إن ظاهرة الحياة الجوانية أو التطلع إلى السماء هي ظاهرة ملازمة للإنسان غريبة على الحيوان، هذه الظاهرة مستعصية على أي تفسير منطقي، ويبدو أنها نزلت من السماء «نزولاً حرفياً». ولأنها ليست نتاجاً للتطور، فإنها تقف معالية عنه مفارقة له.
علي عزت بيجو فيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ص78

تبدو الديانة شيئًا ملاصقا للوجود الإنساني، فمتى وجد الإنسان وُجدت معه معتقدات وعبادات وطقوس دينية، فليس ثمة مجتمع بشري عرفه التاريخ إلا وكانت له ديانته الخاصة، وطقوسه الدينية.

وظاهرة الأديان ظلت مبحث شغل الفلاسفة وعلماء الأنثروبولجي والتاريخ وعلم النفس، بل وحتى علماء الدين أنفسهم، كان لكلٍ سؤاله الخاص حول هذا العنصر المكون لكل الحضارات قديماً، لماذا منذ وجد الإنسان الأول تمحورت حركته الأرضية حول مجموعة معتقدات تطالبه بمجموعة طقوس وتضحيات مكلفة؟

وهل للديانات صفة تطورية حقاً؟ أم أنها ديانة واحدة ثابتة تطورت أشكالها وممارسات الإنسان لها باختلاف الزمان والمكان فقط؟ أي الأفكار كانت بالقلب من تلك الديانات؟ وأيها كانت مجرد أفكار فرعية منبثقة عنها؟

فى هذا البحث «الصلاة ظاهرة كونية »يحاول الباحث «منجي إبراهيم» الإجابة عن بعض الأسئلة حول الديانات وعلاقتها بعضها ببعض، عبر دراسة طقس «الصلاة» في ثلاث ديانات حرص أن تكون ديانات غير سماوية، لينظر في البعد الفلسفي والإنساني في الصلاة التي عرفه وطوره الإنسان في حضارات مختلفة، هذه الأديان هي الديانة «المصرية القديمة»، والديانة «الهندوسية» والديانة «الزرادشتية».


«الخوف» ذلك المحرك الأكبر

إن الإنسان لا يسلك فى حياته كابن للطبيعة،بل كمغترب عنها. شعوره الأساسي هو الخوف، إلا أنه ليس خوفاً بيولوجياً كذلك الذي يستشعره الحيوان، إنما هو خوف روحي كوني بدائي موصول بأسرار الوجود الإنساني وألغازه.
علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ص77

تضخم علم الإنسان في العصر الحديث،ومع ذلك فقد ظل الخوف محركاً أساسياً له في الحياة، حتى وإن بدا له أنه قد سيطر على مجرياتها، أما الإنسان قديماً فقد وجد نفسه وحده، هذا المخلوق الضعيف في مواجهة قوى الطبيعة الشرسة، فأدرك أن ثمة قوى أخرى عظمى تحرك هذا الكون، واحتاج اللجوء إليها والاحتماء بها، فظل إيمانه مزيجًا من خوف من الطبيعة ولجوءا لمحركها، فكان هذا جلياً فى أشكال عبادته وطقوسه التى طورها ووصلت إلينا.

من بين هذه الطقوس التى طورت لتعبر عن هذا الخوف وهذا الالتجاء، كانت «القرابين» فالهندوسية والزرادشتية والمصرية القديمة، تميزت بتقديم القرابين للآلهة، ففى مصر كان تقديم القربان طقسًا يوميًا فى صلاة الصباح يقع على عاتق الملك نفسه، واختلفت هذه القرابين بين كونها قرابين حيوانية من الحيوانات البرية التى يتم صيدها، أو قرابين نباتية أو حتى بشرية فى بعض الحضارات القديمة التى لم تضطلع الدراسة برصدها.

