وجوههم مليئة بكل معاني الإنسانية المقتولة، عيونهم محتبسة بالدموع وقلوبهم ترتجف هلعًا، امتلأت المستشفى بالجثث ومازالت مراكب الإنقاذ تحضر المزيد، أصبحت الجثث متراصة على جانب الشاطئ في أكياس سوداء يحاوطها الأهل والأقارب ليضعوا مزيدا من الثلج عليها حتى لا تتعفن لحين استلام تصريح الدفن في مشهد مهيب لن تراه إلا في أوقات الحر، أو ربما تتخيل وأنت مار من هناك أنه موقع تصوير أحد الأفلام السينمائية موسيقاه التصويرية تتشكل بآهات ودموع وصرخات لأمهات ونحيب لرجال من كل مكان، السواد يغيم حتى بحضور النهار الساطع.


يوم أسود في ذاكرة رشيد

الكفن ممدود من أول البلد لأخرها ولونه اسود عشان متفصل من جلاليب الأمهات اللي عيالها راحت

هكذا عبر أحد أهالي برج رشيد الواقعة في محافظة البحيرة عن تلك الحادثة المفجعة التي عاشوها خلال الأيام الماضية.

الأربعاء 21 سبتمبر/أيلول 2016م يوم أسود سيظل يتذكره أهالي رشيد ، تواردت أخبار عن غرق مركب لمهاجرين غير شرعيين، بالرغم من غرابة المصطلح لدى البعض وعدم فهم البعض لأبعاد القضية إلا أن أهالي رشيد يعلمون جيدا الأمر، فكثير ممن كانوا على متن هذا المركب من أبنائهم، بمجرد ظهور الخبر حتي انتشر في كل القرى التي يحمل قارب الأحلام المحطمة أبنائهم.

تجمع الجميع في انتظار ظهور أبنائهم أحياء على متن قوارب النجاة التي تصل للشاطئ كل بضع ساعات، منهم من حالفه الحظ ليجد ابنه مقيد بأحد أسرة المستشفى أو في إحدى مقرات الاحتجاز الشرطية، ومنهم من لم يحالفه الحظ ليجد ابنه أو شقيقه جثة هامدة داخل أحد الأكياس البلاستيكية، وربما الأبشع من ذلك وهو الانتظار المملوء بالأمل الذي يتبدد شيئا فشيئا مع كل قارب إنقاذ محمل بالجثث الذي يصل الشاطئ بين الحين والآخر .

ربما لم يفهم البعض ما يحدث ، لماذا هاجر كل هؤلاء بهذه الطريقة؟ كيف تتم عملية الهجرة؟ من المسئول عن هذه الكارثة؟ واستفهامات أخري كثيرة متعلقة بهذه القضية مغيبة تماما عنا جميعا إلا من احتكَّ بالقضية بشكل مباشر .

دعونا نبدأ من هذه الحادثة المفجعة تحديدا حتى نتخيل حجم الكارثة ، الإحصائيات المبدئية من شهادات الناجين أن عدد من كانوا على هذه المركب ما بين الـ 400 إلى 500 إنسان تتراوح أعمارهم ما بين كبار السن والأطفال الصغار حتى سن الرضاعة وتختلف جنسياتهم ما بين المصريين وهم الأغلبية والسوريين والسودانيين والصوماليين والإريتريين، بحسب آخر التصريحات الرسمية لوزارة الصحة أن الجثث المنتشلة 162، عدد الناجين 163 ناجي، وهذا يعني أن هناك 175 إنسان مازالوا مفقودين وبحسب شهادات الناجين أنهم حجزوا داخل ثلاجة السمك على المركب وهذا يضعنا أمام احتمالية كبيرة بارتفاع الجثث التي ستصل للشاطئ خلال الساعات أو ربما الأيام القادمة (بحسب سرعة عملية الإنقاذ).


قصص من وحي الواقع

تطوعت في عام 2012م في مشروع تنموي دولي متعلق بالهجرة غير الشرعية للأطفال من مصر لدول جنوب أوروبا ثم عملت فيه حتى منتصف عام 2014م مما جعلني أعيش وسط حياتهم ومنازلهم ومدارسهم وحياتهم وأحلامهم لأكثر من عامين وربما هم الأكثر تأثيرا في حياتي العملية ونظرتي للواقع .

