محتوى مترجم
المصدر
ًًٌِWAR ON THE ROCKS
التاريخ
2016/01/04
الكاتب
سليم كورو

لقراءة الجزء الأول اضغط (هنا)

طوال تاريخها الحديث، سارت السياسة الخارجية التركية بثبات وفق المعايير الدولية ووضعت ثقتها في المؤسسات العالمية، وخصوصًا في مسائل الدفاع. كان من نتيجة ذلك أن تميزت الإستراتيجية التركية عن جيرانها. إلا أن تداعيات الحرب الأهلية السورية قد اضطرت أنقرة للذهاب بعيدًا عن نهجها الليبرالي القائم على القواعد في السياسة الخارجية، والشروع في إعادة توجيه قدراتها واهتماماتها لمواجهة الأخطار الجديدة في واقع جديد. كان هذا بمثابة شق طريق جديد خارج النسق المعتاد.

سيكون مفيدًا بذات السياق التطرق إلى مسألة كيف تفاعلت دول المنطقة في التاريخ الحديث مع الاضطرابات التي جاورت حدودها.

لما غرقت إيران في فوضى الثورة عام 1979، رأى صدام حسين أن الفرصة مواتية لغزو جارته. ولما عمت أوكرانيا مظاهراتٌ عارمة ضد رئيسها الموالي لروسيا، أرسل بوتين قوات روسية لا ترتدي الزي الرسمي أججت نيران التمرد واستولت – لاحقًا – على جزء من البلاد.

على العكس من ذلك، وعندما اهتز النظام السوري على وقع الاحتجاجات عام 2011، طار داود أوغلو وزير الخارجية آنذاك إلى دمشق للتباحث مع الأسد، محذرًا إياه من أن أية حرب أهلية ستكون كارثية وطالبًا منه الكفّ عن استخدام القوة ضد شعبه. قال داود أوغلو في وقت لاحق: «حاولت أن أشرح له ذلك في أحد أيام رمضان، دون طعام لمدة سبع ساعات». لم يخامر المراقبين أدنى شك بأن تسفر هذه الزيارة عن استجابة الأسد لتأثير داود أوغلو. بدا الأخير كما لو كان مؤمنًا بقدرته على تغيير مسار الأحداث عبر قوة الإقناع فحسب. وبطبيعة الحال فإن الأسد كان يفكر في تلك الأثناء بما حلّ بزميله المصري حسني مبارك الذي كان مسجونًا والتونسي زين العابدين بن علي الذي أجبر على مغادرة السلطة إلى المنفى.

وما إنْ بدا واضحًا لأنقرة أن سوريا ذاهبة باتجاه حرب أهلية، حتى كان من المتوقع أن يستجيب «المُنْعَكَس الكمالي the Kemalist reflex» بإغلاق الحدود فورًا. بَيْدَ أنَّ هذا لم يكن خيار حزب العدالة والتنمية.

شعر أردوغان، الذي كان ينظر إلى الأسد على أنه مبتدئ وقليل الخبرة السياسية، بأن الأخير لم يحترمه. زادَ ذلك من عزم أردوغان على أن يتخذ ضد الأسد ذات القرار الصارم الذي كان يدخره ولو بصورة مختلفة ضد خصومه المحليين. قاد هذا تركيا إلى إلى خوض حرب بالوكالة عبر حدودها. وكانت هذه أول حرب من نوعها في تاريخ تركيا الجمهوري.

