هي علاقة محكوم عليها بـ «الطلاق البائن» لدى البعض، وهي الـ «عشق المجوسي» لدى آخرين. متلازمة حينًا ومتنافرة أحيانًا كثيرة، لكن يبقى العلاج مفقودًا!

هكذا احتار علماء الاجتماع بين التطرف والفقر، في ظل التهميش والبطالة والإقصاء الاجتماعي كأهم «البطاريات» المُولدة للأفكار السوداء.

حيرة ليست بغريبة، مع غياب تعريف علمي محدد للظاهرة الإرهابية، حيث يوجد أكثر من 100 تعريف لهذا المصطلح الذي تطور على مر الأزمان. وقد استخدمت كلمة «الإرهاب» لأول مرة في سياق سياسي خلال الثورة الفرنسية، عندما تم تكريسها لاتهامات ضد خصوم الزعيم السياسي الفرنسي «ماكسميليان روبسبير»، سفاح الثورة الفرنسية، وأحد الوجوه الرئيسية لعهد الإرهاب في ذلك الوقت، حيث استخدم أقصى درجات العنف باسم الدولة.

ومع ذلك، في أواخر القرن الـ19، استخدم الفوضويون الروس والفرنسيون بكل فخر كلمة «الإرهاب» لوصف مساعيهم العنيفة ضد النظام. بينما خلال الحرب العالمية الثانية، وصمت قوات هتلر النازية المقاومة الفرنسية بالإرهاب، وهو ما جعل المصطلح كلمة مطاطية تُستخدم لأغراض سياسية.


في تشريح الظاهرة الإرهابية

بعد 30 سنة من البحث في طبيعة الإرهاب، كل ما يستطيع علماء النفس قوله بثقة، إن أبرز خصائص الإرهابيين أنهم أسوياء.
«أندرو سيلك»، باحث في علم النفس

دحضت تلك التحليلات مقاربات التحليل النفسي عن نفسية الإرهابيين؛ لأنها كانت تركز على أن «الإرهابي شخص سايكوباثي، والإرهاب سلوك شاذ، لا يقوم به شخص سوي»، لكن هذا التصور سرعان ما تهاوى لأنه واجه قصورًا تفسيريًا على المستوى النظري، والشواهد على أرض الواقع.

وتفرق النظريات المفسرة للإرهاب والتطرف، ما بين النزوعية الفردية باعتبار الإرهاب نتاجًا لاعتقادات وتصورات يحملها أفراد، يتبنون «هوية سلبية – negative identity theory»، تنطوي على رفض انتقامي للمجتمع، وبين النظريات الموقفية بتفسير الإرهاب باعتباره ناتجًا عن الظروف الخارجية المحيطة التي تؤثر على قرارات الأفراد.

بالرغم من تناول الظاهرة الإرهابية من جوانب عدة، يظل «الإرهاب» مفهومًا مطاطًا لا يمكن بشكلٍ دقيق تحديد ملامحه، وعلاقاته الارتباطية مع العوامل المسببة له، والناتجة عنه.

ومن الجانب المجتمعي، فحتى وقت قريب، اعتقد علماء الاجتماع أن الحرمان الاقتصادي هو عامل حاسم في جرائم الكراهية، ولكن الشواهد تُضعف الأساس التجريبي لهذا الاستنتاج.

وكان الدعم التجريبي الأصلي لفرضية الحرمان الاقتصادي ينبع من أدلة تاريخية تخص عمليات الإعدام غير القانونية ضد السود في جنوب الولايات المتحدة. حيث وثّق الكاتب آرثر رابر في كتابه الكلاسيكي «مأساة لينشينغ – The Tragedy of Lynching»، الذي ظهر في عام 1933، عدد حالات الإعدام خارج نطاق القانون وقارنها بالظروف الاقتصادية من عام 1882 إلى 1930، وخلص إلى أن فترات الازدهار النسبي تؤدي إلى الحد من حالات الانتهاكات ضد السود.