تفاصيل الرحلة مؤلمة وبشعة بحسب حكايات الناجين والتي لاتسع مئات الصفحات لسردها، لكن يجب أن ندرس هذه القضية جيدا لنستطيع أن نعلم أبعادها

منذ ما يقارب الخمسة عشر عاما لم نكن نكاد نسمع مصطلح الاختفاء القسري ثم بدأ في الانتشار في أوساط الشباب في القرى والمناطق المهمشة، وبعد ذلك ظهرت ظاهرة هجرة الأطفال بشكل غير شرعي بسبب توقيع مصر على اتفاقية مع الجانب الإيطالي بترحيل المهاجرين غير الشرعيين ممن هم فوق سن الثامنة عشر وتناقل الأخبار بين الأهل .

هكذا تبدأ الرحلة يقوم الأب بالاتفاق مع أحد الوسطاء ممن يكونون غالبًا من أبناء نفس القرية، ربما أحد المحامين أو المدرسين أو حتى عمدة القرية نفسه على سفر ابنه الذي لم يتجاوز الثامنة عشر بطريق غير شرعي، يتم الاتفاق على السعر الذي يتراوح ما بين الخمسة وعشرين إلى الخمسين ألف جنيه بالنسبة للمصريين، أما الجنسيات الأخرى فتكون تكلفة الرحلة بالنسبة لهم ما بين الألفي دولار إلى الثلاثة، يقوم الوسيط بجمع مجموعة من شباب القرية، ويتواصل مع السمسار الذي يقوم بتنظيم الرحلة لجميع من تم تجميعهم من كل الوسطاء.

يتم تجميع هؤلاء الشباب والأطفال وأسر اللاجئين داخل أحد الأماكن القريبة من البحر وغالبا تكون في منطقة برج «مغيزل» ومنطقة رشيد؛ لقربهم من الشاطئ والسماح لسفن صيد الأسماك هناك بالمرور، حينما يتم تحديد اللحظة الحاسمة يتم نقلهم لمكان بداية الرحلة المميتة عن طريق سيارات نقل بضائع مغطاة، ويتم إنزالهم مجموعات في زوارق مطاطية لتوصلهم لإحدى سفن الصيد في عرض البحر والتي ستنقلهم إلى أوروبا الحلم المنشود.

تظل الرحلة داخل البحر لمدة 7 أيام تقريبا بلا طعام أو غطاء، البعض يحالفه الحظ في الوصول إلى الشاطئ والبعض الآخر يبتلعه البحر، بعد الوصول يتم عزل الأطفال تحت سن الثامنة عشر لتسلميهم إلى ملاجئ الرعاية التي تهتم بتعليمهم وتقديم بعض الخدمات لحين وصولهم سن الرشد، واحتمالية حصولهم على الإقامة تكون كبيرة إذا التزم بالبرنامج التأهيلي باعتبار أنهم أطفال معرَّضين للخطر، أما باقي الرحلة فيتم ترحيلهم إلى بلدانهم بناء على الاتفاقيات الدولية مع مصر ما لم يكن يستحق اللجوء .

تفاصيل الرحلة مؤلمة وبشعة بحسب حكايات الناجين والتي لاتسع مئات الصفحات لسردها، لكننا يجب أن ندرس هذه القضية جيدا لنستطيع أن نعلم أبعادها جيدا كخطوة مبدئية لحل الأزمة .


أسباب الهجرة كما رأوها

لماذا يقوم هؤلاء الأطفال بالهجرة في هذه السن على الرغم من احتمالية فشلهم، بل ورجوعهم في أكياس بلاستيكية أو ربما فقدانهم نهائيا؟ حلم تطوير الوضع الاقتصادي خاصة مع ضغوطات الحياة المتزايدة، وقلة فاعلية ونجاح المشروعات الصغيرة في حالة من الهبوط الاقتصادي المتوالي في مصر، كل هذا يدفع إلى التفكير في الحل الأقرب والمنظور في نجاح بعض الأشخاص داخل القرى التي تتبعناها على خريطة الهجرة غير الشرعية، في محافظات الغربية والبحيرة وأسيوط والملحوظ فيها ضعف الخدمات الاجتماعية، وزيادة في عدد القرى الفقيرة التي تعمل في الزراعة فقط والتي بدأت في الانقراض ، لكن هناك خطورة كبيرة في هذا الحل قد يؤدي إلى نهاية حياة المهاجر بكل ما يحمله من أمال و أحلام.