بعد أكثر من خمس سنوات على الحرب، ضعُفَ نظام الأسد، لكنه بقي حيًا، وأنشب تنظيم الدولة الإسلامية مخالبه في أرجاء المنطقة، بما في ذلك تركيا نفسها. وإضافة إليه، بات لتركيا دود بحكم الأمر الواقع مع الإدارة الذاتية الكردية التي يحكمها حزب الــ بي واي دي (الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني الانفصالي)، ويسود الآن حالة من الضعف والتشرذم في صفوف المتمردين الإسلاميين الذين تدعمهم تركيا، في حين يحظى حزب الــ بي واي دي بالدعم الغربي ويَظْهَرَ أكثر اتحادًا من ذي قبل. وفي غضون ذلك، تدعم كل من روسيا وإيران الأسدَ إنْ في الميدان أو في المفاوضات الدبلوماسية مع الغرب. أمام كل ذلك، من الجائز القول، إنّ الحرب لم تجرِ على نحو جيد بالنسبة لتركيا.

تكمن مشكلة تركيا الرئيسة في كون فصائل المعارضة التي تقدم لها الدعم، مشتتة التنظيم وغير مستساغة الأيديولوجيا.

تكمن مشكلة تركيا الرئيسة في كون فصائل المعارضة التي تقدم لها الدعم، مشتتة التنظيم وغير مستساغة الأيديولوجيا، فالجيش السوري الحرّ خليط رخو ومهلهل من مجموعات ثورية، وهو بعيد عن أن يشكل تهديدًا حقيقيًا لدمشق أو الرقة، وحركة «أحرار الشام» – وهي القوة القتالية السلفية الضاربة – ليست خاضعة للإرادة التركية، كما أن تعاونها مع «جبهة النصرة» التابعة للقاعدة يصعّب من فكرة تقبلها كطرف في أي محادثات سلام.

حاولت أنقرة في عام 2015 تنظيم التركمان في تشكيل عسكري أطلق عليه اسم «فرقة السلطان مراد»، لكن تبين مع الوقت أنه من الصعب بناء قوة عسكرية من التركمان في الآن الذي يتوزع فيه العديد منهم على مختلف الفصائل الثورية حول حلب.

تعرض برنامج التدريب والتسليح – الذي دُشِّن بالتنسيق مع إدارة أوباما المترددة طيلة الوقت – لفشل ذريع، إلى أن أغلق بشكل كلي عام 2015. ولم يكن مصير البرامج الشبيهة الأخرى التي طرحتْها الولايات المتحدة بأفضل حالًا. بالمحصلة، لم توجد قوات برية موثوقة على الأرض السورية تلاقت مصالحها على طول الخط مع المصالح التركية.

قدمت روسيا وإيران الغارقتان في اعتماد سياسة القوة، الإسنادَ والدعمَ لنظام الأسد ضد مختلف المجموعات الثورية، فلقد منحت الميليشيات المدعومة إيرانيًا والمنتشرة عبر سورية الدعم للمجموعات الشيعية ضد الثوار منذ السنوات الأولى للحرب، كما وجلب الروس معهم في الآونة الأخيرة مجموعة من الأسلحة الفعالة كالدبابات والأنظمة المضادة للطائرات، واستخدموا منذ أيلول/سبتمبر قاعدة اللاذقية الجوية (حميميم) لاستهداف أعداء عميلهم الأسدي ودَفْعِهم للخضوع. وبذلك ابتنت هاتان القوتان (روسيا وإيران) – بما لديهما من خبرات طويلة في تجاوز الحدود لتحقيق أهداف سياستهما الخارجية – الأساسَ لحربٍ بالوكالة في سورية، محققتين من خلال ذلك نجاحًا في إبعاد يد التدخل الغربي عن مناطق النفوذ الخاصة بهما.

لم تكن تركيا مهيئة للتعامل مع التهديد الصادر عن سورية، ويعزى شطر من ذلك إلى كون هذا التهديد ماكان – حسب التقييم التركي – مفترضًا به أن يكون.

