعين على المعارضة أولًا أن تحشد القدر الكافي من الدعم العام، لتحدي قدرة النظام على الحكم، وتنصيب ذاتها كمنافس محتمل على السلطة. كما يتوجب على قادة المعارضة الحشد للاحتجاجات المنددة بحبس، تعذيب وطرد المعارضين، والمضعفة للشرعية الوطنية والدولية للنظام.عادة ما يتطلب ذلك رأب التصدعات العميقة في أوساط المعارضة بشأن الأهداف، القيادة، الإستراتيجيات والأساليب. عمل معظم قادة التحولات الذين أجرينا معهم مقابلات بدأب مع مرور الوقت لتجاوز مثل تلك الانقسامات وبناء تحالفات واسعة لقوى المعارضة، وتوحيد الأحزاب السياسية، الحركات الاجتماعية، العمال، الطلاب، المؤسسات الدينية، والمصالح التجارية الرئيسية حول أجندة مشتركة. على سبيل المثال، في بولندا، عملت نقابة «تضامن» العمالية بشكل وثيق مع التنظيمات الطلابية، المفكرين، وعناصر الكنيسة الكاثوليكية. وفي البرازيل، أقنعت حركة المعارضة العاملين بقطاع الصناعة في ساو باولو بدعم هدفها. وفي أسبانيا، حلت تنظيمات المعارضة العديد من خلافاتها عبر المفاوضات التي أدت إلى توقيع مواثيق مونكلوا عام 1977، حيث اتفقوا على كيفية إدارة الاقتصاد أثناء فترة التحول.
حيثما تفشل المعارضة في تشكيل جبهة موحدة، تصبح آفاق الديمقراطية أكثر ضبابية.
على النقيض من ذلك، حيثما تفشل المعارضة في تشكيل جبهة موحدة، تصبح آفاق الديمقراطية أكثر ضبابية. ففي فنزويلا، منعت الانقسامات الحادة، حول كيفية مواجهة الحكومة، المعارضة من الاستفادة بشكل كامل من سوء الإدارة الاقتصادية من جانب النظام. وفي صربيا، تمكن سلوبودان ميلوسيفيتش من حكم البلاد بطريقة استبدادية على نحو متزايد منذ عام 1989، جزئيًا، بفضل عجز المعارضة الصربية عن تشكيل جبهة موحدة. كذلك في أوكرانيا، انقلبت الثورة البرتقالية بين عامي 2004-2005 على نتائج انتخاباتٍ اعتبرت مزورة على نطاق واسع. ولكن الانقسامات وسط الإصلاحيين في حينها أعاقت تحقيق المزيد من التطوير للمؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون، ما تمخض عن عقد آخر من حكم الأقلية والفساد السياسي.كذلك تحتاج حركات المعارضة الديمقراطية إلى مد جسور التفاهم مع من تعاونوا في الماضي مع الأنظمة الاستبدادية، ولكنهم الآن على استعداد لدعم عملية تعزيز الديمقراطية. فالتركيز على مظالم الماضي عادة ما يؤتي نتائج عكسية، لذلك على الإصلاحيين الديمقراطيين أن يطرحوا بشكل مستمر رؤية إيجابية وتطلعية للتحول، لمعالجة الخوف المنتشر الذي تغرسه الأنظمة الاستبدادية. وفي ذات الوقت، عليهم تهميش من يرفضون نبذ العنف والذين يصرون على طرح مطالبات متصلبة بهدف نيل الاستقلال الإقليمي، الإثني أو الطائفي.لكن توحيد المعارضة ليس كافيًا؛ بل يتوجب على القوى الديمقراطية أن تفهم وتستغل الانقسامات داخل النظام القائم، أن تقنع العناصر الداخلية بالانفتاح نحو التغيير، وعلى الإصلاحيين أن يقدموا ضمانات موثوقة عن عدم نيتهم الانتقام أو مصادرة أصول العناصر الداخلية للنظام. كما يتعين على الحركات المعارضة أن تعمل بجد لتمثل جهات للحوار بشكل فعال بالنسبة لهؤلاء داخل النظام المستبد الذين يبحثون عن إستراتيجية للخروج، مع عزل من يتمسكون بالتعنت. على سبيل المثال، تمثلت الإستراتيجية الأساسية للإصلاحي البرازيلي، فرناندو هنريك كاردوسو، في حث عناصر من الجيش على التواصل بحثًا عن مخرج.وعلى عناصر النظام القائم الذين يدركون الحاجة إلى الابتعاد عن الحكم الاستبدادي، في المقابل، أن يتوصلوا إلى سبلٍ للحفاظ على دعم دوائرهم الأساسية أثناء التفاوض مع تنظيمات المعارضة. وتعد محادثات «بوش تريتيز» التي عقدها دي كليرك مع أعضاء وزارته في عامي 1989 و1990 نموذجًا على ذلك. خلال تلك المحادثات، بنى دي كليرك إجماعًا سريًا داخل مجلس وزارئه بشأن الخطوات المثيرة التي سيعلن عنها؛ تقنين حزب المؤتمر الأفريقي، تحرير مانديلا والسجناء السياسيين الآخرين، وتدشين مفاوضات رسمية.
نيلسون مانديلا وفريدريك ويليام دي كليرك
نيلسون مانديلا وفريدريك ويليام دي كليرك.

