ما إن يحلَُ موعد معرض القاهرة الدولي للكتاب حتى تتكالب دور النشر على إصدار الكتب، ويدور الجدل المعتاد حول الغث والسمين من الإصدارات الجديدة وأهم الترشيحات، ومؤخرًا انضم البوكتيوبرز إلى الجوقة.

لكن طرأ على عقلي تساؤل مغاير؛ كيف عاش كُتّاب اليوم أوقات المعرض وهم يرتدون ثوب القارئ المتشوق لهذا العيد؟ هل كانت لهم طقوسهم الخاصة مثلما نفعل؟ هل كانوا يحضّرون قوائم طويلة لاغتنامها أم تركوا أنفسهم لمفاجآت الحدث؟ 

حكايات الحب الأول

«زرت معرض القاهرة للكتاب للمرة الأولى سنة 1991م، كنتُ في سنتي الجامعية الأولى، والميزانية التي لديّ لشراء الكتب 20 جنيهًا فقط، واكتشفت أني لن أستطيع شراء الكثير حتى من سور الأزبكية، لكني وجدت بديلًا أفضل حين فاصلت أحد البائعين على شراء عدد من المجلات الثقافية القديمة مثل العربي والهلال وغيرها، وعدت إلى بيتي وأنا أحمل شنطًا بلاستيكية مليئة بالمجلات، ولم أخسر منظر العائد من المعرض وهو شايل ومحمّل».

هكذا بدأ الكاتب بلال فضل حديثه معنا حين سألناه عن ذكرياته المبكرة مع المعرض، والذي ترشحت روايته الأخيرة (أم ميمي) للقائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية «البوكر».

مع سنته الثالثة بالكلية، بدأ بلال العمل خلال دراسته، وأصبح يدخر طوال العام حتى يكون قادرًا على شراء «غنيمة المعرض»، كما تعرّف على عددٍ من دور النشر العربية، وعلى رأسها: دار المدى العراقية ودار رياض الريس ودار الآداب اللبنانيتين وجناح وزارة الثقافة السورية، ومن خلالها تعرف على أسماء مهمة تظل من أجمل ما قرأ لها، يقول: «لم أتصور أن الزمن سيمنحني بعد ربع قرن فرصة نشر أول رواية لي مع دار المدى التي عرفت من خلالها أعمال عزيز نيسين وماركيز وماريو بارجاس يوسا ومحمد الماغوط وغيرهم».

في الوقت نفسه، لا ينسى الندوات المهمة التي حضرها في ذلك العام، ومن بينها أول ندوة يعود بها الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل لمعرض الكتاب، ومناظرة الدكتور فرج فودة والشيخ الغزالي، أمسية شعرية لنزار قباني وأخرى للشاعر العراقي بلند الحيدري وثالثة للأبنودي، وندوات للكثير ممن أحبَّهم بلال.

لم تكن دور النشر التي يهتم بلال بزياراتها تلقى إقبالًا واسعًا بسبب ارتفاع أسعارها نسبيًا، فاعتاد الذهاب مرتين؛ الأولى ليكتب قائمة بالعناوين والأسعار، سيتكفل بهذه المهمة الإنترنت لاحقًا، والمرة الثانية في نهاية الأسبوع الثاني عندما تقل الأسعار ويرغب الناشرون في التخلص من الكتب قبل ختام المعرض. ويقول: «لم يحزنني أن أجد كتابًا أحبه وقد ضاع منّي لأني أؤمن أن اللقا نصيب، والكتاب لو مقسوم لك هييجي لك، أما الفلوس فهي التي ستضيع ولن تعود لذلك يجب التعامل معها بحذر».

لكن بقيت لديه بضعة استثناءات ككتب عزيز نيسين وترجمات صالح علماني وكتب السينما التي تبيعها وزارة الثقافة السورية، والتي كان لا يستطيع معها صبرًا، والتي كان يسعى لجمعها فور رؤيتها حتى لو استدعى ذلك استبعاد عناوين أخرى من قائمته.

عادة الشراء وفقًا لقائمة كتب لم تكن لبلال وحده، وإنما شاركته فيها الكاتبة نورا ناجي التي فازت روايتها (أطياف كاميليا) بجائزة يحيى حقي في دورتها الأولى، ووصلت للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الثقافية فرع الشباب.

اعتادت نورا تحضير قائمة بالكتب التي تريدها، مضيفة أسماء دور النشر وأماكنها وأخذ لقطات «سكرين شوت» لتساعدها في رحلتها إلى المعرض، أما الآن فقط خلصت إلى حقيقة جديدة، متعة الذهاب دون سابق تحضير واقتناء الكتب التي تناديها كما تصف: «أيوة.. بحس في كتب بتشد انتباهي وبتناديني فعلًا عشان أقراها».