تعد تركيا – بخلاف روسيا وإيران – جزءًا من أكبر حلف عسكري (الناتو) على وجه المعمورة، وبذلك ضمنت لنفسها مكانًا في تكتل أكبر يفوق قدراتها الذاتية. أصرت تركيا مع سير الحرب على قائمة طويلة من الحاجات التي طلبتها من حلفائها؛ سفن حربية مزودة بأنظمة دفاع صاروخي في بحر إيجه شرق المتوسط ومنظومة باتريوت المضادة للصواريخ وطائرات الرادار «أواكس» وخطط تفصيلية عن الدفاع الجوي وغيرها من الحاجات، ولقد حصلت تركيا على العديد مما طلبته لكن من دون اندفاعة وحماسة غربية (على استحياء).

أصيبت تركيا بالإحباط أواخر عام 2015 لما سحبت الولايات المتحدة أنظمة باتريوت المضادة للصواريخ الخاصة بها والمنتشرة على طول الحدود التركية المحاذية لسورية تحت دعوى حاجة هذه الأنظمة للتحديث والتجديد.

أصيبت تركيا بالإحباط أواخر عام 2015 لما سحبت الولايات المتحدة أنظمة باتريوت المضادة للصواريخ الخاصة بها والمنتشرة على طول الحدود التركية.

لكن الأمر الأكثر أهمية هو رفض إدارة أوباما المتكرر طلب تركيا الرئيس: إنشاء منطقة آمنة بمساعدة دولية في منطقة الحدود مع مدينة اعزاز السورية.

كانت إدارة أوباما على علم بمدى عجز تركيا بقواها الذاتية عن خلق مناطق آمنة وبمدى تزايد سيطرة روسيا وإيران على المشهد في سورية.

تعذّر بدايةً على النخبة السياسية في أنقرة معرفة الرد الأمثل على تردد وفتور الناتو، لكن الواقع أثبت لاحقًا أنه وأيًا يكن مبعث الغموض وراء ذاك التردد – فإن إصرار إدارة أوباما على تقديم الدعم للـ بي واي دي قد بدد أي أمل لتركيا بالحصول على دعم الناتو والولايات المتحدة للتحرك في سورية.

حافظت أنقرة منذ بداية الحرب الأهلية السورية على تواصل مستمر مع قيادة الـ بي واي دي ووافقت ضمنيًا على أن تقدم الولايات المتحدة الدعم لها باعتبارها القوة القتالية الأكثر فعالية في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، ولكي تتحايل على قوانين مكافحة الإرهاب ميّزت إدارة أوباما بين حزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية وبين الـ بي واي دي في سورية.

ومنذ انهيار عملية السلام بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني منتصف 2015، يخوض الجيش التركي حربًا مريرة في مقاطعات سور (محافظة دياربكر) وجزرة وسيلوبي (محافظة شرناق) في الجنوب الشرقي لطرد المتمردين الأكراد.

تأمل تركيا وهي تخوض حربين في آن واحد ضد حزبيْ العمال الكردستاني والـ بي واي دي أن يسندها حلفاؤها الأوروبيون والأمريكيون إلا أن إدارة أوباما ما زالت متشبثة بموقفها الذي يرى أن الحزبين كيانان منفصلان.

لا يتعلق الأمر هنا بـ«شرعية» دعم الـ بي كي كي بقدر ما يتعلق بمدى «إخلاصيته» و«وفائه»، فالدعم الأمريكي العلني للـ بي كي كي في الوقت الذي أصبحت فيه جنائز الجنود الأتراك خبرًا يوميًا بات مثيرًا للغيظ، لا سيما وأن للمصوتين المحافظين في تركيا عداءً فطريًا للسياسات الأمريكية في المنطقة.

ولقد عبّر أردوغان عن ذلك الغيظ في إحدى خطاباته الدورية المتلفزة، قائلًا بحدة: «هل أنتم بجانبنا أم بجانب الإرهابيين؟».

