في عددها الصادر في أبريل/نيسان 1996، وضعت مجلة Time الأمريكية صورة «تيد كازينسكي» على الغلاف، تحت عنوان: «ملحمة العبقري المجنون».

ملحمية هذه القصة لا تنبع من كون البطل هو أول ذئب منفرد في العالم، ولكن بسبب التحولات الدرامية الحادة التي مرت بها القصة، والتي جعلت من الطفل المعجزة – الذي انضم إلى جامعة هارفارد في سن الـ 16، وحصل على الدكتوراه في سن الـ 25، وكان على وشك أن يُصبح أهم علماء الرياضيات في عصره – أخطر مُفجِّر في العصر الحديث، أو ما أُطلق عليه «أونابومبر». والذي تمكن من تنفيذ مُخططاته على مدى 18 عاماً دون أن يترك وراءه دليلا ماديا واحدا، يُمكّن المحققين من الوصول إليه.

صورة تيد كازينسكي على غلاف مجلة تايم
صورة تيد كازينسكي على غلاف مجلة تايم.

عبقرية فذة

ولد الطفل المعجزة، تيد كازينسكي، في 22 مايو/آيار 1942، في شيكاغو، إلينوي، وكان الابن الأكبر لزوجين بولنديين أمريكيين، واندا وتيودور. كطفل، كان كازينسكي لديه حساسية تجاه بعض الأدوية، وكان يقضي أوقات تعافيه من الأمراض غالباً في عزلة. وتشير بعض التقارير إلى أنه حدث تغير ملحوظ على شخصيته بعد دخوله المستشفى حينما أُصيب بطفح جلدي. كما ادعى أن وصول أخيه الأصغر، ديفيد، كان له تأثير قوي عليه.

عندما كان طفلاً انتقلت الأسرة من المدينة إلى حديقة إيفرغرين، وهي ضاحية من شيكاغو. دفعه والداه لتحقيق تقدم في حياته الدراسية. كان أصغر من زملائه، وكان مختلفاً عنهم بسبب ذكائه. ومع ذلك، كان كازينسكي مُنخرطاً بشدة في الأنشطة المدرسية. وقد أُطلق عليها اسم معجزة الأطفال من قبل خبراء التعليم.

تيد كازينسكي في شبابه
تيد كازينسكي في شبابه.

في عام 1958، في سن الـ 16 عاماً، التحق كازينسكي بجامعة هارفارد كمنحة دراسية، درس هناك الرياضيات. وبعد تخرجه عام 1962، واصل دراسته في جامعة ميشيغان، حيث قام بالتدريس هناك، بينما كان يُنهي أطروحة الدكتوراه الخاصة به.

عام 1967، أي في سن الـ 25، حصل كازينسكي على درجة الدكتوراه في الرياضيات، وقد نالت رسالته تقديراً واسعاً وإشادة في المجال الأكاديمي، وتم اعتبارها إضافة حقيقية في مجال الرياضيات. وتم تعيينه في نفس العام أستاذاً مساعداً في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.

وبعد عامين، وجد خلالهما كازينسكي صعوبة في تقديم محاضراته والتواصل مع طلابه،استقال فجأة من منصبه عام 1969.

تيد كازينسكي
تيد كازينسكي.

هجمات بلا دليل

بحلول أوائل السبعينيات، وبالتحديد عام 1971، كان كازينسكي قد تخلى عن حياته القديمة واستقر في مونتانا. بنى لنفسه «مقصورة صغيرة» بالقرب من لينكولن، بارتفاع من 10 إلى 12 قدما، لا يوجد بها مياه جارية أو كهرباء، حيث عاش في عزلة شبه كاملة، وتحرر من كل التفاعلات الاجتماعية. كان يقوم بصيد الأرانب وزراعة الخضروات، وقضاء الكثير من وقته في القراءة. وفي ظل هذه العزلة والحياة البدائية، وضع كازينسكي أُسس فلسفته الخاصة، القائمة على مناهضة الحكومة ومكافحة التكنولوجيا.

