قد يثبت إسقاط طائرة الركاب الروسية على شبه جزيرة سيناء المصرية خلال شهر أكتوبر الماضي، الذي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية داعش مسؤوليته عنه، في النهاية كونه أكثر ترتبية على ما قبله، بالمقارنة بالهجومين المروعين التاليين في باريس، وفي سان برناردينو، بكاليفورنيا. فقد كان المسؤولون الأمنيون الغربيون طويلًا قلقين بشأن احتمالية تنفيذ مواطني دولهم لهجماتٍ بعد عودتهم من العراق أو سوريا أو لهجمات إرهابية على طريقة «الذئب المنفرد». ولكن تحطم الطائرة الروسية، الذي أودى بأرواح 224 شخصًا، كان عمل وحشٍ آخر مختلف، فلم يكن ذئبًا منفردًا ولا داعش نفسه، بل أحد أفرعه، الذي أعلن الولاء لأبي بكر البغدادي، زعيم التنظيم الذي نصّب نفسه خليفة.يطلق داعش على تلك التنظيمات «ولايات» وهو مصطلع مستعار من القرن السابع، عندما انطلقت جيوش الإسلام إلى خارج شبه الجزيرة العربية ونصّبت حكامًا إقليميين حكموا باسم الخليفة، و يستخدم داعش مصطلح «ولايات» للإشارة إلى التقسيمات الإدارية داخل العراق وسوريا. إن بدأت ولايات داعش البعيدة، تنسيق أعمالها عن قرب مع القيادة المركزية للتنظيم في العراق وسوريا، مثلما تشير الأحداث الأخيرة بالفعل، فإن النطاق الجغرافي للتنظيم قد تمدد كثيرًا.

التوسعات الداعشية وإن كانت مثيرة للقلق إلا أنها امر ليس بالجديد ويمكن مواجهته، ولعل مثال تنظيم القاعدة وانبثاق العديد من الفروع له خير شاهدا على ذلك

رغم كون ذلك التوسع مثيرًا للقلق، إلا أنه ليس بالأمر الجديد. فبعد أحداث 11 سبتمبر، فاق العديد من التنظيمات التابعة لتنظيم القاعدة القيادة المركزية في الحجم والأهمية. حاول أحد تلك الأفرع، وهو تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، مرارًا إسقاط طائرات أمريكية، ويظل اليوم مشكلًا لتهديدًا مميتًا. كما أعلن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية مسؤوليته عن هجمات يناير 2015 على مقر مجلة «تشارلي إيبدو» في باريس. وفي مايو الماضي، قال مايكل موريل، النائب السابق لمدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، إن ذلك الفرع قد استعاد «القدرة على إسقاط طائرة داخل الولايات المتحدة».تأسس داعش نفسه كفرع لتنظيم القاعدة. فبعد الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003، ظهر أبو مصعب الزرقاوي كزعيم للقوات الجهادية في العراق. وفي عام 2004، تعهد بالولاء لأسامة بن لادن وغير اسم تنظيمه من «تنظيم التوحيد والجهاد» إلى «تنظيم القاعدة في العراق». وبعد موت الزرقاوي عام 2006، حمل التنظيم أسماء أخرى، بما في ذلك «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق». وعندما تولى البغدادي قيادته عام 2010، كان التنظيم قد بلغ مراحله الأخيرة، حيث انقلب السنة المحليون ضده، وأعاقوا عملياته. وعندما انسحبت القوات الأمريكية من البلاد عام 2011، بدت الحكومة العراقية التي خلّفتها أمريكا مسيطرة.ولكن تنظيم البغدادي قام من بين الرماد، حيث استغل تهميش العراقيين السنة والحرب الأهلية السورية. وفي عام 2013، غير البغدادي اسم التنظيم مجددًا، ليصبح «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام». وفي عام 2014، بعد أن سيطر مقاتلوه على مدينة الموصل العراقية، توسعت طموحاته، حيث أعلن قيام الخلافة على العالم الإسلامي، وقصّر اسم التنظيم إلى «الدولة الإسلامية». والآن، تفوّق داعش على القاعدة من حيث الحجم والقوة، كما فاقه من حيث توسع الأفرع التابعة له، وأسس لوجود أعدادٍ أكبر من الأفرع والداعمين في أنحاء العالم الإسلامي.تشكل الولايات التابعة لداعش تهديدًا خطيرًا على المصالح الغربية؛ حيث تمكِّن التنظيم من توسيع نطاق نشاطه وتجعل التنظيمات المحلية أكثر فتكًا في صراعاتها الإقليمية. كما أن البؤر الجهادية التي لم تصدّر الإرهاب بعد للغرب، ربما تفعل ذلك في المستقبل إن عززت التنظيمات المحلية علاقاتها بداعش.إلا أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد بدأوا للتوّ تضمين الولايات ضمن إستراتيجيتهم لمكافحة الإرهاب. ففي خطابه الرئيسي الأخير بصدد داعش، في شهر ديسمبر، ركز الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، على التهديد الإرهابي الذي يشكله جوهر التنظيم بالعراق وسوريا على الولايات المتحدة، دون حتى ذكر الولايات التابعة للتنظيم.