يمكن للاتصال المباشر بين المعارضة والنظام أن يتم بشكل سري في البداية، إن كان ذلك ضروريًا، كحال الاتصالات الأولية بين مسؤولي الحكومة وممثلي حزب المؤتمر الأفريقي، التي أجريت خارج جنوب أفريقيا في منتصف الثمانينيات. حيث تساهم المحادثات غير الرسمية، كمحادثات المائدة المستديرة في بولندا، في مساعدة أعضاء النظام والمعارضة الديمقراطية على فهم بعضهم البعض، تجاوز الصور النمطية، وبناء علاقات نشطة. ومثلما علّق دي كليرك: «لا يمكنك حل أي صراع دون الحوار المشترك بين الأطراف المشاركة فيه. ومن أجل النجاح في المفاوضات، يجب أن تتفهم موقف الطرف الآخر. عليك التفكر مليًّا في طرحه وأن تحدد أقل شروط الطرف الآخر لضمان مشاركته البناءة والمتعاونة في عملية المفاوضات».خلال تلك العملية، يتوجب على الإصلاحيين ممارسة ضغوط على النظام وتحمل المخاطرة، من أجل تحقيق التقدم المستمر، حتى وإن كان تدريجيًا. عليهم الاستعداد لتقديم تناولات، حتى وإن أدى ذلك إلى التخلي عن التحقق الكامل لبعض الأهداف الحيوية، وإحباط بعض الداعمين الهامين. يؤدي نبذ المواقف المتطرفة في كثير من الأحيان إلى استحضار المزيد من الشجاعة السياسية، عوضًا عن الخضوع لمبادئ جذابة ولكنها غير عملية. ففي النهاية، لا يعد إنجاح التحولات مهمة المتحجرين فكريًا.على سبيل المثال، في غانا، رفض جون كوفور، رئيس الحزب الوطني الجديد، مقاطعة أعضاء حزبه لانتخابات عام 1992، متعللين بأن الحزب يجب أن يشارك في انتخابات 1996، رغم احتمالية خسارته في تلك الانتخابات. وقد أدى فوز كوفور اللاحق في انتخابات عام 2000 إلى الانتقال السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع، وهو نمط استمر لمدة 15 عامًا.وفي المكسيك، دعم أرنستو زيديلو إجراء إصلاحات تدريجية، رغم كونه عضوًا بارزًا في الحزب الثوري المؤسسي طويل العهد بالحكم، للإجراءات الانتخابية التي تم التفاوض بشأنها مع المعارضة، في فترة بدا فيها أن الحزب من غير المرجح أن يتخلى أبدًا عن سيطرته، بعد سبعة عقود في السلطة. ولاحقًا، بعد أن أصبح رئيسًا، وافق زيديلو على إجراء المزيد من التغييرات فيما يتعلق بتمويل الحملات الانتخابية، ودعمَ إجراءً إصلاحيًا لتعزيز السلطات الانتخابية؛ ما مهد الطريق لانتقال السلطة من الحزب إلى المعارضة في عام 2000.اتضحت المخاطر الكامنة وراء رفض عقد المساومات في حالة مصر. فخلال فترة الحكم الوجيزة للإخوان المسلمين، أصر التنظيم على تبني الأجندة الإسلامية أثناء صياغته للدستور الجديد؛ ما أدى إلى نفور قطاعات واسعة من الشعب المصري. وفي تشيلي، تبنى أعضاء اليسار المتطرف المعارضين «جميع صور النضال»، بما في ذلك العنف، ضد نظام بينوشيه. وبحلول عام 1986، أدركت أغلبية حركة المعارضة أنهم لن يتمكنوا من الإطاحة بالديكتاتورية بالقوة، وأن ذلك الارتباط باليسار المتطرف قد شوّه المعارضة؛ فتبنوا بدلًا من ذلك الاحتجاج السلمي وتعهدوا ببناء «وطن للجميع». ساعد ذلك النهج المعارضة في الفوز بمواجهة أوجستو بينوشيه في استفتاء عام 1988، الذي أراد كثيرون في صفوف المعارضة مقاطعته في البداية.