و آنذاك استند علماء النفس على هذه النتيجة كدعم للرأي القائل بأن السلوك العدائي ينتج عن الإحباط المصاحب للانكماشات الاقتصادية. لكن كانت المفاجأة، حيث وُجد في عينة «رابر» التي استند إليها في بحثه، أنه في فترة «الكساد الكبير – Great Depression» عام 1929 لم ترتفع معدلات العنف ضد الأمريكان من أصول إفريقية على الرغم من التدهور الكبير في الظروف الاقتصادية.

وعن تشريح الظاهرة الإرهابية من منظور اقتصادي، يُنظر إلى المشاركة في جماعات الإرهاب على أنها قرار عقلاني، رهنًا بالفوائد والتكاليف والمخاطر التي تنطوي عليها المشاركة في عمليات الإرهاب مقارنة بالأنشطة الأخرى.

ووفقًا لنموذج عالم الاقتصاد، «غاري بيكر»، فإن الأفراد أكثر عرضة لارتكاب الجرائم الفردية، إذا كان لديهم أجور أقل أو تعليم أقل، لكن حدوث جرائم كراهية مجتمعية؛ عادة ما يكون غير مرتبط بالفرص الاقتصادية.

وعلى الصعيد العلمي والثقافي، تفضل المنظمات الإرهابية الأفراد المتعلمين تعليمًا عاليًا. حيث أن الأفراد المتعلمين من الطبقة المتوسطة أو العليا هم أكثر ملاءمة للقيام بأعمال الإرهاب الدولي مقارنةً بالأميين الفقراء؛ لأن الإرهابيين يجب أن يندمجوا في بيئة أجنبية لكي تنجح عملياتهم.

وفي دراسة كمية للمشاركين في عمليات عنف من عدة بيئات مختلفة،قام بها كلّا من «تشارلز راسل، بومان ميلر»، حيث جمعوا معلومات ديمغرافية عن أكثر من 350 شخصًا شاركوا في أنشطة إرهابية في أمريكا اللاتينية، أوروبا، آسيا، والشرق الأوسط في الفترة من 1966 إلى 1976.

ووُجد أن «الغالبية العظمى من الأفراد الذين يشاركون في أنشطة إرهابية عبارة عن كوادر متعلمين تعليمًا جيدًا، كما أن ثلثي الإرهابيين هم أشخاص خريجو الجامعات أو طلاب الدراسات العليا، جاءوا من الطبقات المتوسطة أو المرتفعة في دولهم».

ودينيًا، ربط البعض بين التطرف والديانة الإسلامية، باعتبار تركز النشاط الإرهابي في دول مسلمة، كما أن الدين ينص على الجهاد كواجب شرعي، ما جعل المتشددين يعزون ضياع الأمة إلى غياب تلك الشعيرة.

لماذا قررتم الانضمام إلى تنظيم مسلح؟

سؤال وجهه باحثون إلى المنضمين لـ«حركة الشباب الصومالية» وجماعة «بوكو حرام» نسف الادعاءات السابقة، ورصد بشكل دقيق «رحلة التطرف في إفريقيا»، جاء ضمن دراسة صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، نُشرت في أكتوبر/تشرين الأول 2017.

وعلى الرغم من أن أكثر من نصف المستطلعة آراؤهم في الدراسة، قالوا إن «الدين هو السبب الرئيسي للانضمام إلى تلك الجماعات المتطرفة»، إلا أن حوالى 57% من هؤلاء اتضح أنهم يعرفون قليلاً من النصوص الدينية، ولا يعرف معظمهم تفسير آيات القرآن، والمثير للدهشة أن نسبة غير قليلة منهم اعترفت بعدم قراءة أي نص ديني على الإطلاق.


الفقر والتطرف: زواج كاثوليكي أم أسطورة؟

فيديو بدقائق معدودة يُظهر على الشاشة: الشمس مشرقة والأطفال يلعبون ببراءة، مرتدين أفضل الملابس وأجملها، ويتناولون أشهى المأكولات وأطيبها، بينما تتناغم الصورة مع خلفية موسيقية حماسية، وصوت متحدث يبدو شابًا في العشرينات من العمر، يصف الحياة في سوريا «أرض الخلافة» الموعودة.