يمكن اعتبار هذا التباين بين المصالح الأمريكية من جهة والتركية من جهة أخرى، الخلافَ الأكثر أهمية منذ أزمة قبرص عام 1974، ففي تلك الأزمة بدا التصرف التركي الأحادي الجانب كهفوة عابرة ضمن مسيرة انضباطية. كان بمثابة الاستثناء الذي يثبت القاعدة. أما الآن وفي ظل غياب الاعتبارات التي كانت تفرضها الحرب الباردة فإن من شأن عدم التوافق بين تركيا والولايات المتحدة حول الـ بي واي دي، حلّ الروابط التي تجمع بين البلدين. وبمقدار ما تنفك عرى هذه الروابط، بمقدار ما ترسم النخبة السياسية بأنقرة دوائر واسعة ومحفوفة بالمخاطر أكثر من أي وقت مضى.


المؤسسات الأمنية التركية

كتب جيفري غولدبرغ في مراجعته الحديثة لتوجهات سياسة أوباما الخارجية، إن «أوباما يعتبر أردوغان فاشلًا ومستبدًا، وإن أردوغان يرفض استخدام جيشه الهائل لفرض الاستقرار في سورية».

تستند دعوى أوباما إلى أن بوسع المؤسسة الأمنية التركية جلب الاستقرار لسورية، إلا أن أردوغان هو من يحول دون ذلك. لكن نظرة عن قرب إلى مؤسسة الجيش والمخابرات التركية كفيلة للحكم على افتراض أوباما بأنه خاطئ.

صحيح أن لتركيا جيشًا عرمرمًا لكنه أعجز عن أن يُزَجَ به في بيئات سياسية شديدة التعقيدة، فضلًا عن افتقار تركيا عمومًا لثقافة مؤسساتية تتحمل الجهد العسكري الخارجي.

صحيح أن لتركيا جيشًا عرمرمًا لكنه أعجز عن أن يُزَجَ به في بيئات سياسية شديدة التعقيدة، فضلًا عن افتقار تركيا عمومًا لثقافة مؤسساتية معتادة على التعامل مع ظرف التوتر السياسي الذي سينتج عن الجهد العسكري الخارجي والذي سيلقي بظلاله على البيروقراطية التركية، ولقد كشفت الحرب الأهلية السورية عن هذا العجز بشكل جلي.

من المفيد في هذا الصدد التفكير فيما كان بإمكان الجيش التركي فعله ولم يفعله. نُوقشت عدة مرات فكرة التدخل البري التركي، كان آخرها عندما قطعت قوات النظام السوري طريق الإمداد التركي إلى حلب. غير أن شيئًا من هذا لم يحصل. ورغم أن حكومة العدالة قد بحثت مرارًا فكرة التدخل لكنها آثرت الاكتفاء بتقديم الدعم والعون للثوار وعملت في غضون ذلك على قطع دابر كل مامن شأنه جرّها للحرب، بما في ذلك ضريح سليمان شاه الذي يقع داخل الأرض السورية على عمق 27 كم والذي يحرسه جنود أتراك منذ عام 1923 على إثر اتفاقية لوزان، حيث قامت الحكومة التركية بنقله إلى داخل تركيا بعد تلقي تهديدات من تنظيم الدولة الإسلامية بنسفه. وعندما اقتحم تنظيم الدولة الإسلامية القنصليةَ التركية في الموصل واحتجز 46 مواطنًا تركيًا كرهائن لأكثر من ثلاثة أشهر، فاوضت أنقرة التنظيم لإخراجهم متجنبةً المواجهة الصريحة وحالت بذلك دون الانتقام.

شاركت القوات المسلحة التركية في الحرب بشكل أساسي من خلال القصف المدفعي والضربات الجوية.

كان سلاحُ الجو وسيلةَ تركيا الأساسية لردع وحدات حماية الشعب، لكن منذ إسقاط تركيا للطائرة الروسية في نوفمبر 2015، أصبح دخول الأجواء السورية غير متاح بالنسبة لتركيا.

اقتصر التدخل التركي إثر ذلك على القصف المدفعي الذي يبطئ تقدم وحدات حماية الشعب لكنه عاجز عن إعاقتها لفترة طويلة.