المدنيون والأمن

من جانب آخر، شتان الفارق بين الإطاحة بنظام استبدادي وحكم الدولة. عادة ما يواجه قادة التحولات ضغوطًا لإجراء تطهير شامل والبدء من جديد، ولكن عليهم أن يقاوموا تلك الضغوط، فالحكم يتطلب وجود وجهات نظر، أفراد، ومهارات مختلفة تمامًا عن تلك الضرورية من أجل المعارضة.

رئيس غانا 2008.

بمجرد وصول المعارضة إلى الحكم، تتمثل الخطوة الأهم في إنهاء العنف واستعادة النظام مع ضمان تصرف جميع قوات الأمن وفق القانون. قدمت مقابلاتنا روايات رائعة بشأن التحديات الممتدة التي تصنعها العلاقات المدنية العسكرية. وتجدر هنا الإشارة إلى أهمية جلب الإصلاحيين لجميع الأجهزة الأمنية تحت السيطرة المدنية الديمقراطية بأسرع ما يمكن، وفي نفس الوقت، يتوجب عليهم إدراك واحترام الأدوار المشروعة لتلك الأجهزة، مع تزويدها بالموارد الكافية، وحماية قادتها من الأعمال الانتقامية الساحقة لأدوارهم القمعية في الماضي.لتحقيق ذلك، يجب فصل الشرطة وأجهزة الاستخبارات الداخلية عن الجيش. وعلى القادة غرس سلوكيات جديدة في أوساط عناصر الشرطة تجاه عموم الشعب عبر التأكيد على مسؤولية قوات الأمن عن حماية المدنيين بدلًا من قمعهم، دون تقليص قدرة القوات على تفكيك التنظيمات العنيفة. علاوةً على ذلك، يتعين على الإصلاحيين الإطاحة بكبار الضباط المسؤولين عن التعذيب والقمع الوحشي، واستبدالهم بقادة عسكريين كبار تحت السلطة المباشرة للوزراء المدنيين للدفاع، والإصرار على امتناع ضباط الجيش في الخدمة عن المشاركة السياسية بشكل كامل.

يعد وصف مثل تلك الخطوات أسهل من سَنّها، ويتطلب تطبيقها حكمًا وشجاعةً سياسييْن حاديْن. ويمكن، في بعض الحالات، معالجتها مبكرًا؛ ولكن في حالات أخرى، سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا. ولكن يجب أن تحظى تلك الخطوات بأولوية عليا من البداية، وكذلك الوضع بالنسبة للحذر المستمر. مثلما أوضح حبيبي، أثناء مناقشته للعلاقات المدنية العسكرية في أندونيسيا، «من يقودون التحول عليهم أن يظهروا، فعلًا لا قولًا، أهمية السيطرة المدنية».

يتوجب على قادة التحولات تحقيق التوازن بين الرغبة في محاسبة النظام السابق والحاجة إلى الحفاظ على النظام ومعنويات قوات الأمن