خروج العديد من الولايات من رحم تنظيم داعش أمرا سلبيا شيئا ما، حيث تعد تلك الأفرع عبئا على القيادة المركزية للتنظيم ، وويظهر ذلك وقتما كانت داعش فرع من فروع القاعدة

تعامل البنتاجون مع ذلك الخطر على نحو أكثر جدية ودرس فكرة الاستجابة الجزئية عبر تأسيس قواعد عسكرية إضافية في أفريقيا، آسيا، والشرق الأوسط. ولكن الولايات المتحدة وحلفاءها يجب أن يمضوا قدمًا على ذات الخطى، عبر تطوير إستراتيجية شاملة لإضعاف الأفرع المختلفة لداعش. يجب أن يبدأو عبر الاستفادة من التوترات التي قد تظهر بين قيادة التنظيم في العراق وسوريا، وأفرعه الأبعد.ففي النهاية، مثلت أفرع القاعدة عبئًا على القيادة المركزية، حيث طالبت بتوفير الموارد، وتجاهلت توجيهات التنظيم، وشوهت اسمه عبر تنفيذ هجمات لا تلقى شعبية. سيواجه داعش على الأرجح مشكلات مشابهة. ولضمان حدوث ذلك، يتعين على الولايات المتحدة أن تسعى إلى تشويش الاتصالات بين التنظيم الرئيسي وولاياته والعمل مع الحلفاء، الجديد منهم والقديم، على استهداف الأفرع مباشرةً. فإن كان الغرب يعتزم هزم داعش، سيضطر للعمل ضد التنظيم ككل، وليس فقط الجزء الأكثر وضوحًا منه.