كان من محصلة ذلك أن خرجت القوات المسلحة التركية من معادلة الصراع في سورية. وبدون قوة ضاربة في الميدان، عجزت تركيا عن إقامة منطقة آمنة تحمي اللاجئين وتمنع (وربما يكون هذا هو الأهم) قوات النظام والـ بي واي دي من قطع الطريق إلى حلب.

توجد عدة أسباب لحالة الغياب التركي عن الساحة، أولها سياسي، إذ توجد بقايا توتر سياسي ما زالت قائمة بين حكومة العدالة ومؤسسة الجيش، فخلال السنوات الأولى من حكم العدالة، كان ثمة مخاطر ضمنية من حصول انقلاب عسكري. عندما استطاعت الحكومة بمساعدة حلفائها من جماعة غولن في السلطة القضائية، تحييدَ تلك الفئة من العسكر، انقلبت الآية وخشي كثير من القيادات العسكرية أن يصبحوا أهدافًا لمعارك سياسية.

ينطوي تعديل سياسة تركيا الانعزالية على مجازفة خطرة تتطلب قدرًا من الثقة تفتقر إليه العلاقات العسكرية المدنية في الوقت الحالي.

أما السبب السياسي الآخر فهو أن نتائج الانتخابات قد قُرئتْ على نحو أعاد للأذهان ذكريات الكثير من الحروب، متبوعةً باستطلاعات رأي تظهر رفضًا عامًا للتورط في سورية، ما حدا بقيادة الحزب للعدول عن المخاطرة بأصوات ناخبيها، خصوصًا وأن التدخل نفسه كان موضع أخذ ورد داخل القيادة.

أما على المستوى الإستراتيجي فلقد تعينَ على تركيا ضبط حدودها مع سورية والبالغة 822 كم، وإذا ما تدخلت تركيا مباشرة في سورية فلن يكون صعبًا عندئذٍ تخيل مدى العنف الذي سيعبر إلى الجانب التركي على طول الحدود.

كما ويمكن اعتبار الهشاشة الطارئة على الجبهة الداخلية التركية سببًا آخر حال دون حصول تدخل تركي، فمع حلول أواخر عام 2015 ومع استئناف تركيا لحربها ضد حزب العمال، كرست قوى الأمن والجيش القسم الأعظم من مواردها وجهودها للمناطق الشرقية في سيلوبي وجيزرة وسور ومؤخرًا نصيبين.

ووفقًا لشهادة ضابط قريب من العمليات القتالية الدائرة هناك، فإن عددًا محدودًا من قوى الأمن قد تلقت تدريبات ضد حرب المدن والكثير منها يفتقر إلى المعدات الأسياسية مثل الدروع الواقية وأدوات مكافحة الشغب.

أما على الجانب الآخر، فلقد استغل حزب العمال الكردستاني فترة الهدنة الطويلة مع الحكومة في ترسيخ قوته العسكرية ودفن المتفجرات أسفل الطرق الإسمنتية وزرع القناصة في المناطق الحساسة.

ولاستعادة زمام المبادرة، اعتمدت القوات المسلحة التركية على المدفعية بشكل مكثف، وهو ما أدى عمليًا إلى نسف أحياء بأكملها. لم يكن هذا الاستخدام المفرط دليل قوة بقدر ما كان مؤشر ضعف.

كما وغدا العديد البشري في القوات المسلحة معضلة في حسابات تركيا الإستراتيجية فيما يخص سورية، ففي يناير الفائت اشترك حوالي 2000 عسكري تركي في معركة ضد 200 مقاتل من حزب العمال الكردستاني في منطقة «سور» وحدها، وتبعًا لمصدر مسؤول فإن الغالبية العظمى من فرق العمليات الخاصة التابعة للجندرمة التركية كانت منتشرة في نقطة واحد في الجنوب الشرقي، إلى جانب العديد من قوات العمليات الخاصة التابعة للجيش، ولو كانت تركيا قد تدخلت في سورية وقتذاك، فإنها كانت ستعاني من نقص حاد في القوات الخاصة. وتلك كانت معضلة كبيرة للقوات المسلحة التركية.