«الباحثون عن الحياة»، عنوان أحدث الإصدارات التي تروج لها المنصة الإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية، أظهر استخدام تقنيات الجرافيك والصور الهوليوودية التي تُوثق عددًا من عمليات التنظيم في ريف حلب، والتمكن من أدوات التصوير، وهو ما انعكس في المقطع المصور.

يفسر هذا إشكالية طرحتها مؤخرًا دراسة حديثة صدرت عن البنك الدولي، تكشف أن «المجندين في صفوف داعش ليسوا فقراء ولا أميين، بل شباب في ربيع العمر وبمستويات تعليمية فاقت المتوقع».

ارتباط الفقر والإرهاب، يراه البعض علاقة سببية؛ فالفقر مفرخة الإرهابيين الكبرى، حيث يلاحظ أن المواطن القاطن في أحزمة الفقر والعشوائيات في حالة تيه اجتماعي بين قِيَمه واحتياجاته التي لا توفرها السلطات السياسية في البلاد، مما يؤدي إلى تزايد نسب الولادات وكثافة السكان. بالتالي تقل الخدمات الصحية والتعليمية، وتتزايد نسب التسرب من المدارس، مما يجعل هؤلاء المواطنين بؤرًا اجتماعية ناقمة على النظام.

وكون نسبة كبيرة من سلطات البلدان النامية غير ديمقراطية، فإنها تتعاطى مع مخاوف المواطن بالقمع. وفي ظل اضمحلال عصر الثورات، فإن الحركات السلفية الجهادية هي الوحيدة التي من الممكن أن تلبي رغباته.

وعلى النقيض،يرد الكاتب والمفكر «ويليام إيسترلي» على الأدلة التي تربط الفقر بالإرهاب، متمثلة في أسباب الثورات الفرنسية والروسية، والتي قامت على أساس تردي الأوضاع المعيشية، في حين كان أسلاف مواطني تلك المرحلة من أفقر الطبقات أيضًا.

وفي ذات السياق،أكدت صحيفة «ديلي تلغراف» أن «أدبيات العنف والتطرف اعتبرت منذ فترة طويلة أن الفقر لا يفسر الإرهاب»، وخلصت إلى أن أكثر الناس فقرًا في باكستان لديهم مشاعر سلبية تجاه المسلحين، ومن المحتمل أن يكونوا ضحايا التفجيرات الانتحارية.

كما أن درجة الحرمان السياسي في بعض الدول، مثل الأردن، أقل بكثير من درجة الحرمان السياسي في دول عربية أخرى، لكن عمان تعتبر الدولة الثالثة بعد تونس والسعودية في عدد الملتحقين بالجماعات المتطرفة.


تعاظم الخطر الإرهابي وسيناريوهات المستقبل

إن المواطن القاطن في أحزمة الفقر والعشوائيات غالبًا ما يكون في حالة تيه اجتماعي بين قِيَمه واحتياجاته التي لا توفرها السلطات السياسية في البلاد!.

يتوقع تقرير المرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، لمنطقة الشرق الأوسط أن يسجل معدل نمو يصل في المتوسط 2.3%، بانخفاض نصف نقطة مئوية عن عام 2015 في ظل تراجع الاقتصاد العالمي.

فأسعار النفط المتدنية، التي من المحتمل أن تتراوح بين 50 و60 دولارًا للبرميل حتى نهاية العقد الحالي؛ أضعفت النمو في البلدان للنفط بالمنطقة وخاصة دول الخليج التي تدخل في نزاعات مع دول المنطقة التي تشهد حروبًا أهلية.

تلك الإحصائيات وغيرها، عبارة عن لوحة قاتمة للوضع الاقتصادي في العالم العربي، حيث يمثل الفقر أحد أكبر التحديات التي يواجهها العرب، ومن الممكن بسهولة أن تتحول خريطة الفقر تلك إلى خريطة العنف والإرهاب والتطرف.

