الطريق إلى الديمقراطية: دروس من التحولات الديمقراطية الناجحة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |

انضم فيدل راموس، أحد كبار المسؤولين العسكريين في الفلبين في ظل النظام الاستبدادي إلى المعارضة بعد تظاهرات «سلطة الشعب» الضخمة عام 1986
إعداد الحاضنة المناسبة
تبدأ التحولات الديمقراطية الناجحة قبل وقت طويل من وصول السياسيين المنتخبين إلى مناصبهم، حيث يتعين على المعارضة أولًا أن تحشد القدر الكافي من الدعم العام، لتحدي قدرة النظام على الحكم، وتنصيب ذاتها كمنافس محتمل على السلطة. كما يتوجب على قادة المعارضة الحشد للاحتجاجات المنددة بحبس، تعذيب وطرد المعارضين، والمضعفة للشرعية الوطنية والدولية للنظام.عادة ما يتطلب ذلك رأب التصدعات العميقة في أوساط المعارضة بشأن الأهداف، القيادة، الإستراتيجيات والأساليب. عمل معظم قادة التحولات الذين أجرينا معهم مقابلات بدأب مع مرور الوقت لتجاوز مثل تلك الانقسامات وبناء تحالفات واسعة لقوى المعارضة، وتوحيد الأحزاب السياسية، الحركات الاجتماعية، العمال، الطلاب، المؤسسات الدينية، والمصالح التجارية الرئيسية حول أجندة مشتركة. على سبيل المثال، في بولندا، عملت نقابة «تضامن» العمالية بشكل وثيق مع التنظيمات الطلابية، المفكرين، وعناصر الكنيسة الكاثوليكية. وفي البرازيل، أقنعت حركة المعارضة العاملين بقطاع الصناعة في ساو باولو بدعم هدفها. وفي أسبانيا، حلت تنظيمات المعارضة العديد من خلافاتها عبر المفاوضات التي أدت إلى توقيع مواثيق مونكلوا عام 1977، حيث اتفقوا على كيفية إدارة الاقتصاد أثناء فترة التحول.حيثما تفشل المعارضة في تشكيل جبهة موحدة، تصبح آفاق الديمقراطية أكثر ضبابية.

يمكن للاتصال المباشر بين المعارضة والنظام أن يتم بشكل سري في البداية، إن كان ذلك ضروريًا، كحال الاتصالات الأولية بين مسؤولي الحكومة وممثلي حزب المؤتمر الأفريقي، التي أجريت خارج جنوب أفريقيا في منتصف الثمانينيات. حيث تساهم المحادثات غير الرسمية، كمحادثات المائدة المستديرة في بولندا، في مساعدة أعضاء النظام والمعارضة الديمقراطية على فهم بعضهم البعض، تجاوز الصور النمطية، وبناء علاقات نشطة. ومثلما علّق دي كليرك: «لا يمكنك حل أي صراع دون الحوار المشترك بين الأطراف المشاركة فيه. ومن أجل النجاح في المفاوضات، يجب أن تتفهم موقف الطرف الآخر. عليك التفكر مليًّا في طرحه وأن تحدد أقل شروط الطرف الآخر لضمان مشاركته البناءة والمتعاونة في عملية المفاوضات».خلال تلك العملية، يتوجب على الإصلاحيين ممارسة ضغوط على النظام وتحمل المخاطرة، من أجل تحقيق التقدم المستمر، حتى وإن كان تدريجيًا. عليهم الاستعداد لتقديم تناولات، حتى وإن أدى ذلك إلى التخلي عن التحقق الكامل لبعض الأهداف الحيوية، وإحباط بعض الداعمين الهامين. يؤدي نبذ المواقف المتطرفة في كثير من الأحيان إلى استحضار المزيد من الشجاعة السياسية، عوضًا عن الخضوع لمبادئ جذابة ولكنها غير عملية. ففي النهاية، لا يعد إنجاح التحولات مهمة المتحجرين فكريًا.على سبيل المثال، في غانا، رفض جون كوفور، رئيس الحزب الوطني الجديد، مقاطعة أعضاء حزبه لانتخابات عام 1992، متعللين بأن الحزب يجب أن يشارك في انتخابات 1996، رغم احتمالية خسارته في تلك الانتخابات. وقد أدى فوز كوفور اللاحق في انتخابات عام 2000 إلى الانتقال السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع، وهو نمط استمر لمدة 15 عامًا.