التوسع

كما هو معروف على نطاق واسع، يقع قلب التنظيم في الأجزاء التي يسكنها السنة بالعراق وسوريا، ويقسم التنظيم مقره الرئيسي بين الموصل والرقة. ومع ذلك، يزعم داعش كونه الحاكم الشرعي لجميع المسلمين، وينشط في أنحاء العالم الإسلامي. لقد أعلن بالفعل عن قيام ولايات في أجزاء من أفغانستان، الجزائر، مصر، ليبيا، نيجيريا، باكستان، السعودية، اليمن، والقوقاز. كما نفذ إرهابيون أو مقاتلون ينشطون تحت اسمه هجمات في بنجلاديش والكويت.حتى الآن، تعد الولايات الأكثر إثارة للقلق هي الموجودة بمصر وليبيا. حيث تعهد التابع المصري، ولاية سيناء، بالولاء للبغدادي عام 2014، بعد أن كان يحمل اسم «أنصار بيت المقدس». في البداية، لم تبدُ تلك الخطوة أمرًا ذا أهمية كبيرة، واستمر مقاتلو التنظيم في تركيز هجماتهم على الجيش والشرطة بمصر. ولكنهم بدأوا سريعًا في توسيع نطاق طموحاتهم، حيث سعوا وراء أهداف تابعة للأمم المتحدة، ذبحوا كرواتيًا «حسبما يفترض، انتقامًا من مشاركة كرواتيا في الحملة الدولية المناهضة لداعش»، وهاجموا القنصلية الإيطالية في القاهرة، ثم أسقطوا الطائرة الروسية.خرجت الولاية الليبية من رحم النزاع الذي أعقب الإطاحة بالدكتاتور الليبي، معمر القذافي، عام 2011. فقد واجه القذافي التهديد الجهادي لسنوات. وبينما تحول الاضطراب الذي ضرب البلاد إلى صراع مباشر، ازدادت قوة الجهاديين المحليين. وبينما بدأ داعش تصدر عناوين الصحف، أصبحت اسمه أكثر جاذبية للمقاتلين المحليين؛ فازدهرت تلك المغازلات بين التنظيم والمقاتلين الليبيين، وتعهدوا بالولاء للبغدادي عام 2014.واليوم، يشكل التابع الليبي للتنظيم تهديدًا خطيرًا على نحو خاص للمصالح الغربية؛ لأن مقاتليه، على خلاف نظرائهم في مصر، لا يواجهون مقاومة حكومية قوية. يتمتع التنظيم هناك بما يصل إلى 3000 عضو نشط، وذبح مقاتلوه عمالًا أثيوبيين أقباط وهاجموا سفارتي المغرب وكوريا الجنوبية. ورغم أن مقاتلي التنظيم لم ينفذوا بعد هجومًا دوليًا، إلا أنهم يسيطرون على مدينة سرت المطلة على المتوسط، والمدن المتاخمة لها بطول الساحل الليبي، حيث أنشأوا خلافة محدودة، أقاموا نوعًا وحشيًا من العدالة، وطبقوا قواعد اجتماعية، مثلما فعل التنظيم المركزي في معاقله بالعراق وسوريا.قد يكون من الصعب التفرقة بين المواقع المحددة التي أسس بها داعش وجودًا رسميًا له، والتي يحاكيه فيها المقاتلون المحليون. ففي البنجلاديش، أعلن داعش مسؤوليته عن عمليات التفجير، الطعن، وإطلاق النار على أهداف شيعية وغربية، لكن من غير الواضح إذا ما كانت تلك الهجمات على صلة مباشرة بالتنظيم المركزي أم لا. كما أيد تنظيم بوكو حرام بنيجيريا داعش وتعهد له بالولاء، لكن التنظيم النيجيري المتطرف له عدة قادة، ولم تتزامن تلك المزاعم مع أي تغيير كبير في العمليات؛ ما يشير إلى أن العلاقة بين التنظيمين تظل أكثر بعدًا مما قد تبدو عليه.في المواقع التي يتمتع فيها داعش بوجود أكثر رسمية، يلعب المقاتلون الأجانب دورًا هامًا في مد العلاقات بين الفرع المحلي والتنظيم المركزي والحفاظ عليها. حيث يعتمد داعش أكثر من أي تنظيم إرهابي حديث على المتطوعين من الخارج. فبحلول أواخر عام 2015، كان حوالي 25,000 أجنبي من الدول العربية و5000 من الدول الغربية قد قاتلوا ضمن صفوفه في العراق وسوريا، وتستمر صفوف الأجانب في التوسع. يعمل هؤلاء المقاتلون كقنوات للاتصال، حيث ينقلون أوجه الاهتمام المحلية لداعش ورؤية البغدادي إلى بلادهم الأصلية عند عودتهم إليها. فعندما عاد من يطلق عليهم «الأفغان العرب»، الذين قاتلوا إلى جانب المجاهدين ضد الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات، نشروا فكرهم وسط التنظيمات المحلية؛ ما وفر للقاعدة شبكات غير رسمية في أنحاء العالم الإسلامي. واليوم، يشارك داعش في أنشطة مشابهة، لكن بشكل أسرع وعلى نطاق أوسع، بل ويتفوق على التنظيمات التي ارتبطت سابقًا بالقاعدة. تعاون العديد من تلك التنظيمات، خصوصًا في شمال أفريقيا، بشكل متكرر مع داعش عندما كان لا يزال تابعًا للقاعدة.يؤدي القبول بحمل اسم داعش عادة بالتنظيمات المحلية إلى تغيير تكتيكاتها وفكرها. فعلاوة على قتال القوات الحكومية المحلية والتنظيمات المنافسة، مثلما اعتادت تلك التنظيمات أن تفعل، بدأ العديد من التابعين تنفيذ هجمات طائفية واستهداف الغربيين في المنطقة. حيث يذبحون ضحاياهم عادة، بصورة وحشية بشكل خاص وفعال من الدعاية العنيفة، ويصممون ويصورون بعناية عمليات الإعدام لنشرها على نطاق واسع. وعندما يكون ذلك ممكنًا، مثلما في أجزاء من ليبيا، تتبنى الولايات أيضًا هيكلًا للحكم على نسق داعش، مكتملًا بنظامٍ للشرطة، للقضاء وللضرائب. وعلى خلاف بعض تابعي القاعدة، لا يحاولون تشكيل تحالفات دائمة مع التنظيمات المتمردة الأخرى، بل ويميلون إلى تقديم القليل من الاحترام لرموز السلطة المحلية، مع استثناءٍ هام للقادة العشائريين. ولكن حتى الآن، لم تهاجم أي ولاية لداعش أهدافًا غربية.