يقول الباحث «منجي إبراهيم»: «لئن اختلفت القرابين وتفرعت الأغراض الموظفة لها إلا أنها تشترك –كلها- فى الحفاظ على الحياة وقد تكون الهبة المقدمة إلى الآلهة معبرة عن الشكر وقد تكون رمزاً للاتحاد بالعالم السماوي»

وكما يعبر بيجوفيتش.. «المصلحة حيوانية أما التضحية فهي إنسانية. المصلحة إحدى الأفكار الأساسية في السياسة والاقتصاد السياسي، أما التضحية فهي إحدى المبادئ الرئيسية في الدين والأخلاق».


الصلوات الكبرى

من صلوات زرادشت

كانت الصلوات هي المرحلة الثانية من العبادة الطقسية للديانات الثلاثة، فالمصري القديم عرف عدة أشكال للصلاة، وعرف الركوع والسجود أيضاً، والهندوسي كان عليه أن يؤدي صلاتين في اليوم، صلاة عند طلوع الشمس وأخرى عند بداية الليل وظهور النجوم، وزرادشت له عدة محفوظات ونصوص من ترانيم صلاته، بعض هذه الصلوات عرفت التوحيد فوجهت للمعبود الأكبر، وبعضها وجهت لعدة معبودات.

في هذه الدراسة جمع الباحث عدة نصوص تتلا في الصلوات لدى الديانات المختارة، وقارن بينها، ليخرج بنتيجة أن هذه النصوص دارت حول اللجوء والتقرب وطلب الخلاص، فالمصري القديم يطلب الخلاص في الآخرة ولينعم عليه بالنعم، وفي الزرادشتية يطلب الخلاص من قوى الشر، وفي الهندوسية يطلب الخلاص بإدراك الحق.

كما عرف التسبيح والذكر، فالمصري دوّن نصوص من التسبيح والترانيم، بينما كان على الهندوسي ذكر معبده قبل النوم. وسواء كانت طقوس الصلاة هذه من اختلاق الإنسان، أو كانت تحريفات عن رسالات سماوية اندثرت، فبقاء نصوصها دليل على الحاجة الأبدية التي تجتاح الإنسان للاتصال بالسماء.


التوحيد

سبحانك يا أهورامازدا! لك الترانيم، وإياك نعبد أيها المستقيم الأفضل، أجل نقدم لك التارنيم بفخر، ونصرح لك بذلك

تختلف أسماء الآلهة في الديانات محل البحث، غير أنها جميعاً تتفق في أصل ثابت، أنها تعبر لا عن كونها آلهة منفصلة بل كونها تجليا لقوة إله أوحد، وتختلف هذه التجليات طبعاً للبيئة، غير أنها تشترك فى كونها فى تجلياتها اتخذت من أشكال الطبعة وقواها مظهر لها، وهذا يعبر عن خوف عميق سكن الإنسان قديماً من الطبيعة بحيث احتاج التقرب لها وتوقى شرورها، لكنها جميعا ترجع إلى معنى وقوى عظمى تظهر جلية في نصوص الصلوات الواردة.

غير أن التعقيد الذي شاب هذه الديانات جعل من الوصول لحقيقة العلاقة بين الأقانيم الممثلة لقوى الرب وبين الإله المطلق أمر صعب تصوره، وربما زادت سطوة إحداها فى عصر من العصور أو منطقة من المناطق، غير أن أغلب الصلوات برهنت على إعتقاد قائم بوجود إله أصل أو مصدر للقوى الأخرى.

هذه الكتابات فى الديانات المختلفة توضح حاجة الإنسان الأبدية للديانة، وللمطلق الثابت الذى لم تقدم فلسفات الغرب الجواب عن كنه فرجعت بالنقد عليه، هذه النزعة الإنسانية للاتصال بالسماء والسؤال الجوانى النابع من ضعفه واختراعه لمعبودات بلتصق بها تؤكد أن محاولات إخفاء هذه الخبيئة فى نفسه مستحيلة أبداً.