لكننا لم نرَ الجانب الآخر من القصة، وهو قلة نسبة التعليم ومستواه في هذه المناطق، مما يضيق من أحلام وفرص هؤلاء الأطفال والشباب وأسرهم، ويقلل من البدائل المتاحة والتي يمكن استنفار أموال الهجرة فيها، فكما عبرَّ أحد الناجين من حوادث الهجرة غير الشرعية الذين تقابلت معهم حينما سألناه عن هذا الأمر فأجاب:

يبقى تعارض فقر هؤلاء وقلة حيلتهم مع الأموال التي ينفقونها في الرحلة، ولكن بتتبع الحالات تبين أنهم جميعا إما يبيعون أملاكهم، والحيوانات التي يملكونها أو يقوموا بالاستيدان حتى يتمكنوا من تهجير ابنهم .

يراودهم الحلم بازدهار الأوضاع بمجرد وصولهم إلي أوروبا، لكن تقابلهم الحقيقة المرة هناك، الأطفال يظلون في الملاجئ والمدارس المخصصة لهم، ومصروفهم لا يتجاوز احتياجاتهم فيضطروا للهروب والعمل في أي حرفة ليفاجأ بعمل شاق وساعات طويلة بدون مقابل مجزي، إضافة لتهديه من صاحبه العمل بتسليمه للشرطة، يبقي المجال الأخير لهم وهو الأعمال الغير مشروعة ما بين نقل المخدرات لعصابات المافيا والعمل بالدعارة.

لم تكن هذه الحادثة الوحيدة خلال الخمس سنوات الأخيرة، ولم تكن هذه أول مركب ترحل محملة بأحلام أبناء هذا الوطن ليبتلعها البحر لتنقلب الأحلام إلي كوابيس مرعبة، فبحسب أهالي رشيد وبرج مغيزل وتقارير المنظمات الدولية العاملة في مجال الهجرة فهناك أكثر من أربع رحلات تخرج من هناك أسبوعيًا.


صمت الإعلام وتورط الحكومة

لو مت أديني هوفر مصاريفي على أهلي ولو عشت أديني هنتشل نفسي وأنتشل أهلي من اللي احنا فيه ، هنا موت وهناك موت يبقي أموت و أنا بحاول.

صمت إعلامي وتجريم لضحايا المركب بدون كلمة حداد أو مواساة واحدة للذين ما دفعهم للجوء إلى ذلك سوى ضيق الوطن بهم وبأحلامهم، الحكومة لا تصدر سوى بيانات وشعارات متتالية عن محاربة الهجرة غير الشرعية، بدون أي عمل حقيقي لمواجهتها سواء بإيقاف هذه الرحلات أو علاج الأزمة من البداية والعمل على تطوير هذه المناطق ورفع الوعي والتعليم بها، وتكثيف الجهود لعمل مشاريع استثمارية، ولو حتى من أموال الأهالي التي ينفقونها في رحلة الموت أو محاسبة المسئولين المقصرين في عملهم، سواء على الحدود التي يتم عن طريقها هذه الرحلات أو المسئولين عن الخدمات في هذه المناطق أو حتى المسئولين عن عمليات الإغاثة؛ الذين لا يصلون إلا لحمل الجثث بعد غرقها.

لم تكتفِ الحكومة بالسكوت الفعلي أمام هذه القضية، إنما ضيقت الخناق على منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق الإنسان، والتي تساعد بكثير في تطوير هذه المجتمعات؛ البرلمان حتى الآن لم يناقش بشكل جدي القضية، ولا يجد لها حلولًا، ولم يحاسب المسئولين بدوره عن مسئوليتهم التقصيرية، ولم يهتم بالجانب التشريعي المناهض للقضية؛ كل هذا وأكثر يدفعنا لكثير من الأسئلة معظمها يتعلق بحكايات الأهالي في القرى المصدرة للمهاجرين عن أن العاملين على هذه العمليات والمنظمين لها رؤوس كبيرة في الحكومة ولا أحد يستطيع إيقافهم !

مزيد من الأسئلة ومزيد من الحكايات المأساوية من الدلتا إلى الصعيد لا تنتهي ولا تتسع مئات الصفحات لسردها، تجسد المأساة لوطن يتشابه كثيرا مع البحر الذي أغرق المركب، وبين كل ذلك مازالت الجثث تصل الشاطئ بين صرخات الأمهات الثكلى والدموع المحبوسة في أعين الجميع قهرا وعجزا.

ربما نستطيع أن نصل لحل نتكاتف معا لتنفيذه، ولكن تظل المأساة حاضرة والألم متزايد .