انجذاب التنظيمات المحلية إلى داعش

تنجذب التنظيمات المحلية إلى داعش لعدة أسباب. يتمثل أحد أهمها في السبب الأكثر وضوحًا؛ إنه الاقتناع الحقيقي. بقدر ما يعد داعش مقززًا بالنسبة لمعظم المسلمين، داعب التنظيم معتقدات قطاع هام من المسلمين السنة، خصوصًا الشباب منهم، حيث ينشر التنظيم الطائفية على نطاق واسع، ويصور نفسه على أنه المدافع والمنتقم للسنة في أنحاء العالم. علاوة على ذلك، تجذب مقاطع الفيديو اللامعة والحملات على وسائل التواصل الاجتماعي التي ينفذها التنظيم نوع الشباب السنة الذين يفتقرون إلى المعرفة أو القناعة الدينية الحقيقية، عبر مداعبة رغباتهم في المغامرة والشعور بالهدف. مثلما أشار الجنرال ديفيد رودريجز، قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا، تنسب التنظيمات ذاتها إلى داعش «لتعزيز قضيتهم».بالتأكيد، تنضم بعض التنظيمات إلى داعش من أجل أهداف أكثر عملية، مثل الحصول على الدعم المالي أو التقني. ووفق صحيفة «نيويورك تايمز»، في أفغانستان، عرض داعش على مقاتلي طالبان مئات آلاف الدولارات لكسب دعمهم في السيطرة على المزيد من الأراضي واجتذاب المتطوعين، كما يساعد التنظيمات المحلية في تحسين كفاءة دعايتها. فعلى سبيل المثال، بعد تعزيز تنظيم بوكو حرام لعلاقاته مع داعش عام 2014، تمكن من تحسين دعايته لتصبح إنتاجات عالية الجودة توزع عبر موقع تويتر بعد أن كانت مقاطع الفيديو منخفضة الجودة المصورة بالكاميرات المحمولة باليد. كما يتيح داعش لولاياته الوصول إلى المقاتلين المخضرمين، وقد أرسل المئات من قواته إلى ليبيا -بعضهم أتى من هناك في الأساس- لمساعدة مناصريه هناك. وأخيرًا، يسمح رفع اسم داعش للقادة المحليين بالانفصال عن القاعدة أو التنظيمات الأخرى القائمة دون إثارة ردة فعل عنيفة من جانب تابعيهم، ويسمح للقادة الطموحين بحجب استيلائهم على السلطة وراء مزاعم النقاء العقائدي.

السبب الرئيسي وراء انضمام التنظيمات المحلية لداعش يعود إلى الاقتناع الحقيقي بأفكاره حيث ينشر الطائفية على نطاق واسع ويظهر كمدافع ومنقذ للإسلام والمسلمين