وفي المكسيك، دعم أرنستو زيديلو إجراء إصلاحات تدريجية، رغم كونه عضوًا بارزًا في الحزب الثوري المؤسسي طويل العهد بالحكم، للإجراءات الانتخابية التي تم التفاوض بشأنها مع المعارضة، في فترة بدا فيها أن الحزب من غير المرجح أن يتخلى أبدًا عن سيطرته، بعد سبعة عقود في السلطة. ولاحقًا، بعد أن أصبح رئيسًا، وافق زيديلو على إجراء المزيد من التغييرات فيما يتعلق بتمويل الحملات الانتخابية، ودعمَ إجراءً إصلاحيًا لتعزيز السلطات الانتخابية؛ ما مهد الطريق لانتقال السلطة من الحزب إلى المعارضة في عام 2000.اتضحت المخاطر الكامنة وراء رفض عقد المساومات في حالة مصر. فخلال فترة الحكم الوجيزة للإخوان المسلمين، أصر التنظيم على تبني الأجندة الإسلامية أثناء صياغته للدستور الجديد؛ ما أدى إلى نفور قطاعات واسعة من الشعب المصري. وفي تشيلي، تبنى أعضاء اليسار المتطرف المعارضين «جميع صور النضال»، بما في ذلك العنف، ضد نظام بينوشيه. وبحلول عام 1986، أدركت أغلبية حركة المعارضة أنهم لن يتمكنوا من الإطاحة بالديكتاتورية بالقوة، وأن ذلك الارتباط باليسار المتطرف قد شوّه المعارضة؛ فتبنوا بدلًا من ذلك الاحتجاج السلمي وتعهدوا ببناء «وطن للجميع». ساعد ذلك النهج المعارضة في الفوز بمواجهة أوجستو بينوشيه في استفتاء عام 1988، الذي أراد كثيرون في صفوف المعارضة مقاطعته في البداية.
المدنيون والأمن
من جانب آخر، شتان الفارق بين الإطاحة بنظام استبدادي وحكم الدولة. عادة ما يواجه قادة التحولات ضغوطًا لإجراء تطهير شامل والبدء من جديد، ولكن عليهم أن يقاوموا تلك الضغوط، فالحكم يتطلب وجود وجهات نظر، أفراد، ومهارات مختلفة تمامًا عن تلك الضرورية من أجل المعارضة.
رئيس غانا 2008.
بمجرد وصول المعارضة إلى الحكم، تتمثل الخطوة الأهم في إنهاء العنف واستعادة النظام مع ضمان تصرف جميع قوات الأمن وفق القانون. قدمت مقابلاتنا روايات رائعة بشأن التحديات الممتدة التي تصنعها العلاقات المدنية العسكرية. وتجدر هنا الإشارة إلى أهمية جلب الإصلاحيين لجميع الأجهزة الأمنية تحت السيطرة المدنية الديمقراطية بأسرع ما يمكن، وفي نفس الوقت، يتوجب عليهم إدراك واحترام الأدوار المشروعة لتلك الأجهزة، مع تزويدها بالموارد الكافية، وحماية قادتها من الأعمال الانتقامية الساحقة لأدوارهم القمعية في الماضي.لتحقيق ذلك، يجب فصل الشرطة وأجهزة الاستخبارات الداخلية عن الجيش. وعلى القادة غرس سلوكيات جديدة في أوساط عناصر الشرطة تجاه عموم الشعب عبر التأكيد على مسؤولية قوات الأمن عن حماية المدنيين بدلًا من قمعهم، دون تقليص قدرة القوات على تفكيك التنظيمات العنيفة. علاوةً على ذلك، يتعين على الإصلاحيين الإطاحة بكبار الضباط المسؤولين عن التعذيب والقمع الوحشي، واستبدالهم بقادة عسكريين كبار تحت السلطة المباشرة للوزراء المدنيين للدفاع، والإصرار على امتناع ضباط الجيش في الخدمة عن المشاركة السياسية بشكل كامل.
يعد وصف مثل تلك الخطوات أسهل من سَنّها، ويتطلب تطبيقها حكمًا وشجاعةً سياسييْن حاديْن. ويمكن، في بعض الحالات، معالجتها مبكرًا؛ ولكن في حالات أخرى، سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا. ولكن يجب أن تحظى تلك الخطوات بأولوية عليا من البداية، وكذلك الوضع بالنسبة للحذر المستمر. مثلما أوضح حبيبي، أثناء مناقشته للعلاقات المدنية العسكرية في أندونيسيا، «من يقودون التحول عليهم أن يظهروا، فعلًا لا قولًا، أهمية السيطرة المدنية».