التحدي الدستوري

يمكن لإخضاع الجيش للسيطرة المدنية أن يساعد قادة التحول في بعث الثقة الداخلية والشرعية الدولية. وعلى غرار ذلك يمكن تطوير الإجراءات الانتخابية التي تعكس إرادة الأغلبية، والتي تطمئن من خسروا في الانتخابات بشأن أن مخاوفهم الأساسية ستواجه بالاحترام تحت سلطة القانون. في أغلب الدول، تعتبر صياغة الدستور الجديد أمرًا أساسيًا، رغم أن أندونيسيا قد احتفظت بدستور عام 1945، مع تعديل بعض أحكامه، كذلك لم تتبنّ بولندا دستورًا جديدًا بالكامل إلا بعد مرور عدة سنوات بعد انتهاء عهدها بالشيوعية.ينبغي إشراك مجموعة واسعة من المعنيين في صياغة دستورٍ يعالج المخاوف الأساسية للقطاعات الرئيسية من المجتمع، حتى وإن عنى ذلك القبول، ولو مؤقتًا، بإجراءات تقيّد الديمقراطية. يجدر هنا ذكر النظم الانتخابية المتحيزة التي حافظت عليها تشيلي لمدة 25 عامًا بعد انتهاء عهد بينوشيه لاسترضاء الجيش والجماعات المحافظة، ومنح منصب نائب الرئيس لقائد المعارضة في جنوب أفريقيا. كذلك قد يتطلب حشد دعمٍ واسع لدستور جديد دمج التطلعات السامية التي ينبغي تقليصها لاحقًا أو تطبيقها تدريجيًا، مثل الأحكام الاقتصادية والاجتماعية الطموحة بدستور 1988 بالبرازيل، الذي دعى إلى تقديم حقوق واسعة للعمال، الإصلاح الزراعي، والرعاية الصحية الشاملة.

رغم أهمية الصياغة الدقيقة للدستور، ربما يكون الأهم هو كيفية اعتماد الدستور، وتوقيت فعل ذلك، وهوية من يعتمده.

رغم أهمية الصياغة الدقيقة للدستور، ربما يكون الأهم هو كيفية اعتماد الدستور، وتوقيت فعل ذلك، وهوية من يعتمده. ينبغي على واضعيه تحقيق توافق واسع والتأكد من أنه ليس سهلًا للغاية ولا مستحيلًا على الصعيد العملي تعديل الدستور عندما تقتضي الظروف. انتقد كثيرون صياغة ألوين، القائلة بأن لجنة الحقيقة في تشيلي أمكنها تحقيق العدالة فقط «إلى أقصى حد ممكن»؛ ولكن نطاق ما هو ممكن تمدد بمرور السنين. يجب أن يكون الهدف الرئيسي هو ترسيخ القبول الواسع للقواعد الأساسية للمشاركة الديمقراطية. مثلما علق ثابو مبيكي، ثاني رئيس لجنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري: «كان من المهم أن يكون الدستور ملكًا لشعب جنوب أفريقيا ككل، ولذلك يجب أن تكون عملية وضع الدستور شاملة».

ينبغي أن تشمل العملية داعمي النظام السابق، الذين سيحتاجون إلى ضمانات حول أن حقوقهم ستحترم تحت حكم القانون. تعد المحاكمات بالجملة لمسؤولي النظام السابق خطوة غير حكيمة. بل يتعين على القادة الجدد تأسيس إجراءات قانونية شفافة تهدف إلى بحث حقيقة انتهاكات الماضي، تقديم الاعتراف، وربما التعويض للضحايا، وتقديم الجناة الرئيسيين للعدالة عندما يكون الأمر ممكنًا. رغم أن التصالح الكامل قد يكون مستحيلًا، يعد التسامح المتبادل هدفًا أساسيًا. ومجددًا، تعتبر التنازلات أمرًا أساسيًا.