بحلول عام 1977، أُصيب كازينسكي بالغضب وخيبة الأمل، لأنه لم يستطع تحقيق ما كان يصبو إليه من عزلته التامة، فانتقل للعيش في منزل والديه في إلينوي، وحاول أن ينخرط مع المجتمع مجدداً، فلحق بوظيفة في نفس المصنع الذي كان يعمل فيه أخوه. وهناك، انخرط في قصة حب، لم يُكتب لها النجاح، ثم ما لبث أن فُصل من وظيفته. فعاد مرة أخرى إلى مقصورته في مونتانا. وكان الظهور الأول لـ «أونابومبر».

عام 1978، ترك كازينسكي قنبلة محلية الصنع في حزمة في جامعة شيكاغو، وعليها عنوان الإرسال؛ لأستاذ في جامعة نورث وسترن. تم نقل الطرد إلى شمال غربي البلاد، وقام بفتحه ضابط أمن في الحرم الجامعي، مما أدى إلى إصابته بجروح طفيفة عندما انفجرت القنبلة. ثم أرسل قنبلة أخرى إلى نفس الجامعة في العام التالي.

ثم استهدف كازينسكي شركات الطيران الأمريكية بقنبلتين: واحدة عام 1979 كانت تستهدف رحلة طيران أمريكية، ولكنها لم تنفجر. والأخرى عام 1980، حيث أرسلها إلى رئيس شركة يونايتد إيرلاينز، الذي أُصيب بجروح طفيفة.

وبدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي في التحقيق في هذه التفجيرات، وكانت القضية معروفة من قبل باسم UNABOM، اختصاراً لـ University and Airline BOMbing (تفجير الجامعات وشركات الطيران)، ولكن في نهاية المطاف عُرف المهاجم المجهول باسم «أونابومبر» Unabomber.

مقصورة تيد كازينسكي في غابة مونتانا
مقصورة تيد كازينسكي في غابة مونتانا.

وبحلول عام 1982، كانت قنابل كازينسكي أكثر تدميراً؛ في ذلك العام، أُصيب سكرتير في جامعة فاندربيلت وأستاذ بجامعة كاليفورنيا في بيركلي بإصابات خطيرة جراء عبواته الناسفة. ووقعت أول وفاة في ديسمبر/كانون الأول 1985 عندما قُتل صاحب متجر للكمبيوتر بواسطة جهاز خارج متجره، وعلى مدى العقد التالي، ستؤدي قنابل كازينسكي إلى مقتل شخصين وإصابات إضافية.

تيد كازينسكي تجنب القبض عليه لما يقرب العقدين من الزمن، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه صمّم قنابله بعناية فائقة، بحيث لا يمكن تتبع مصدرها، مُستخدماً أجهزة يدوية، دون أي استخدام للأدوات الكهربائية. وكان غالباً ما يستخدم القطع الخشبية في قنابله، وأحياناً كان يستخدم قطعاً عشوائية من الأشجار أو الطحالب. ولا شك أن استخدام كازينسكي للأخشاب بدلاً من الأجزاء المعدنية قد حدّ القوة التفجيرية لقنابله، وجعلها تُشوّه ضحاياه بدلاً من قتلهم.

غالباً ما كان كازينسكي يشتري مستلزمات قنابله من أماكن بعيدة للغاية عن مكان مقصورته، وكان يزيل عنها جميع الأرقام التسلسلية أو العلامات المميزة، وأحياناً كان يتعمد وضع قطع بعينها لأغراض التضليل. وكثيراً ما سافر لمسافات كبيرة بالحافلة لإرسال الطرود المتفجرة إلى ضحاياه، وأيضاً كوسيلة لترك أدلة كاذبة من شأنها أن تحجب هويته وموقعه.

أوقف كازينسكي نشاطه عام 1988، وقد تحيّر المحققون في أمره خلال هذه الفترة، وخمّنوا أنه ربما يكون قد مات، أو قرّر التوقف عن عملياته التفجيرية. ولكن، دكتورة سالي جونسون، التي عملت على تقييم حالة كازينسكي النفسية، كتبت في تقريرها عام 1998:

في ربيع عام 1988 أجرى السيد كازينسكي عدة استشارات مع متخصصين في الصحة العقلية حول مسألة إقامة علاقات مع النساء. فقد فكّر أنه ربما في سن الـ 45 لم يفت الأوان بالنسبة له في إقامة علاقة، وعند هذه النقطة، فكّر في ترك حياة العزلة، وإيجاد وظيفة وأنثى لنفسه.