يتوجب على قادة التحولات تحقيق التوازن بين الرغبة في محاسبة النظام السابق والحاجة إلى الحفاظ على النظام ومعنويات قوات الأمن
التحدي الدستوري
يمكن لإخضاع الجيش للسيطرة المدنية أن يساعد قادة التحول في بعث الثقة الداخلية والشرعية الدولية. وعلى غرار ذلك يمكن تطوير الإجراءات الانتخابية التي تعكس إرادة الأغلبية، والتي تطمئن من خسروا في الانتخابات بشأن أن مخاوفهم الأساسية ستواجه بالاحترام تحت سلطة القانون. في أغلب الدول، تعتبر صياغة الدستور الجديد أمرًا أساسيًا، رغم أن أندونيسيا قد احتفظت بدستور عام 1945، مع تعديل بعض أحكامه، كذلك لم تتبنّ بولندا دستورًا جديدًا بالكامل إلا بعد مرور عدة سنوات بعد انتهاء عهدها بالشيوعية.ينبغي إشراك مجموعة واسعة من المعنيين في صياغة دستورٍ يعالج المخاوف الأساسية للقطاعات الرئيسية من المجتمع، حتى وإن عنى ذلك القبول، ولو مؤقتًا، بإجراءات تقيّد الديمقراطية. يجدر هنا ذكر النظم الانتخابية المتحيزة التي حافظت عليها تشيلي لمدة 25 عامًا بعد انتهاء عهد بينوشيه لاسترضاء الجيش والجماعات المحافظة، ومنح منصب نائب الرئيس لقائد المعارضة في جنوب أفريقيا. كذلك قد يتطلب حشد دعمٍ واسع لدستور جديد دمج التطلعات السامية التي ينبغي تقليصها لاحقًا أو تطبيقها تدريجيًا، مثل الأحكام الاقتصادية والاجتماعية الطموحة بدستور 1988 بالبرازيل، الذي دعى إلى تقديم حقوق واسعة للعمال، الإصلاح الزراعي، والرعاية الصحية الشاملة.
رغم أهمية الصياغة الدقيقة للدستور، ربما يكون الأهم هو كيفية اعتماد الدستور، وتوقيت فعل ذلك، وهوية من يعتمده.
رغم أهمية الصياغة الدقيقة للدستور، ربما يكون الأهم هو كيفية اعتماد الدستور، وتوقيت فعل ذلك، وهوية من يعتمده. ينبغي على واضعيه تحقيق توافق واسع والتأكد من أنه ليس سهلًا للغاية ولا مستحيلًا على الصعيد العملي تعديل الدستور عندما تقتضي الظروف. انتقد كثيرون صياغة ألوين، القائلة بأن لجنة الحقيقة في تشيلي أمكنها تحقيق العدالة فقط «إلى أقصى حد ممكن»؛ ولكن نطاق ما هو ممكن تمدد بمرور السنين. يجب أن يكون الهدف الرئيسي هو ترسيخ القبول الواسع للقواعد الأساسية للمشاركة الديمقراطية. مثلما علق ثابو مبيكي، ثاني رئيس لجنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري: «كان من المهم أن يكون الدستور ملكًا لشعب جنوب أفريقيا ككل، ولذلك يجب أن تكون عملية وضع الدستور شاملة».
ينبغي أن تشمل العملية داعمي النظام السابق، الذين سيحتاجون إلى ضمانات حول أن حقوقهم ستحترم تحت حكم القانون. تعد المحاكمات بالجملة لمسؤولي النظام السابق خطوة غير حكيمة. بل يتعين على القادة الجدد تأسيس إجراءات قانونية شفافة تهدف إلى بحث حقيقة انتهاكات الماضي، تقديم الاعتراف، وربما التعويض للضحايا، وتقديم الجناة الرئيسيين للعدالة عندما يكون الأمر ممكنًا. رغم أن التصالح الكامل قد يكون مستحيلًا، يعد التسامح المتبادل هدفًا أساسيًا. ومجددًا، تعتبر التنازلات أمرًا أساسيًا.العمل المتوازن
بينما تترسخ التحولات الديمقراطية، عادة ما يلوم الجمهور القادة الديمقراطيين – وأحيانًا الديمقراطية نفسها – للفشل في تلبية التوقعات الاقتصادية أو السياسية. عادة ما ترث السلطات الجديدة النماذج المتأصلة من الفساد وعدم الكفاءة، كما قد تتفتت الحركات التي توحدت على معارضة النظام الاستبدادي. وأحيانًا ما تتفسخ منظمات المجتمع المدني التي أسهمت في حركات المعارضة المناهضة للاستبداد، أو تتبنى مواقف تخريبية، خصوصًا بعد انضمام العديد من قادتهم الأكثر تميزًا إلى الحكومة أو انخراطهم في السياسات الحزبية.يعد بناء علاقات بناءة بين حكومة جديدة ومعارضة جديدة تحديًا مستمرًا. ويعتبر التنافس بين الحكومة ومعارضتها أمرًا صحيًا للديمقراطية، ولكن الإعاقة الكاملة للحكومة من قبل المعارضة، أو قمع جميع الأصوات المنتقدة من قبل الحكومة، قد يدمران الديمقراطية سريعًا. ويساعد القضاء المستقل الذي يحاسب السلطة التنفيذية دون صد الكثير من المبادرات الجديدة والإعلام الحر والمسؤول في ترسيخ ديمقراطية مستدامة.تقدم الأحزاب الديمقراطية أفضل وسيلة لإشراك الشعب، حشد الضغط الفعال، تنظيم دعمٍ للسياسات، توجيه المطالب العامة، وتحديد وتعزيز القادة المهرة.