لذا أصبحت تُقسِّم رحلة المعرض لعدة أيام ولا تكتفي بيوم واحد، وبدلًا من قائمتها الطويلة واستوديو الهاتف الممتلئ بعناوين الكتب، تسبح نورا في بحر دور النشر العامرة بالعناوين والأغلفة الجديدة، وترمي صنارة بصرها وتنتظر «غمزة» الكِتاب الذي سيوقعها في شباكه. 

تشارك إيمان جبل، التي صدر كتابها الأول (من ينقذ بحيرة البجع؟) في العام الماضي، نورا في حب السير بلا تخطيط مسبق، تقول إيمان:

«تشكلت طفولتي كاملة فوق تجربة معرض الكتاب، اعتاد أبي اصطحابي بصفة دائمة إليه، وتجول معي بين جنباته لنتشارك الخيارات سويةً، بقائمة اكتشافات لا نرتبها في كل مرة، ونعود إلى البيت لنحشو بها مكتبة الصالون الكبيرة».

لم تعتمد إيمان فكرة القائمة المنمقة، بل طورت بصورة بسيطة وتلقائية قائمة اختيارات محدودة من الخارج وأكثر اتساعًا نحو الداخل. «لم تعد طريقة الطفلة القارئة التي تريد ابتلاع المعرفة بالنفع على الكاتبة التي تنمو داخلها، تنقب عن كل معلومة لتخلق لها جذورًا جديدة، أو لاستئصالها بالكامل» بحسب تعبيرها.

وينضم رامي وفا، شاعر العامية الذي حاز ديوانه الأخير (وربنا بيشرح لي) على المركز الأول من جائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية، إلى الكاتبتين في عدم اعتماده على قائمة شراء في زياراته إلى المعرض.

يقول رامي: «أول معرض حضرته في حياتي مكنش من زمان، لإني بدأت القراءة أصلًا متأخر جدًا تقريبًا في 2013م، ومكنش حد حواليا مهتم بفكرة المعرض، مكنتش بحضر قوايم كتب لإني ببساطة كنت ببقى عارف إني ممكن بس من هيئة قصور الثقافة والهيئة العامة للكتاب والمركز القومي للترجمة أجيب كَم كبير من الكتب، ودول كانوا عادة أول حاجة بزورها في المعرض وباخد وقتي في البحث فيهم، المركز القومي للترجمة تحديدًا كان المفضل بالنسبة لي بالإضافة إنه كان بيعمل خصم 50% للطلاب».

هل اختلف الأمر حين تغيرت الأدوار؟

حينما توجهتُ بالسؤال إلى نورا ناجي هل تغير شيء من عاداتها في التعامل مع معرض الكتاب بعدما احترفت العمل في مجال الكتابة، أجابت «ما لم يتغير بين كوني قارئة وكاتبة أني ما زلت أذهب للتجول بين صفوف الكتب اللا متناهية لأجلب ما أريد، أحب التجول وحدي في الصالات الأقل ازدحامًا وأهرب الآن من التجمعات أحيانًا لأستمتع بجولاتي مع نفسي».

وهو ذات النهج الذي وفقتها فيه إيمان التي قالت لي إنها بمجرد رؤيتها للكتب في حلتها الجديدة متراصة على الأرفف وملامستها وشم رائحتها تنتقل إلى عالم مريح لا يحوي في معاجمه سوى كلمة «سلام».

نورا من محبي المعرض الجديد، أصبحت رحلة المعرض أسهل وبالتالي ساعدتها على زيارته بشكل شبه يومي وإشباع حبها للتجول لساعات منتظرة لقاء كتاب جديد يناديها.

أما بلال الذي لم يزر المقر الجديد قط، فقد ارتبطت لديه ذكريات المعرض في أيام الفَلَس بالندوات أكثر من شراء الكتب، ليس فقط لأهمية تلك الندوات، كما يرى، ولكن بسبب الكاركترات العجيبة والمثيرة للاهتمام التي صادفها في تلك الندوات والتي شاركنا أنه كتب عن بعضها فيلمًا لم ير النور حتى الآن.

فيما بات رامي مع صدور ديوانه الأول (مايم) عام 2016م، أشد انتقائية، ابتعد عن فخ «الكتب الأكثر مبيعًا»، وتطورت ذائقته كقارئ يدرك ما يحب من الأعمال والكّتاب، وبدأت مرحلة الشراء الواعي. يقول: «فاكر مثلًا إني في المرحلة دي اشتريت أكبر عدد من روايات نجيب محفوظ الطبعات القديمة الصغيرة، وكنت طبعًا بروح سور الأزبكية أتفرج وأنقي العناوين اللي حاسس إنها شداني حتى لو معرفش كُتّابها خالص».