هذه اللوحة العربية تزداد قتامة، مع تعاظم خطر الإرهاب الذي يهدد المنطقة والعالم، استنادًا لعدد من المؤشرات:

1. مع تقدم العمليات الإرهابية وتزايد وتيرتها، يتجه النشاط الإرهابي نحو تشكيل خطر متعاظم على الدول والشعوب، فأصبحت الصورة النمطية للإرهاب على أنه نشاط لجماعة لها طابع تنظيمي؛ جزء من الماضي. فهناك العديد من الهجمات التي يقوم بتنفيذها أشخاص يعملون فرادى دون قيادة أو تنظيم، أو ما يطلق عليهم «الذئاب المنفردة».

وخطورة تلك العمليات أن الأفراد يكونون على استعداد للهجوم بصفة منعزلة، دون انتمائهم إلى جماعات إرهابية منظمة، ما يُصعِّب من مهمة توقع هجماتهم أو مدى تسلسلها، كما لا تستطيع الأنظمة عقد حوار أو مصالحة مع قياداتهم.

2. تتزايد قوة تلك التنظيمات الإرهابية مع توسع قاعدة الكوادر النوعية، حيث تلعب المرأة دورًا هامًا داخل الجماعات الإرهابية المنظمة. فقد تخطى دورها مجرد الدعم والدعاية والتجنيد، وامتد إلى القيادة والمشاركة الفاعلة في التخطيط والتنفيذ للعديد من العمليات الإرهابية.

ومن أبرز الأسماء التي ترددت مؤخرًا في هذا الصدد «ندى القحطاني»، التي كونت تنظيمًا يضم مجموعة من النساء تطلق على نفسها اسم «صحابة جينان»، و«أم المقداد» المعروفة بـ «أميرة نساء داعش»، و«أم مهاجر» وهي المسئولة عن كتيبة «الخنساء» في الرقة بسوريا.

3. البطالة كأحد أسباب التطرف والإرهاب، مشكلة عالمية وهي أخطر ما يواجه المجتمعات في هذا القرن، ومن المتوقع أن تزداد ارتفاعًا في معدلاتها؛ لأن التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات تسببت في إلغاء العديد من الوظائف القديمة وفتحت المجال للعديد من الوظائف الجديدة والتي تتطلب تعليمًا تقنيًا عاليًا صعبًا في معظم الأحيان.

4. ومن المستبعد إمكانية الخروج باتفاق الدول العربية على «إستراتيجية عربية موحدة لمواجهة البطالة»؛ نظرًا «للانشطار العمودي في العالم العربي بين مستويين من الدخل المتباين إلى حد بعيد؛ بين دول نفطية، خاصة دول الخليج العربية، يتمتع مواطنوها بدخل مرتفع، ودول أخرى يتدنى مستوى دخل الفرد فيها إلى مستويات مخيفة»،وفقًا لطرح الباحث «مصطفى خضري».

وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول المأساوية في الولايات المتحدة؛ دعا عدد من المراقبين البارزين وصانعي السياسات إلى زيادة المعونة والمساعدة التعليمية كوسيلة لإنهاء الإرهاب. بيد أن الاستعراض الدقيق لوقائع الأحداث لا تعطي سببًا كافيًا للتفاؤل بأن الحد من الفقر أو زيادة التحصيل العلمي سيؤديان إلى الحد من الإرهاب الدولي.

ويجادل الكاتب «ويليام إيسترلي» بأن إشكالية الإرهاب تكمن في تقديم المانحين الغربيين أموال المساعدات لحلفاء أوتوقراطيين من حكومات مستبدة، تعزز من الفقر وتردي الأوضاع المعيشية لمواطنيها؛ ما يكرس تنامي الكراهية والعنف، ويجعل الإرهاب متوطنًا.

أخيرًا، وسط كل تلك الاحتمالات، يعيش الشباب العربي الذي أبهر العالم بالثورات العربية السلمية في ظل أنظمة تزيد بسياساتها كل يوم الاحتقان السياسي والمجتمعي؛ مما زاد من مشاعر الإحباط والغضب، ويجعل المستقبل مفتوحًا على الاحتمالات كافة.