ولكن، عام 1993، يبدو أن كازينسكي أدرك بعد ذلك أن الوقت قد نفد منه بالفعل، وأنه أصبح غير قادر على إقامة أي نوع من العلاقات الطبيعية. حينها استئناف موجة العنف من جديد، ولكن بهجمات أشد شراسة وفتكاً.

وحتى عام 1995، كان تيد قد قام بالتخطيط وتنفيذ 16 تفجيراً منفصلاً على مدى 18 عاماً، مما أسفر عن مقتل 3، وإصابة 23 آخرين. ليحصل مكتب التحقيق الفيدرالي الأمريكي على التحقيق الأطول و الأكثر تكلفةً في تاريخ الولايات المتحدة، دون الحصول على دليل مادي واحد، أو خيط جدي يربط تيد بهذه التفجيرات. كل ما ظفر به المُحققون على مدى 18 عاماً كان هذه الصورة، التي رُسمت بناءً على الوصف الذي أدلت به سيدة، هي الوحيدة التي رأت تيد من بعيد وهو يضع إحدى قنابله قرب أحد أهدافه.

صورة مرسومة لتيد كازينسكي.


الطريق إلى العبقرية أم الجنون؟

أثارت شخصية تيد كازينسكي ومسيرته الإرهابية جدلاً واسعاً، حول دوافع جرائمه وأفكاره، التي بمجرد إذاعتها على العامة، حتى وجدت عدداً لا بأس به من الأنصار والأتباع. ولكن، لا يمكن فصل هذه المسيرة وتلك الأفكار عن تطورات شخصية تيد وتجاربه الشخصية التي رسمت مسار حياته.

لذا دعونا نتعرف على التجربة صاحبة التأثير الأعظم على شخصية تيد وأفكاره.

ففي عام 1958، في سن الـ 16 عاماً، وبعدما التحق كازينسكي بجامعة هارفارد، كان من ضمن تلاميذ البروفيسور هنري أ. موراي (وهو الذي طوّر برنامجاً أثناء الحرب العالمية الثانية للصمود أثناء الاستجواب إذا ما تم القبض عليهم)، ولكنه موراي استغل تيد و21 طالباً آخر في واحدة من تجاربه واختباراته النفسية، حيث طلب من كل واحد فيهم كتابة مقالٍ يصف فلسفتهم عن الحياة، ثم طُلب منهم مناقشة معتقداتهم مع طلاب آخرين، ولكن كان هذا فخاً، فقد ناقشهم طلاب من كلية الحقوق، والذين قد دُربوا مُسبقاً على تمزيق أولئك الشباب خلال المناقشات واحتقارهم وإثارة غضبهم والسخرية من أفكارهم.

وقد اختار موراي حالات الاختبار (ومن بينهم تيد) بدقة شديدة، وهي الحالات غير المستقرة عاطفياً، لزيادة تأثيرات الضغط النفسي الذي يتعرضون إليه. ولكن يبدو أن هذه التجربة قد ساهمت بشكل واضح في تشكيل شخصية كازينسكي المستقبلية، بعد أن أججت في نفسه كراهية متأصلة لعلماء النفس.

وبعد ذلك، عمل كازينسكي على كتابة مقال من 23 صفحة، يُهاجم فيه التكنولوجيا والأبحاث العلمية المُمولة من الحكومة، ورأى أن المناهج الدراسية في جامعة هارفارد تُعزز فقط «معايير النخبة» و«قيم المثقفين»، ونما لديه اعتقاد بأن الرياضيات والعلوم لم تكن سوى مجرد آلية لتدمير المجتمع الإنساني.

وقد حاول تيد تجنيد أساتذة آخرين في قضيته تلك، لكنهم لم يكونوا مهتمين بالقضية، بعد ذلك بدأ كازينسكي في كره الأشخاص الموجودين في البيئة الأكاديمية من حوله، والذين لا يشاركونه أفكاره. وهو ما يُفسر استهداف هجماته للأكاديميين الجامعيين.

وقد بدت أفكاره أكثر وضوحاً في مقاله – المكون من 35 ألف كلمة – الذي أرسله إلى وسائل الإعلام الأمريكية، ونشرته صحيفة نيويورك تايمز، والذي جاء تحت عنوان: «المجتمع الصناعي ومستقبله»، وقد أطلق عليه تيد اسم «مانيفستو أونابومبر».