في وقت سابق على الحرب، وعندما كان اتفاق وقف إطلاق النار بين الحكومة وحزب العمال صامدًا، لم يتوانَ الأخير عن استغلال فترة الهدنة لصالحه، فتدفق عدد من مقاتلي الحزب المخضرمين عبر الحدود السورية مشكلين العمود الفقري لحزب الاتحاد الديموقراطي؛ وحدات حماية الشعب.

وبينما كان حزب العمال يهيئ نفسه لإنهاء عملية السلام واستئناف الحرب، كان يُنظر داخل القوات المسلحة التركية إلى أي استعداد للحرب على أنه عدم إيمان بعملية السلام وتاليًا بالقيادة السياسية التي ترعاها.

وعليه كان الجيش التركي غير مستعد لحرب ضد حزب العمال، فضلًا عن التدخل بسورية في ذات الوقت.

أثارت هذه الحالة تغييرات إستراتيجية وهيكلية كبيرة داخل الإدارة التركية، فلقد عيِّن الجنرال خلوصي أكار رئيسًا للأركان العامة في آب/أغسطس 2015، وبخلاف سابقيه في المنصب الذين أمضوا جل أوقاتهم في التفكير بالسياسة، عرف عن خلوصي أكار أنه جاد في عمله ومنهمك بالتفاصيل الفنية الدقيقة، وبسرعة جمع خبراءه في أنقرة للوصول إلى إستراتيجية شاملة حول حرب المدن ولاستحداث نسخة من حملة «القلوب والعقول» التي عادة مايشار إليها بهذا الاسم في كتيبات مكافحة التمرد التي تستخدم في الولايات المتحدة.

افتتحت برامج تدريب واستُبعد المجندون عن الخدمة في أماكن القتال، وهو ماكان مشهدًا مألوفًا في السابق، لصالح المتطوعين الأكفاء، وكثّف المتخصصون في الكلية الحربية من جهودهم لابتكار استراتيجيات وخطط للتعامل مع الصراع في البيئات المعقدة، وهو ماظهر واضحًا في الندوة التي عقدت حول «الحرب الهجينة» في آذار 2016، ولقد شرح ضابط برتبة متوسطة الوضع لي قائلًا: “الأمور الآن ليست كما كانت قبل الحرب الأهلية السورية، نحن نعرف أن علينا أن نتغير».

لكن المؤسسة التركية التي وجدت نفسها على عكس الأخريات منخرطة في سورية كانت جهاز الاستخبارات الوطني، وهي وكالة التجسس التركية الرئيسة.

قبل أزمة سورية، انهمكت هذه الوكالة بمسائل الاستخبارات الداخلية ولم يكن لها شهرة في المنطقة. في أيار 2010 عين أردوغان حقان فيدان على رأس هذا الجهاز. أنهى فيدان الذي كان يعمل مسؤولًا في وكالة التعاون والتنسيق التركية في ذلك الوقت، أطروحته للدكتوراه والتي كانت بعنوان: «الدبلوماسية في عصر المعلومات: استخدام تكنولوجيا المعلومات في التثبت». كان فيدان شديد القناعة بضرورة الشروع بإصلاح جهاز المخابرات وتوجيهه نحو الخارج وتطويره بحيث يصبح أكثر حرفية مع إجراء فصل بين أعمال الاستخبارات الداخلية من جهة والخارجية من جهة أخرى.