أما إيمان فتجد نفسها مع كل فكرة لمخطوطة جديدة تقتني من الكتب، ما يفوق عدده كل ما اشترته في أي معرض من المعارض بحياتها. «لا أقول أني أصبحت متمرسة في تمييز النوعية التي تشل إبداعي، وتلك التي تطلقه مثل فرس جموح، حتى الآن، ولكني بدأت أتعلم مؤخرًا متى يمكنني التوقف، وأين يمكن للوحي أن يموت».

ولادة الكِتاب البِكر

يستغرب رامي من سعادة الكُتَّاب لحظة الإمساك بكتابهم مطبوعًا بين أيديهم، هو الذي صاحب القلق الشديد نشر أول دواوينه، فهم وقتئذ أنه يستمتع بالكتابة نفسها، أما عملية النشر ووصول الكتاب إلى الناس تصيبه بالتوتر ولا تحمل أي بهجة أبدًا. 

يصف شعوره قائلًا: «اليوم اللي رحت فيه حفلة توقيعي وشفت الكتاب على الرفوف حسيت بقلق غير عادي ورغبة في الهروب وحرق النسخ كلها».

وعلى الرغم من شعوره هذا، يقول: «كانت حفلة جميلة مشتركة مع الصديقة الشاعرة مي رضوان، قرأنا الأشعار معًا وشاركنا الاحتفال الكثير من الأصدقاء والكُتّاب».

وبخلافه، نُشرت أولى روايات نورا عام 2015 ولم تكن في مصر آنذاك، حال هذا بينها وبين شعور الفرحة برؤية باكورة كتاباتها تخرج للنور، في العام التالي نشرت رواية (الجدار) في شهور الصيف خارج موسم المعرض فلم تشعر بالفرحة المؤجلة كما يجب.

ثم صالحتها الأيام مع صدور (أطياف كاميليا) عام 2020م، وضمتها بيديها للمرة الأولى بين جنبات المعرض، شعرت بفخر مخلوطٍ بالابتهاج يستحقان عناء الانتظار، وتعجز -مع اتساع معجمها- عن وصفه بالكلمات.

تقول: «دلوقتي عندي قاعدة قراء وكتير من الناس بتوقفني للتحية والإطراء على كتاباتي ويطلبوا إننا نتصور، وحسيت بالتقدير والحب لكتابتي، وعشان زوار المعرض هما العيلة اللي الواحد بينتمي ليها، كانت حاجة شبه مهرجان الأوسكار للقراءة».

تمتلئ إيمان بخليط من بهجة الطفل القارئ وخوف الكاتب؛ يُضيّق الخوف عليها الخيارات بعد كل مخطوطة تنتهي من كتابتها، بل بعد كل صفحة، تصفه بقولها: «تمامًا كرياضي تشكل له كل لقمة يتناولها قيمة ما في أدائه، ولياقته العامة.. هكذا تمامًا يشعر الكاتب».

تود إيمان التلذذ بعملية القراءة، ولكنها لا تريد لذائقتها الأدبية أن تموت. تخاف من الكتب التي تلتهمها، خشية أن تتناول شيئًا مسمومًا وتتلذذ بمذاق السم الغريب دون أن تدرك أن فيه هلاكها.

أما بلال فداوم على حضور حفلات التوقيع التي يقيمها الناشرون الذين تعامل معهم، كدار ميريت ثم دار الشروق، ولطالما أسعدته لأنها فرصة عظيمة ليقابل القراء القادمين من الأقاليم خصيصًا لحضور المعرض، والذين وطد الصداقات مع بعضهم فيما بعد.

ثم توقف منذ عام 2005م عن الذهاب إلى المعرض تفاديًا للزحام الذي بات إزعاجه غير محتمل، ووزّع شراء الكتب على مدار العام، وأصبحت زيارة مكتبات وسط البلد ومكتبة القاهرة الكبرى في الزمالك بديلًا مناسبًا، بالإضافة إلى الاستعارة من أصدقائه.

وعلى خطى بلال قلّت زيارات رامي للمعرض ليس بسبب الازدحام، لكن لظروف عمله وتغير عاداته في القراءة بشكل جذري. زاد من قراءاته الإلكترونية عبر المكتبات الرقمية المقروءة والمسموعة، واقتصرت مشترياته على الكتب التي يود الاحتفاظ بها أو التي يحتاجها في شكلها الورقي.

لا تزيد مقتنياته حاليًا من المعرض عن 20 كتابًا، من دور نشر متنوعة وأغلبها غير أدبي، خلافًا لبداياته، «معظمها كتب فِكر وفلسفة وفنون، مش روايات ولا دواوين شعر، لإن دي الكتب اللي بحس إني محتاجها أكتر الفترة دي».

تخالفهما نورا في ذلك، فهي تحرص على التواجد قدر المستطاع، وتختلط نشوة ابتهاجها بإصدار جديد لكاتب تحبه بدهشة تغمرها حين يكون ذاك الإصدار الذي يغطي الرفوف يحمل اسمها.