التفسير الموضوعاتي للقرآن هو التفسير البراجماتي الحديث، السائد على مستوى السنة والشيعة في القرنين العشرين والحادي والعشرين. وأحيانًا يطلَق عليه تبسيطًا، ولكن خطأً، «الموضوعي».

هذه التسمية الأخيرة تدخلنا في اشتباه اصطلاحي؛ فالموضوعي مقابل الذاتي في الفلسفة، بينما يعني هذا التفسير أمرًا مختلفًا تمامًا، هو التفسير طبقًا لموضوعات النص، لا طبقًا لمعناه في الرواية، أو طبقًا للسانيات، أو الرمز. وفي اللغات الغربية يوجد ترجمة للموضوعي سوى هذا المعنى مقابل الذاتي، وهي المنسوب إلى «التيمة» Thematic، لكن العربية لا تتضمن ترجمة سهلة لهذا المصطلح، لذلك يفضل الدارسون تسمية هذا النوع من التفاسير بالموضوعاتي لدرء الاشتباه.

وكي نفهم «الموضوع» Theme في هذا السياق ربما كان علينا أولاً فهم أهم تقنيات التفسير «الموضوعاتي» Thematic للنص القرآني؛ فأصل «الموضوع» غير واضح بذاته. فإذا كانت كل الأصول التفسيرية السابقة: الرواية، والمجاز، والرمز، هي أصلاً تقنيات عامة لتحويل معنى لفظ؛ من معناه الحقيقي، أو الشائع في الاستعمال، إلى معنى مختلف؛ اعتمادًا على نص رواية متوارثة، أو على معناه المجازي، أو عن طريق اعتبار هذا اللفظ رمزًا بناءً على نوع من الإشراق، فإن «الموضوع» هو كذلك تحويل للمعنى، ولكنه لا يعمل على لفظ معين بشكل مباشر.

التفسير الموضوعاتي يعنَى أولاً وأخيرًا بالسياق، الذي يكتسب هذا اللفظ معناه منه. ومع ذلك فهو يختلف عن السياق الرمزي، الذي يعنَى بسياق جزئي؛ سياق قصة نبوية، أو معجزة، أو واقعة معينة، مثلاً؛ فالسياق في التفسير الموضوعاتي أشمل بكثير، لا ينسحب فقط على النص القرآني كله، بل على الأطروحة الإسلامية كلها.

يقوم التفسير الموضوعاتي إذن بإعادة إركاز النسق القرآني النظري ككل. بالأحرى هو يحوله إلى نسق من النظريات والاستراتيجيات أقرب في تصورنا الفلسفي إلى مذهب واقعي عملي كالماركسية مثلاً وتأويلاتها، وتحريفاتها، المختلفة، لكنه جد مختلف في عناصر النسق وعلاقاتها الداخلية. وربما كان ذلك تأثرًا بأشكال الكتابة النسقية الحديثة، ومذاهب الفلسفة الغربية، التي بدأت تتوافد في الترجمات والشروحات عن اللغات الأوروبية الحديثة منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى بلاد المسلمين.

يبدأ المفسِّر الموضوعاتي بتحديد الكليات، قضايا الإسلام الأساسية، وذلك بنظرة عامة على القرآن والسنة ككل أولاً، ويستنبط منهما أسس الإسلام كنظرية، وكاستراتيجية، ثم يُفسِّر المعاني الجزئية في ذلك الضوء. ومثال ذلك لو قلنا مثلاً إن الأصل في الإسلام هو المساواة بين الناس (وهو السياق)، نستنتج إذن فكرة المساواة بين الرجل والمرأة، والمساواة بين أجناس البشر (وهو الجزء)، وسوف نفسر الآية 34 من سورة النساء (آية القوامة) بشكل مختلف انطلاقًا من هذا السياق العام. نقرأ مثلاً في تفسير «المنار» لعبده ورشيد رضا ما يفيد أن القوامة هنا مقابل المال؛ فالمال تقبله المرأة في حال قبولها للرياسة عليها، وهو تبرير يحاول الالتفاف حول قضية التفضيل الخِلْقي.[1] سنجده يستقرئ فكرته من التاريخ، ومن أحوال الأمم الحديثة غير المسلِمة، سنجده يؤكد أن المهر أجر له مقابل، وأن القرآن يعتبر الرجل والمرأة كليهما عضوين في جسد واحد، وأن التفضيل للبعض على البعض، وليس لكل الرجال على كل النساء.[2]

سنجد أن مثل تلك التبريرات نادرة، أو غير موجودة في التفاسير السابقة، مثل الطبري، أو ابن كثير، بل سنجد التأكيد على «الأخذ على أيدي النساء، وتأديبهن»، والتأكيد على التفضيل الفطري للرجل على المرأة، وسبب نزول الآية: أن امرأة جاءت للنبي محمد (ص) تشتكي ضرب زوجها لها، فأراد أن يقتصّ لها، فأنزل الله هذه الآية، ولسبب النزول هذا –في التفاسير القديمة- وظيفته في السياق، فهو يعني أن الرجل والمرأة غير متساويين قطعًا، على الأقل في مسألة القصاص.[3]

كان ما سبق مثالاً توضيحيًا للتفسير الموضوعاتي، يوضح بالتبعية دور «الموضوع» في عملية التفسير.