كذلك تقدم الولايات فوائد للتنظيم المركزي. فزيادة عدد التنظيمات التابعة يعزز صورة داعش الذاتية عبر جعل التنظيم يبدو أكثر قوة وجاذبية. وبعد فترة قصيرة من إعلان الخلافة عام 2014، أعلن البغدادي أن جميع التنظيمات والإمارات الجهادية المحلية تابعة لداعش. وعندما تتعهد ولايات جديدة بالولاء، تبدو محققة لذات الرؤية. كما تتيح للتنظيم مساحة إستراتيجية للتواصل، حيث تسمح له بالاستفادة من المقاتلين والشبكات في أنحاء الشرق الأوسط. على سبيل المثال، توفر ليبيا قاعدة لضرب مصر وتونس القريبتين.وصف تشارلز ليستر، الزميل بمعهد الشرق الأوسط، الولايات بأنها جزء من إستراتيجية «بقعة الحبر» الخاصة بداعش. فالولايات نفسها تمثل دويلات إسلامية ستتمدد عبر الدعوة والحرب. وستتمدد بقع الحبر وستتلاقى الحدود، لتشكل كيانًا أكبر. وبينما تتعهد ولايات جديدة بالولاء لداعش، قد تشجع تنظيمات أخرى مستقلة على السير على ذات الخطى.كما توفر الأفرع للتنظيم المركزي خيارات للتراجع، حيث تخلق ملاذات محتملة لقادته في حال هزم داعش أو عرقلته في العراق أو سوريا. وفي صحيفة «نيويورك تايمز»، وصف مسؤول بوزارة الدفاع الأمريكية مشاركة داعش القوية في ليبيا بـ«التخطيط للطوارئ».بعد موت ابن لادن، عرضت التنظيمات المحلية التابعة للقاعدة، خصوصًا في اليمن، على التنظيم الفرصة للإبقاء على تصدره لعناوين الصحف، حتى بعدما وجد التنظيم المركزي نفسه مضطرًا للفرار، وقد توفر ولايات داعش فرصة مشابهة. رغم أن التنظيم اليوم يبدو غير قابل للإيقاف بالنسبة للعديد من الغربيين، لكنه خسر بالفعل حوالي 40 بالمئة من أراضيه في العراق منذ عام 2014، بالإضافة إلى الكثير من بنيته التحتية النفطية وقواه الثقيلة.قال أحد سكان الرقة لصحيفة «نيويورك تايمز» إن شعبية التنظيم قد تقلصت لأنه «فقد انتصاراته البارعة». ورغم أن داعش بالكاد تعرض للهزيمة، أحبطت تراجعاته المحلية بعض تابعيه. وعبر التوسع إلى أراضٍ جديدة، يستمر التنظيم في تصدر عناوين الأخبار؛ ما يتيح له اجتذاب المزيد من المقاتلين الأجانب إلى تنظيمه المركزي.


أهداف متطرفة

بينما ينمو داعش خارج العراق وسوريا، ينشر التظيم صورته القاسية من التعصب الديني. ففي عام 2015، هاجم تابعون له مساجد شيعية في الكويت والسعودية واليمن، ذبح مسيحيين مصريين وأثيوبيين في ليبيا، وهاجم القوات الأمنية والمسلمين السنة الذين اعتبرهم غير متدينين بشكل كافٍ. لا تعد مثل تلك الهجمات مأسوية في سياقها الخاص فقط؛ بل تمثل أيضًا خطر بدء دائرة من العمليات الانتقامية، مثلما حدث بالفعل في اليمن. تلك الدوائر، التي تؤدي إلى هجمات انتقامية ضد السنة، تؤدي فقط إلى تعزيز مزاعم التنظيم بكونه مدافعًا عن الدين.كذلك تهدد الطائفية المتصاعدة شرعية الحكومات في البحرين، الكويت، السعودية ودول أخرى منقسمة دينيًا. ففي السعودية كمثال، تجد الحكومة ذاتها حاليًا داخل معضلة؛ فإن فشلت في منع داعش من تفجير المساجد الشيعية السعودية، ستشجع المتطرفين وستظهر بمظهر العاجزة عن حماية شعبها؛ لكن إن انقضت على داعش بقوة، ستجازف بأن تظهر بمظهر البطلة بالنسبة للأقلية الشيعية السعودية غير المحبوبة؛ ما قد يضر بشعبيتها وسط الشوفينيين السنة.سيؤدي انتشار داعش أيضًا إلى تفاقم أزمة اللاجئين في المنطقة، حيث يتبنى التنظيم الهمجية كإستراتيجية. فلا تمثل عمليات الذبح، الاغتصاب، والممارسات الأخرى الشاذة منتوجات لحرب التنظيم، بل أدوات معتمدة لترهيب الأعداء ومكافئة الداعمين. انتقامًا من تمرد إحدى العشائر بليبيا في أغسطس 2015، قتل محاربو داعش العشرات من أعضاء، وصلبوا العديد منهم في مناطق مزدحمة – وهي عقوبة مألوفة بالنسبة لأي من يتابع سلسة أهوال التنظيم في العراق وسوريا. إن توسعت الولايات، سيفضل الكثير من المسلمين والأقليات الدينية الفرار، بدلًا من تحمل حكمها.من وجهة نظر الغرب، يتمثل أكبر المخاوف في أنه بينما ينمو داعش، سيطور التنظيم منصات وعناصر لتنفيذ هجمات إرهابية دولية. فقد دعا البغدادي المسلمين في الخارج إلى السفر إلى العراق وسوريا والولايات الداعشية، إن استطاعوا. وإن لم يستطيعوا السفر، عليهم التركيز على الهجمات المحلية. لقد ولّى عهد اضطرار الحكومات الغربية للقلق بشأن المقاتلين الأجانب المسافرين إلى العراق وسوريا فقط، فقد أصبح عليهم القلق بشكل متزايد بشأن المتطلعين إلى الجهاد المسافرين من وإلى القواعد الأخرى لداعش في أنحاء المنطقة وخارجها.