عالم متغير

تتمثل المشكلة في أنه من السهل الحشد للتدمير، ولكن الأصعب كثيرًا هو الحشد الهادف إلى إعادة البناء. التكنولوجيات الجديدة ليست كافية في حد ذاتها لاتخاذ الخطوة التالية قدمًا. بينما المؤسسات ضرورية، إلى جانب القدرة على فهم، معالجة وممارسة القيادة، التي تستمر مع مرور الوقت.
كاردوسو، الإصلاحي البرازيلي الذي أصبح رئيسًا
ومثلما علق كوفور: «الحشود لا يمكنها بناء المؤسسات؛ لذلك تعد القيادة أمرًا هامًا».في السنوات التالية، ربما ستضغط الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، المعززة بواسطة الشبكات الرقمية، على الأنظمة الاستبدادية بشكل أكبر وأكثر فاعلية من الماضي. ولكن تلك الحركات لا يمكنها أن تحل محل الأحزاب والقادة السياسيين. هؤلاء الأطراف هم من ينبغي عليهم في النهاية أن يبنوا المؤسسات والائتلافات الانتخابية والحاكمة، كسب الدعم الشعبي، إعداد وتطبيق السياسات، انتزاع التضحيات من أجل الصالح العام، إلهام الشعب للاعتقاد بأن الديمقراطية ممكنة، والحكم بشكل فعال.من الصعب بناء ديمقراطيات نشطة ومستدامة في البلاد التي ليس لديها تجارب حديثة للحكم الذاتي، حيث تكون المنظمات الاجتماعية والمدنية هشة، وتكون مؤسسات الدولة الضعيفة غير قادرة على تقديم القدر الكافي من الخدمات والأمن. قد يكون من الصعب أيضًا تأسيس الديمقراطية في الدول ذات الانقسامات الإثنية، الطائفية، والإقليمية القوية. ومع ذلك، يمكن للحكومات المنتخبة ديمقراطيًا أن تحكم بشكل استبدادي عبر تجاهل، إضعاف، أو تقديم شعارات فقط بشأن القيود التشريعية والقضائية التي يستلزم الحكم الديمقراطي وجودها. ولكن تعتبر هذه الدول تحديدًا هي من تحتاج إلى التغيير الديمقراطي بشكل أكثر إلحاحًا. تظهر نماذج غانا، أندونيسيا، الفلبين، جنوب أفريقيا، وأسبانيا أن تلك التحديات يمكن مواجهتها في ظل العديد من الظروف المختلفة، حتى في الدول المنقسمة بشكل عميق.يمكن اليوم حشد أكبر عدد ممكن إطلاقًا من الشباب المتعلم للتظاهر في الميادين العامة للمطالبة بالديمقراطية، خصوصًا عندما تندر فرص العمل. إلا أن التحدي يكمن في إشراكهم على نحو مستمر في بناء الأحزاب السياسية الدائمة والمؤسسات الأخرى. لا تتحقق الديمقراطية كنتيجة مباشرة أو حتمية لتجمع الحشود في الشوارع.بل يتطلب بناء الديمقراطيات الرؤية، المفاوضات والتنازلات، العمل الجاد، المثابرة، المهارة، القيادة، وبعض الحظ. ولكن رغم جميع العقبات، نجحت التحولات الديمقراطية في الماضي. ويمكن عبر تعلم وتطبيق الدروس المستفادة من تلك التجارب المساعدة في إسقاط الأنظمة الاستبدادية وتشكيل ديمقراطيات مستدامة محلها.