العمل المتوازن

بينما تترسخ التحولات الديمقراطية، عادة ما يلوم الجمهور القادة الديمقراطيين – وأحيانًا الديمقراطية نفسها – للفشل في تلبية التوقعات الاقتصادية أو السياسية. عادة ما ترث السلطات الجديدة النماذج المتأصلة من الفساد وعدم الكفاءة، كما قد تتفتت الحركات التي توحدت على معارضة النظام الاستبدادي. وأحيانًا ما تتفسخ منظمات المجتمع المدني التي أسهمت في حركات المعارضة المناهضة للاستبداد، أو تتبنى مواقف تخريبية، خصوصًا بعد انضمام العديد من قادتهم الأكثر تميزًا إلى الحكومة أو انخراطهم في السياسات الحزبية.يعد بناء علاقات بناءة بين حكومة جديدة ومعارضة جديدة تحديًا مستمرًا. ويعتبر التنافس بين الحكومة ومعارضتها أمرًا صحيًا للديمقراطية، ولكن الإعاقة الكاملة للحكومة من قبل المعارضة، أو قمع جميع الأصوات المنتقدة من قبل الحكومة، قد يدمران الديمقراطية سريعًا. ويساعد القضاء المستقل الذي يحاسب السلطة التنفيذية دون صد الكثير من المبادرات الجديدة والإعلام الحر والمسؤول في ترسيخ ديمقراطية مستدامة.
تقدم الأحزاب الديمقراطية أفضل وسيلة لإشراك الشعب، حشد الضغط الفعال، تنظيم دعمٍ للسياسات، توجيه المطالب العامة، وتحديد وتعزيز القادة المهرة.
تلعب الأحزاب السياسية أيضًا دورًا هامًا، طالما لا تصبح مجرد مركبات لأفراد محددين والمقربين منهم. تقدم الأحزاب الديمقراطية البرنامجية حسنة التنظيم أفضل وسيلة لإشراك الشعب من جميع الطبقات، حشد الضغط الفعال، تنظيم دعمٍ مستدام للسياسات، توجيه المطالب العامة، وتحديد وتعزيز القادة المهرة. كما يتطلب تطوير أحزاب قوية عناية فائقة بالإجراءات والضمانات المتعلقة باختيار المرشحين، تمويل الحملات الانتخابية، والوصول إلى الإعلام. تنجم التحديات المستمرة أمام الحكم الديمقراطي في غانا، أندونيسيا والفلبين جزئيًا بسبب الأحزاب السياسية الضعيفة.رغم أن التحولات عادة ما تنجم عن أسباب سياسية، وليست اقتصادية، تصبح التحديات الاقتصادية عاجلًا أولوية للحكومات الجديدة. فقد يتصارع مسعى خفض معدلات الفقر والبطالة مع الإصلاحات الاقتصادية الضرورية لتعزيز النمو بعيد المدى واستقرار الاقتصاد الكلي. وقبل أن يتآكل الدعم الشعبي القوي، على الحكومة أن تطبق إجراءات اجتماعية تخفف من المصاعب التي تعاني بسببها القطاعات الأضعف، ولكنها في حاجة أيضًا إلى ممارسة المسؤولية المالية.تبنى قادة جميع التحولات التي درسناها نُهُجًا موجهةً نحو السوق وسياساتٍ نقدية ومالية حكيمة تجاه الاقتصاد الكلي، ولكن معظمهم فعل ذلك بشكل واعٍ لتجنب تغذية المخاوف الشعبية حول أن المصالح العامة تباع إلى أصحاب الامتيازات. وحتى هؤلاء الذين كانوا في البداية معادين للأسواق الحرة قبلوا بأن الأسواق ضرورية في الاقتصاد المعولم على نحو متزايد، إلى جانب السياسات الاجتماعية القوية التي قد تنتج تنمية اقتصاديًا أكثر عدلًا.مثلما يوضح التاريخ الحديث للتدخلات الغربية في الشرق الأوسط، الديمقراطية ليست سلعة مستوردة. ولكن يمكن للاعبين الخارجيين، الحكوميين وغير الحكوميين، أن يدعموا التحولات الديمقراطية إن احترموا القوى المحلية وشاركوا فقط بناءً على دعوة منها. ففي بعض الأحيان، يمكنهم توفير الشروط الضرورية للحوار الهادئ بين قادة المعارضة، وبين المعارضة وممثلي النظام. يمكنهم تقديم المشورة بشأن العديد من المشكلات العملية، بدءًا بكيفية تنفيذ حملة إلى كيفية الاستفادة بشكل فعال من الإعلام، وفي النهاية، كيفية مراقبة الانتخابات. يمكن للعقوبات الاقتصادية أن تساعد في وقف القمع، مثلما حدث في بولندا وجنوب أفريقيا.ويمكن للدول الأجنبية أن تقدم المساعدات والاستثمارات لدعم التحولات الديمقراطية، مثلما فعلت في غانا، الفلبين، وبولندا. تستطيع المساعدات الاقتصادية الدولية أثناء التحول أن توفر مساحة للإصلاح السياسي إن قُدمت استجابةً للأولويات المحلية وبالتعاون مع اللاعبين المحليين.إلا أن التدخل الدولي لا يمكن أن يحل محل المبادرات المحلية؛ حيث يكون اللاعبون الخارجيون أقوى تأثيرًا عندما يستمعون، يثيرون أسئلة نابعة عن تجاربهم مع التحديات المشابهة، ويشجعون المشاركين المحليين على دراسة المشكلات من جوانب عديدة.

