تعالتْ أصوات النحيب مجدَّدًا من بيوتات الزبيريين في الحجاز، بعد أن سكنت لأكثر من عشرين عامًا منذ المحنة الكبرى التي تعرَّض لها هذا البيت العظيم الذي فقد عميديْه، مصعب بن الزبير والي العراق لأخيه عام 72هـ بعد هزيمة جيوشه أمام الأمويين بزعامة عبد الملك بن مروان، في موقعة دير الجاثليق، والتي لم يحسمها الأمويون إلا بعد استخدامٍ مكثف لأساليبهم المعتادة من الخديعة، والرشوة لقادة جيوش العراق كي يتخلوا عن بيعتهم للزبيريين.

ثم كانت الطامة الكبرى في العام التالي 73 هـ، عندما أسند عبد الملك لرجل مهامه القذرة الحجاج الثقفي مهمة القضاء على عبداللهبنالزبير -رضي الله عنه- في آخر معاقله في الحجاز. فلم يهدأ للحجاج بال، حتى حاصر مكة بجيش عرمرم، وحصر ابن الزبير في الحرم المكي الذي لم يسلم من قذائف مجانيق أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان! حتى قُتل رحمه الله شهيدًا وقد جاوز السبعينَ من عمره، واستنزلت أمه أسماءبنتالصديقأبيبكر -رضي الله عنهما- ذات التسعين عامًا ويزيد، جثمانه الطاهر الذي صلبه الحجاج، بعد أن أغلظت للأخير القول.

هذه المرة فُجع البيت الكريم بخبيب بنعبداللهبنالزبير، أسنُّ أولادِ عبد الله، والمعدود من أشراف الحجاز نسبًا وعلما، والذي اشتهربطلبالعلم، ورواية الأحاديث عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- وكذلك بالنقمة الشديدة على الأمويين الذين استأثروا بأمر الأمة بالسيفِ والدينار، ولم يتورعوا عن سفكِ الدماء الزكية للآلاف، وفي القلب منها والده عبد الله شهيد البيت الحرام.

مات خبيب على سريره، تكتنفُهُ عيون أهله المغرورقة بالدموع، متأثرًا بجراحه الشديدة التي نالته من جراء المائة الجلدة التي ألهبت ظهره بها سياط والي المدينة المنورة الأموي.


مجلس الخليفة الوليد بن عبد الملك بدمشق

*حوار تخيلي، قبل أسابيع من الفاجعة

ما تزال الرسائل تتوالى من الحجاز بما لا يسر يا مولاي

قالها بغضبٍ لا يخلو من الاصطناع أحد الحاضرين مخاطبًا الوليد.

قطَّب الوليد جبينه في اهتمام

لقد كدنا ننسى الحجاز منذ أن أخمد أبي نار الزبيريين، فهل عاد بعض الشرر تحت الرماد؟
بل أشد يا مولاي. لقد نجمَ النفاقُ بالحجاز، ونسيَ أهل المدينة مصارع عُصاتهم في الحرة، لما أعدناهم صاغرين إلى حظيرة الطاعة، وبيعة الخليفة يزيد، حتى وصل الأمر بخبيب بن عبد الله بن الزبير أن حدَّث أهل المدينة عن الرسول (ص) بأحاديثَ تطعن في أمير المؤمنين وآبائه الخلفاء العظام، مما أخجل من قوله
ازداد جبينُ الوليد تقطيبًا، وصاح غاضبًا
ماذا قال يا رجل؟!
ازدرد الرجل لعابه في حذر ثم قال
اعذرني يا مولاي .. احم .. أحدها يقول إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً، اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دُولاً

وجم الوليد لبرهة، بينما الغضب يتراقص على تقاسيم وجهه.. فأكمل الرجل قائلًا:

واليكم على المدينة يا أمير المؤمنين قد قرَّب في مجلسه الكثيرين من مثل خبيب، من الفقهاء المحرضين على دولتكم، ففتنوا العوام. وكونه ابن عمكم وصهركم، يجعل الأمر جد خطير.
رد الوليد بعد تفكر
لقد اخترت عمر بن عبد العزيز منذ سنوات لولاية المدينة، لما يتسم به من لين في غير ضعف، ولمحبة الحجازيين له مذ عاش صغيرًا في أكناف أخواله هناك. وما أردت من هذا إلا تسكين ما بقي في النفوس هناك من آثار الفتن والوقائع. لكني ضقت ذرعًا بميله إلى من جاهروا بعدائنا، وباشتباكه المتكرر مع الحجَّاج عماد دولتنا ووالينا على العراقيْن.

الصدمة

كاد عمر يغشى عليه عندما وصلته الأنباء عن وفاة خبيب بعد أيامٍ من أمره بإعادته إلى منزله بعد أن نفذ فيه أمر الوليد بالجلد، ثم صَبِّ الماء البارد على جراحه الملتهبة. غشيت قلبَهُ الحي حالةٌ من إنكار الذات والواقع.

ومضى أمام ناظريْهِ شريط الأعوام الستة التي قضاها واليًا على المدينة، حيث كان يطيرُ فرحًا عندما يصل إلى مسامعه ثناء أهل المدينة عليه، واستحسانهم صنيعَه بتقريب فقهائها وسادتها حتى من البيوت المعارضة للأمويين كعروة بن الزبير، وعقد مجلس للشورى منهم لا يقطع شأنًا دون مشورته، وكذلك حمايته لمن التجأ إليه هربًا من الحجاج.