وبدا واضحاً أن كازينسكي رأى أن البشرية تعيش في مجتمع غير أخلاقي، وتخضع إلى التكنولوجيا والآلات. وكانت عملياته التفجيرية وسيلة للهجوم على أولئك الذين كانوا يشعرون بأنهم جزء من هذا النظام التكنولوجي الفاسد. وذكر نصاً:

التكنولوجيا في أيدي البشر كرجل مُدمن معه برميل من الخمر، ومن الأفضل إسقاط هذا النظام الخبيث… هناك تلاعب نفسي في كل مكان… النظام سيكون مُجبراً على استخدام الوسائل العملية للسيطرة على سلوكيات البشر… سنموت جميعاً في وقتٍ ما، من الأفضل الموت ونحن نقاتل من أجل قضية، بدلاً من العيش طويلاً بلا هدفٍ ومعنى.

ظهور المانيفستو و«سقوط أونابومبر»

صورة مرسومة لتيد كازينسكي
صورة مرسومة لتيد كازينسكي

جاء التحول الكبير في القضية عام 1995، عندما أرسل كازينسكي مقالاً من 35 ألف كلمة حول مشاكل المجتمع الحديث. وهدد وسائل الاعلام، مثل صحيفة نيويورك تايمز، في حال عدم نشر مقاله الذي أطلق عليه «مانيفستو أونابومبر»، وقال إنه سوف يُفجر طائرة إذا لم يتم نشر هذا البيان.

وبعد نقاشات حادة وواسعة النطاق داخل فريق تحقيق القضية، حول فكرة الاستجابة لطلب المُفجِّر من عدمه، تم نشر المقال بالفعل، تحت العنوان الذي وضعه كازينسكي: «المجتمع الصناعي ومستقبله»، وذلك في سبتمبر/أيلول 1995.

مانيفستو أونابومبر
مانيفستو أونابومبر.

وقع المقال في يد زوجة ديفيد، شقيق تيد، ثم ما لبثت أن عرضته على زوجها، وقد تمكنا من التعرف على أسلوب تيد، وبعض من أفكاره التي قد طرحها سابقاً، ثم قاما بمشاركة هذه الملاحظات مع مكتب التحقيق الفيدرالي، وذلك في أوائل عام 1996.

في 3 أبريل/نيسان 1996، وبمساعدة ديفيد، ألقى المحققون الاتحاديون القبض على تيد كازينسكي في مقصورة سيارته في مونتانا. وقد حملت وسائل الأنباء صوراً له وهو مُلتحٍ وكثيف الشعر، وأعطت البلاد والعالم أول لمحة عن «أونابومبر». وفي المقصورة، عثروا على قنبلة مكتملة وأجزاء أخرى من القنابل، وحوالي 40 ألف صفحة من مجلاته وصف فيها جرائمه بالتفصيل.

وفي يناير/كانون الثاني 1998، حاول كازينسكي الانتحار، وهو على وشك المثول أمام المحكمة. وقد أصرّ على ألا يدّعي محاموه أنه مجنون أو مُصاب بمرض عقلي. ثم اعترف بارتكاب 13 تهمة اتحادية تتعلق بالتفجيرات، وفي المقابل، وافقت الحكومة الاتحادية على عدم الحكم عليه بالإعدام.

وفي مايو/آيار 1998، حُكم على كازينسكي بالسجن مدى الحياة. وقد تم إرساله إلى منشأة السجون الإدارية الأمريكية شديدة الحراسة في فلورنسا بولاية كولورادو، بجوار مفجر مدينة أوكلاهوما سيتي «تيموثي ماكفي»، ومُهاجم مركز التجارة العالمي «رمزي أحمد يوسف».

يقبع كازينسكي حالياً في السجن، وقد بلغ الـ 75 عاماً، ومازال يرى أنه رغم الرعب الذي تصوره وسائل الإعلام حول التفجيرات التي قام بها هو وغيره، فإنها تتضاءل بجوار فظائع أخرى في هذا العالم، فالجيوش والسياسيون يقتلون أعداداً أكبر من الناس، وبدوافع أكثر دموية.