عالم متغير

رئيس غانا 2008
رئيس غانا 2008
حوّلت الأطراف الفاعلة، التكنولوجيات، الضغوط الاقتصادية، والديناميكيات الجيوسياسية الجديدة السياق الذي ستحدث فيه التحولات الديمقراطية اليوم. فأيٌ من يمتلك اليوم هاتفًا محمولًا يمكنه إثارة احتجاجات جماهيرية عبر تسجيل مشاهد لعنف الشرطة. تستطيع وسائل التواصل الاجتماعي سريعًا إعادة تشكيل الرأي العام والسماح للمنظمين بجمع أعداد كبيرة من التابعين. ولكن تلك التكنولوجيات الجديدة لا يمكنها الحلول محل العمل الجاد لبناء المؤسسات.
تتمثل المشكلة في أنه من السهل الحشد للتدمير، ولكن الأصعب كثيرًا هو الحشد الهادف إلى إعادة البناء. التكنولوجيات الجديدة ليست كافية في حد ذاتها لاتخاذ الخطوة التالية قدمًا. بينما المؤسسات ضرورية، إلى جانب القدرة على فهم، معالجة وممارسة القيادة، التي تستمر مع مرور الوقت.

كاردوسو، الإصلاحي البرازيلي الذي أصبح رئيسًا

ومثلما علق كوفور: «الحشود لا يمكنها بناء المؤسسات؛ لذلك تعد القيادة أمرًا هامًا».في السنوات التالية، ربما ستضغط الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، المعززة بواسطة الشبكات الرقمية، على الأنظمة الاستبدادية بشكل أكبر وأكثر فاعلية من الماضي. ولكن تلك الحركات لا يمكنها أن تحل محل الأحزاب والقادة السياسيين. هؤلاء الأطراف هم من ينبغي عليهم في النهاية أن يبنوا المؤسسات والائتلافات الانتخابية والحاكمة، كسب الدعم الشعبي، إعداد وتطبيق السياسات، انتزاع التضحيات من أجل الصالح العام، إلهام الشعب للاعتقاد بأن الديمقراطية ممكنة، والحكم بشكل فعال.من الصعب بناء ديمقراطيات نشطة ومستدامة في البلاد التي ليس لديها تجارب حديثة للحكم الذاتي، حيث تكون المنظمات الاجتماعية والمدنية هشة، وتكون مؤسسات الدولة الضعيفة غير قادرة على تقديم القدر الكافي من الخدمات والأمن. قد يكون من الصعب أيضًا تأسيس الديمقراطية في الدول ذات الانقسامات الإثنية، الطائفية، والإقليمية القوية. ومع ذلك، يمكن للحكومات المنتخبة ديمقراطيًا أن تحكم بشكل استبدادي عبر تجاهل، إضعاف، أو تقديم شعارات فقط بشأن القيود التشريعية والقضائية التي يستلزم الحكم الديمقراطي وجودها. ولكن تعتبر هذه الدول تحديدًا هي من تحتاج إلى التغيير الديمقراطي بشكل أكثر إلحاحًا. تظهر نماذج غانا، أندونيسيا، الفلبين، جنوب أفريقيا، وأسبانيا أن تلك التحديات يمكن مواجهتها في ظل العديد من الظروف المختلفة، حتى في الدول المنقسمة بشكل عميق.يمكن اليوم حشد أكبر عدد ممكن إطلاقًا من الشباب المتعلم للتظاهر في الميادين العامة للمطالبة بالديمقراطية، خصوصًا عندما تندر فرص العمل. إلا أن التحدي يكمن في إشراكهم على نحو مستمر في بناء الأحزاب السياسية الدائمة والمؤسسات الأخرى. لا تتحقق الديمقراطية كنتيجة مباشرة أو حتمية لتجمع الحشود في الشوارع.بل يتطلب بناء الديمقراطيات الرؤية، المفاوضات والتنازلات، العمل الجاد، المثابرة، المهارة، القيادة، وبعض الحظ. ولكن رغم جميع العقبات، نجحت التحولات الديمقراطية في الماضي. ويمكن عبر تعلم وتطبيق الدروس المستفادة من تلك التجارب المساعدة في إسقاط الأنظمة الاستبدادية وتشكيل ديمقراطيات مستدامة محلها.