وكم تناقل الناس الأحاديث عن رسالته شديدة اللهجة التي أرسلها إلى صِهره الخليفة الوليد، يطلب منه فيها أن يكف بطش الحجاج عن أهل العراق، وكم تحاكَى كبار المدينة وصغارها بأمر الوليد للحجاج – بينما كان الأخير أمير الحج العام الفائت 92 هـ – ألا يمر على المدينة في طريقه إلى مكة، بناء على طلب عمر الذي لا يطيقه، لم يصدق عمر أنه بعد بلائه الشريف في ولاية المدينة، سينتهي به الحال مرتكبًا جريمة حجَّاجية بشعة.

أرسل عمر أحد الفقهاء من خاصته يستطلعوفاة خُبَيب -إذ كان الإنكار لا يزال يعتمل في نفسه- فلما عاد إليه مؤكدًا الخبر، خرَّ على الأرض مغشيًّا عليه، وضاقت به الأرض بما رحبت أيامًا. وكل من رآه في هذه الحال، ظنَّ أنه سيعتزل الدنيا إلى ما شاء الله، وأن هذه هي خاتمة الحياة العملية لهذا الشاب الأمويأبا، العمريّ أماوخُلقا


خُبيبٌ بالطريق

حتى اشتكى الأخير غيرَ مرة من هروبالكثيرمنالمطلوبينلهمنالعراقإلىالحجاز محتمين بعمر. وقد آليْتُ على نفسي أن أحسم هذا الأمر قريبًا، وإني مرسل إليه كتابًا شديدًا، آمره فيه بجلد خبيب مائة سوط، فإن لم يفعل، كان لي معه أمرٌ آخر.

استعفى عمر من ولاية المدينة المنورة بعد الحادثة، وارتحل عن المدينة إلى الشام. لم تدُم عزلة عمر الاختيارية الإجبارية في الشام أكثر من 3 سنوات، هلك خلالها الحجاج عام 95 هـ، ثم الوليد 96 هـ، بعد أن فشلت محاولة الأخير التي طالما حرَّضه عليها الحجاج، أن ينقل ولاية العهد من أخيه سليمان إلى أحد أولاده. إذ كان سليمان يمقت الحجاج ويجاهر بذلك، ويتوعده سرًّا وجهرًا، ويعِدُ دائمًا بألا يحكم الناس بغلظة أبيه وأخيه وحجاجهما.

تولى سليمان الحكم، واستنجد بابن عمه عمر كي يعينه على إقامة ما اعوجَّ من أمر المسلمين بظلم أسلافه. كانت الذكرى الأليمة لا تزال ثقيلة في نفس عمر. وكلما امتدحه أحدٌ بسابقٍ أو لاحقٍ من أعمال الخير في ولايته على المدينة وبعدها، كان يستعبر، ويقول (كيف وخبيب لي بالطريق).

ولأن خُبَيْب كان دائمًا بطريق عمر، فقد قبل دعوة ابن عمه، وصديقه المقرب، ليكون مشيرَهُ ووزيرَه.فأعانسليمانَ على التخلص من الولاة الطغاة من مدرسة الحجاج، ومنهم خليفته على ولاية المدينة، وكأنه يصالحُ أهلها على البعد، وقاما بإبطالِ بعض مظالم نصف قرنٍ أو أكثر من حكم الأمويين القاهر على رقاب الناس وأموالهم ومعاشهم.

واختتم سليمان سنوات حُكمه القصيرة الثلاث بالخروج على مألوف توريث الأمويين الحكم للأخ أو الابن، فأوصى بولاية العهد من بعده لعمر بن عبد العزيز ! ولأن ما يخشاه المرء، غالبًا ما ينال منه، فقد نجح الحُكْم في مطاردته لعمر، حتى أمسك به، وألقى بنفسه في حجره . وهذه المرة لم تكن مجرد ولاية بعيدة عن العاصمة دمشق، إنما حكم أقوى ممالك الدنيا، من دمشق التي طالما كان يخشى قصورها ومؤامراتها وسلطانها.

ولأن خُبيْبًا كان دائمًا بالطريق، فلعل عمر قد تجرَّعَ كأس الأمانة المرة التي ألقاها له سليمان، كي يحول ما استطاع دون انضمام الآلاف من مثل خُبيْب إلى مذابح السلاطين وحجَّاجيهم. ولهذا سجلت صحائفُ التاريخ في فترة حكمِه الخاطفة -عامين ونصف- عجائبَ في العدل ورد المظالم، خاصة من ذوي القربى من الأسرة الكسرويَّة الحاكمة، وامتاز فيها بالشدة على من يستسهل الشدة على الناس من ولاته وقادة جيوشه.

مرَّ عمر الخليفة على دنيا الناس سريعًا كطيفِ منامٍ خاطف، لم يكن يُثقِلُه سوى ذكرى خُبيْب الماثلة له والمُتمَثَلة في كل حين. وما لبثت ريما أن عادت لعاداتها القديمة، وعادت دولة الأمويين إلى مسار هلاكها المحتوم على منحدر المظالم، وتتابع على هذا الدرب المشئوم مئاتٌ من الدول وملوكها، ممن تنوء رقابُهم بالآلاف من خُبيْب وأترابه، عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، واستعذاب المظالم. فكان ولا يزال عمر شاهدًا على هؤلاء في العدل والإصلاح والنزاهة، وحسن التوبة.

رحم الله خُبيْبًا وقاتلَه.