مشكلات مضاعفة

رغم جميع المميزات التي توفرها الولايات لداعش، تأتي تلك الولايات بحصتها من المشكلات. فمن ناحية، يمكنها إضعاف الحركة الجهادية ككل. فالعديد منها موجود بسبب العداوات المحلية، حيث يقضي أعضاء الجماعات المتناحرة وقتهم في قتل بعضهم البعض بدلًا من قتال أعدائهم المفترضين. وفي أفغانستان على سبيل المثال، تصارع تنظيم طالبان مع فصيل منشق أعلن ولاءه لداعش على السيطرة على مقاطعة هلمند؛ ما أضعف كليهما في قتالهما ضد الحكومة الأفغانية.مثلما أدرك تنظيم القاعدة، قد يدرك داعش قريبًا أن التنظيمات التابعة لا تعتبر كلها خادمة مطيعة. فعندما تحمل التنظيمات المحلية، خصوصًا القوية منها، اسم داعش، تحتفظ بهيكلها الخاص للقيادة، الأفراد، والأهداف محدودة الأفق، وعادة ما تتناسب تلك الأهداف بصعوبة مع أهداف التنظيم المركزي. مرارًا وتكرارًا، وجد تنظيم القاعدة أن العديد من أفرعه المحلية قد احتفظ بأجنداته التقليدية، حيث تستمر تلك الأفرع في خوض المعارك المحلية التي خاضتها باستمرار رغم الإضافة المحتملة لبعض الأهداف الغربية المحلية إلى المعادلة. واجه قادة القاعدة صعوبة خاصة في السيطرة على تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، الذي ظنوا أنه قد استهلك الكثير من الطاقة في قتل الأئمة الشيعة والسنة العاديين، والقادة الآخرين الذين عارضوا التنظيم.عندما فجّر التنظيم ثلاثة فنادق في عمان، بالأردن، عام 2005، حيث أسقط 60 قتيلًا، أدان حوالي 200 عالم إسلامي من 50 دولة التنظيم، ووصفوا قتل العزّل بأنه «ضمن أخطر الخطايا». وأدت تلك الانتقادات اللاذعة إلى تشويه صورة القاعدة وسط العديد من عناصره المسلمة.مع استيعاب داعش للتنظيمات المحلية، سينقض أيضًا على أعداء تلك التنظيمات. صرح مسؤولون غربيون لصحيفة «نيويورك تايمز» بأنه عندما قرر قادة ولاية سيناء تفجير الطائرة الروسية، فعلوا ذلك دون استشارة داعش. واستفزت تلك الخطوة روسيا، التي كانت حتى ذلك الحين قد قيدت ضرباتها الجوية في سوريا بالهجمات على المعارضة المعتدلة؛ ما دعاها لتنفيذ هجمات صاروخية على قوات داعش والبنية التحتية في دير الزور والرقة، ضمن أهداف أخرى.تنجح هذه العملية عبر طريقين؛ فالتنظيمات المحلية المتصلة بداعش قد تورط نفسها في المشكلات، وتجعل نفسها أهدافًا محتملة للقصف. ومجددًا، تعد تجربة القاعدة مفيدة في هذا الصدد. ففي عام 2010، أثنى ابن لادن التنظيم الصومالي المسلح عن إعلان الولاء لتنظيمه لأن تلك الخطوة ستوفر لـ«الأعداء» مبررًا للتعبئة ضد التنظيم الصومالي. ويحدث أمر مشابه الآن، فقبل أن تتعهد التنظيمات المتطرفة في مصر وليبيا بالولاء لداعش، لم تعبأ بهم الولايات المتحدة كثيرًا. أما الآن، فقد ركزت عليهم. وفي نوفمبر 2015، على سبيل المثال، قتلت غارة أمريكية قرب مدينة درنة الساحلية بليبيا عراقيًا يحتمل كونه زعيمًا للتابع المحلي لداعش هناك. وعبر مهاجمة الحكومات المحلية، تجازف الولايات أيضًا بدفع الأنظمة المحلية إلى أحضان التحالف المناهض لداعش.كذلك قد يكلف الانضمام لداعش الأفرع المحلية دعمها الشعبي. فالتنظيمات الخارجية تميل إلى أن تكون أقل تناغمًا مع الأوضاع على الأرض بالمقارنة بنظائرها المحلية الأصل. ففي عام 2003، على سبيل المثال، دفع تنظيم القاعدة المركزي تابعه المحلي في السعودية إلى بدء تمرد قبل أوانه، رغم تحذيرات القادة المحليين من أنهم لم يكونوا مستعدين، وكانت النتيجة كارثية. فبعد تنفيذ التنظيم لعدة هجمات إرهابية ضد أهداف غربية في المملكة وضد القوات الأمنية السعودية، انقضت الحكومة السعودية على التنظيم، عبر قتل أو اعتقال معظم أعضائه. ولأن المقاتلين الأجانب يفتقرون للاتصالات الشعبية العميقة، لديهم أيضًا القليل من الحوافز لممارسة ضبط النفس. فعلى سبيل المثال، عندما حاول داعش ترسيخ قواعده في درنة عام 2014، أدى سلوكه الوحشي إلى نفور السكان المحليين، الذين تعاونوا مع التنظيمات المعادية له لطرده. وتتمتع أنجح التنظيمات الإرهابية، كحماس وحزب الله، بعلاقات وثيقة بشعوبها المحلية. بالفعل تنتهج تلك التنظيمات العنف، لكنها تتبنى الوحشية باعتدال. يبدو أن داعش لم يتعلم ذلك الدرس بعد.