وعند الأخذ بعين الاعتبار لطبيعة العمل الاستخباراتي، فإن عملية تطوير أدائه كما أراد فيدان تحتاج إلى سنين، وقد تستغرق عقودًا. ولكن عندما اندلعت الحرب الأهلية السورية، وجد جهاز المخابرات التركي نفسه في وضعية طوارئ دون سابق إنذار ودون أن تأخذ عملية إصلاحه مداها اللازم.

بفضل العلاقة المميزة التي تجمع أردوغان مع رئيس جهاز المخابرات فيدان (وهو مالم يكن متوفرًا في حالة الجيش)، أصبح الجهاز أداة الدولة الأساسية في رسم سياستها حول سورية. وبدأ جهاز المخابرات بالاتصال مع مجموعات الثوار السوريين وتنظيم شحنات السلاح والذخائر إلى سورية. كانت ميزانية الجهاز لعام 2011، 751 مليون ليرة تركية، في حين وصلت بعام 2016 إلى 1.637 مليار ليرة تركية. خصص جزء كبير من الميزانية لتمويل إنشاء مقرات جديدة وشراء تكنولوجيا رقابة متطورة. وركزت الوكالة على تجنيد أعداد كبيرة من المتحدثين باللغات الأجنبية، وبشكل أساسي العربية. وفي غضون ذلك، ارتقت مكانة فيدان إلى مايشبه مفوض الرئيس أردوغان لرسم السياسة الخارجية. ولقد شارك فيدان في منتديات عدة مثل قمة زعماء مجموعة العشرين لعام 2015 وجلسات داخل البيت الأبيض، وهو ظهور غير معهود يظهر مدى الأهمية التي يوليها أردوغان لرئيس مخابراته.

على الرغم من صعوبة تقييم أداء جهاز المخابرات التركي من خلال المصادر المتاحة، إلا أنه يبدو وكأنه في منتصف منحنى انحدار، فعلى سبيل المثال تبدو فيديوهات الثوار التركمان المدعومين من تركيا غير ملائمة وتطغى عليها النبرة الرتيبة، وحتى محاولة توحيد مجموعات الثوار المرتبطة بجهاز المخابرات التركي كما هو حصل مع فرقة السلطان مراد التركمانية، تأخرت لمنتصف عام 2015 عندما ظهر جليًا أن الحرب تحولت ضد تركيا.

على العموم، لم تستطع مجموعات الثوار المدعومة من تركيا عبر جهاز المخابرات انتهاز الفرصة لتحقيق أهداف استراتيجية مثل الاستيلاء على دمشق أو هزيمة تنظيم الدولة في الرقة.

يعدّ تطوير قدرات جهاز المخابرات عملية طويلة، وتبدو جهود تركيا في هذا المجال ضئيلة ومتأخرة وبالتالي عاجزة عن إحداث تغيير في نتائج الصراع السوري. لكن سورية شكلت جرس إنذار للدولة التركية كي تتدارك مافاته، ومن المرجح أن تستثمر الحكومات التركية المستقبلية في مجال الاستخبارات لتحسين قدراتها الخارجية، لاسيما فيما يتعلق بحدودها مع دول الجوار؛ سورية والعراق وإيران.


كيف تغير تركيا أسلوبها

لم تستطع مجموعات الثوار المدعومة من تركيا عبر جهاز المخابرات انتهاز الفرصة لتحقيق أهداف استراتيجية مثل الاستيلاء على دمشق أو هزيمة تنظيم الدولة في الرقة.

صاغ الرئيس ثيودور روزفلت، مؤسس السياسة الخارجية الأمريكية القوية في القرن العشرين، العبارة التالية: «تكلمْ بهدوء واحملْ عصا غليظة». غير أن تركيا وفي خضم الهاوية السورية، لم تتكلم بلطف ولم -كما اتضح لاحقًا- تحمل عصا غليظة.

توجد أسباب تاريخية لذلك، منها أن خلفية الطبقة السياسية في تركيا هي خلفية ليبرالية قائمة على احترام الالتزامات الدولية وعدم التدخل في شؤون الآخرين. أخرج حزب العدالة تركيا من الإطار الذي وضعته لنفسها وأدخلها عالم الجوار على قاعدة الهوية المشتركة. كان هذا أمرًا جيدًا لبعض الوقت، إلا أن نشوب الحرب الأهلية السورية غيّر المنطقة على نحو لم تكن تركيا مهيئة له، بحيث غدت الانقسامات العرقية والطائفية خطوط المعارك في صراع القوى بالمنطقة، وهو ماكانت عليه أوروبا في القرن السابع عشر.

وفي ذات الوقت الذي لم يعد فيه تحالف تركيا مع الناتو شريان الحياة بالنسبة لها كما كان الأمر في السابق، تصاعدَ اعتماد تركيا على نفسها لمواجهة تحدياتها منفردة.

أيقنت تركيا -على ضوء البيئة الجديدة التي تشكلت في المنطقة- أن عليها اتباع مجموعة مبادئ مغايرة.

أيقنت تركيا -على ضوء البيئة الجديدة التي تشكلت في المنطقة- أن عليها اتباع مجموعة مبادئ مغايرة.

كتب عبد القادر سيلفي مؤخرًا وهو صحفي مقرب من الحكومة «إن اللغة الوحيدة التي يفهمها المجتمع الدولي هي لغة القوة»، وذلك لتبرير القصف التركي على مواقع حزب الاتحاد الديموقراطي في سورية.

يبدو كلامه حشوًا مكررًا في عاصمة كطهران، لكنه انعطافة جذرية بالنسبة لأنقرة، ولن تمر هذه الانعطافة دون مخاطرة.

تستخدم طهران على سبيل المثال منطق وأسلوب القوة في المنطقة ببراعة شديدة، رغم ذلك بإمكاننا القول إن حماستها الثورية تتسبب بالضرر أكثر من النفع.

يكمن تحدي أنقرة في صياغة قالب خاص بها من مَثَل «العصا»، يفضي إلى جيش قوي دون أن تتحول لعسكرتاريا وأداء استخباراتي حرفي دون أن تنقلب لدولة بوليسية.

إذا ما أريد لتركيا أن تتكلم بهدوء وفق ماتقوله حكمة روزفلت، يتعين على قادة تركيا إيجاد الطريقة المناسبة لتحرير السياسة التركية من معتقدات ومشاعر أي شخص، والاعتماد بدلًا من ذلك على المؤسسات التركية لتحديد المصلحة الوطنية، ومن غير الواضح كيف لهذا أن يحصل في ظل غياب التوازن في السياسة الداخلية للبلاد.

يستحق سؤال «كيف ستبدو تركيا القوية» الكثير من التفكير، إذ سيحمي التدخل الإنساني وإنشاء مناطق آمنة في سورية الكثير من الأرواح وسيجعل الحضور العسكري في شمال سورية من تركيا دولة محرِّرة للكرد السوريين أكثر منها عدوة، وسيخفف استخدام القوة الدقيق والرشيد من أثر الدمار في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني. عندها ستصغر دائرة تأثير روسيا وإيران، وسيتعاظم دور الناتو والاتحاد الأوروبي كشركاء لتركيا في تشكيل وصياغة المنطقة.

بالطبع لم يحصل شيء من هذا، وليس من المرجح حصوله في المستقبل القريب. لكن الفرصة الضائعة ستحفز تركيا على إعادة بناء قدراتها الإستراتيجية التي فقدتها لما يقارب القرن من الزمان.

قال داود أوغلو في خطابه الأخير (تاريخ كتابة المقال 4 أبريا/نيسان 2016): «إن أفضل صديق في منطقتنا للكرد واليزيديين والعرب والتركمان هو تركيا». ولكي يتسنى لتركيا ترجمة ذلك على أرض الواقع، سيتوجب عليها تطوير قدراتها وإجادة استخدامها بحكمة.