إستراتيجية جديدة

الأفرع المعلنة ولاءها لداعش، تمثل عبء كبيرا عليه نظرا لانها تخلق نوع من الصدام بينه وبين التنظيمات الآخرى، وينتقل ذلك الصراع من مجرد صراع فرع إلى صراع التنظيم بأكلمه ضد التنظيمات المعادية له

خلال العام الماضي، لم يبد الأمر مهمًا أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يكن لديهم إستراتيجية واضحة للتعامل مع ولايات داعش. فواشنطن أو حلفاؤها لم يكونوا حريصين على خوض معركة جديدة فوضوية في الشرق الأوسط. وبالفعل، بدا استهداف الولايات مؤتيًا لنتائج عكسية؛ فإن كانت التنظيمات مركِزة محليًا، قد يؤدي قصفها إلى استفزازها لتهاجم الغرب. ولكن الهجوم على الطائرة الروسية كشف مخاطر ذلك الفكر. فتجاهل الولايات الداعشية يجازف بالسماح لداعش بأن يصبح أقوى وأخطر.أي إستراتيجية تهدف إلى إضعاف الولايات يجب أن تتضمن جزئين؛ إضعاف الصلة بين التنظيم المركزي وأفرعه ومحاولة احتواء، إضعاف، وهزم الأفرع ذاتها. ولتحقيق تلك الأهداف، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها استهداف مراكز القيادة والتحكم والمحليين المتمتعين بعلاقاتٍ شخصية بكبار قادة داعش في العراق وسوريا. وعند حرمان الولايات من تعليمات القيادة، ستجبر على التصرف من تلقاء ذاتها؛ ما قد يخلق عالمًا من المشكلات الجديدة للتنظيم المركزي؛ ما قد يكلفهم حلفاءهم المحليين.

لكي تتمكن الدول المكافحة لداعش من مواجهته عليها بإستهداف الولايات، بهدف إضعاف الصلة بين التنظيم الأم والافرع، ومواجهة الأفرع كتنظيمات في حد ذاته

لقتال داعش بينما توسعه، ستحتاج الولايات المتحدة إلى قواعد عسكرية في عدة أجزاء بعيدة من العالم. ستكون المرونة عنصرًا حيويًا، في ضوء صعوبة التنبؤ بأي الولايات سيتمدد ليولى انتباه أكبر. على سبيل المثال، لم تمثل اليمن مصدر قلق كبير بالنسبة لمسؤولي مكافحة الإرهاب الأمريكيين حتى عام 2009، عندما كاد من يطلق عليه «مفجر الملابس الداخلية»، الذي كان مقيمًا هناك، أن يسقط طائرة في سماء ديترويت. من أجل تحقيق الامتداد الجغرافي الصحيح ولتخفيف العبء، يجب على الولايات المتحدة العمل مع حلفائها. ففرنسا كمثال، متلزمة تجاه التحالف المضاد لداعش ولديها وجود عسكري قوي في شمال أفريقيا. لذلك يتعين على الولايات المتحدة تشارك المسؤوليات وتنسيق العمليات هناك مع فرنسا.يجب على الولايات المتحدة وحلفائها أيضًا السعي إلى إضعاف الولايات عبر تصوير التنظيم المركزي على أنه منعزل تمامًا عن المظالم المحلية، في الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي. يرجح أن ينجح ذلك الأسلوب في الدول حيث يكون الشعور المعادي للأجانب قويًا بشكل خاص، كما الحال في الصومال، أكثر من الأماكن الأخرى ذات الهوية الوطنية الأضعف، مثل ليبيا.تحتاج الولايات المتحدة أيضًا إلى تقوية الدول التي تأسست بها أفرع لداعش. يجب أن توفر الدعم والتدريب لقوات الجيش، الشرطة والاستخبارات في مثل تلك المواقع. يجب أن تعرض تقديم المساعدة لتلك الدول في تحسين قدراتها الإدارية عبر الإصلاحات القضائية وتوفير الخدمات الاجتماعية ومساعدتها في تأمين حدودها عبر بناء الحواجز، تحسين الرقابة، وتدريب قوات حرس الحدود. أما في الدول التي تفتقر للحكومة الفاعلة، مثل ليبيا، قد يتعين على الولايات المتحدة التعاون مع الميليشيات والعشائر المحلية.تمثل الجاليات المنتشرة في الخارج، المشاركة في الحروب الأهلية ببلادها الأصلية، مثل الجالية الصومالية في الخارج، أحد أوجه القلق في سياق مكافحة الإرهاب. فحتى الآن، كان مثل تلك الصراعات محليًا بشكل رئيسي، ولذلك، إن شعر أحد أعضاء الشتات بالاضطرار إلى حمل السلاح، يمثل عادة تهديدًا ضئيلًا لبلده المضيف. لكن إن إنضم تنظيم مثل الشباب إلى داعش، قد ينمو ذلك التهديد. لكن جاليات الشتات يمكنها أيضًا أن تمثل فرصة، بما أن جمع الاستخبارات من أعضاء مجتمعات الشتات أسهل كثيرًا من جمعها من إخوانهم في أرض الوطن. وفي العديد من الحالات، تمثلت أفضل طريقة لحصد المكاسب في التعاون مع مجتمعات الشتات نفسها؛ فكلما شعر أفرادها بغربة أقل، كلما رجحت احتمالية إبلاغهم عن مثيري المشكلات في صفوفهم.عبر جميع تلك الطرق، يجب على واشنطن أن تدمج العديد من ولايات داعش داخل الإستراتيجية الأمريكية العامة ضد التنظيم. فإن تُركت دون مراقبة، ستهدد تلك الأفرع الإقليمية الشرق الأوسط وبقية العالم على نحو متزايد. لكن عند تطبيق السياسات الصحيحة، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الإضرار بشكل قوي بالولايات وقادتها، لتحول علاقة منفعة متبادلة إلى كارثة للطرفين.