الموضوع إذن كأصل تفسيري للقرآن هو ما يقصده القرآن بكليّاته، بنسقه العام، وبناءً عليه تتحول المعاني الجزئية لتتكيف مع السياق الجديد. ليس إلى هذا الحد فحسب، فقد يعيد المفسّر الموضوعاتي فهرسة سور القرآن، لا بهدف تبديل المصحَف، بل بهدف ضم الآيات، والسور، التي تتحدث في موضوع واحد تحت عنوان ذلك الموضوع.

مثال واضح على ذلك تقسيم تفسير عابد الجابري، الذي رأى أن القرآن قد تطوَّر تاريخيًا، ولذلك يجب تفسيره طبقًا لترتيب النزول، لا لترتيبه في المصحف، وطبقًا لقضاياه الأساسية.[4] وهذه العملية من إعادة الفهرسة واردة في أغلب التفاسير الموضوعاتية، حتى وإن لم ينص عليها في مقدمة التفسير، أو لم تظهر في فهرسه؛ فالمنار مثلاً يبدأ بمقدمة وعنوان قبل الكلام على الآية المقصودة، وكذلك يبدأ الجابري بمقدمة قبيل الشروع في تفسير الآية. وهذا في مقابل الفهرسة التوقيفية، أو بحسب أطوال السوَر، في المصحف.

فبينما يسعى المجاز مثلاً إلى تحويل دلالة اللفظ من معناه الحقيقي الإشاري (أي إشارته إلى شيء في الواقع المشترَك) إلى معنى مختلف وارد في الاستعمال في عادة أهل اللسان، فإن الموضوع لا يفعل ذلك بشكل مباشر، وإنما يجري تعديلات على السياق العام، وينطلق من الكلي إلى الجزئي.

الفارق هنا أن الأصول التفسيرية الثلاثة السابقة تخرج من الجزئي إلى الكلي في التطبيق، حتى وإن انطلقت في عقل المفسر في اتجاه معاكس، أما الموضوع، فهو يتحرك علنًا من السياق إلى عناصر السياق، وعلاقاتها الداخلية. وهو بهذا الشكل يستوعب جميع الأصول التفسيرية السابقة، ويوظّفها لصالحه، بل هو الأصل الأكثر استيعابًا لغيره من أصول التفسير، إذا كان المجاز أقلها في ذلك.

لا يستنكف المفسر الموضوعاتي من الاعتماد على الرواية أحيانًا، أو التحليل اللساني، أو الرمز؛ لأن قضيته ليست المنهج بقدر ما هي المذهب؛ أي النتيجة النهائية للتفسير، بقطع النظر عن الطريق المؤدِّي إليه.

والملاحَظ من دراسة مناهج التفسير في سياقها التاريخي أن تفسير القرآن بدأ جزئيًا وانتهى سياقيًا؛ بدأ بكل آية على حدة، وما قيل فيها من روايات، ثم صعد إلى نسق اللغة، وإن لم يكن إلى نسق الأطروحة القرآنية نفسها.

مع التفسير الرمزي خطا التفسير خطوة أوسع نحو السياق؛ فالتفسير الرمزي يعنَى أولاً، وكما أوضحنا في مقالة سابقة عن التفسير الرمزي، بالسياق، ولكنه سياق جزئي، كسياق قصة من القصص القرآني، أو مجموعة محدودة من الآيات. أما التفسير الموضوعاتي فقد تجاوز هذا المجال المحدود إلى سياق الطرح النظري الإسلامي في عمومياته.

وكما اعتمدت الرواية على قبولها التلقائي بين المسلمين بما هي امتداد تاريخي للوحي، واعتمد المجاز على قبول الناس للتفسير اللساني الذي يراعي شروط استعمال اللغة، وكما اعتمد الرمز على سلطة روحية مزعومة، وقبول بعض الناس بها، فقد اعتمد التفسير الموضوعاتي كذلك على مسلمات مقبولة؛ فالموضوعات المستنبَطة من النص إما هي مشهورة ومقبولة في الفترة المعاصرة بين «الحداثيين»، كقضية المساواة، وإغلاق باب الرق، والتسامح مع الديانات المختلفة، والديمقراطية، وإما هي مقبولة ومسلم بها عند المؤمن بالإسلام كعقيدة أساسية لا يمكن تبديلها.

هذا التوجه الأيديولوجي للتفسير الموضوعاتي هو الذي سمح بتقارب ربما غير مسبوق في التفسير بين السنة والشيعة في غالبيتهم في الفترة المعاصرة؛ فسنرى مع الفصل القادم كيف أن التفاسير الموضوعاتية الشيعية قد تخلصت من الإيغال في الرمز لصالح الانتساب إلى مشروع إصلاحي إسلامي عام، حتى وإن اختلفوا بشدة مع السنة في كيفيته، فهم متفقون معهم في ضرورته.

التغيير يبرِّر التفسيرَ

يعتمد التفسير الموضوعاتي على مبدأ ضرورة تكييف التفسير طبقًا لاحتياجات المجتمع في ظرف تاريخي وجغرافي معين، ولهذا يمكن القول إنه تفسير قصدي، لا يبدأ من تناقضات الآية مع الآية ويحاول الفهم، بل بتناقضات الآية مع الواقع، ويحاول التغيير بالتفسير.

فمنذ أواخر القرن التاسع عشر بدأ العالم الإسلامي، وبخاصة الشرق الأوسط الأعلم باللغة، يعاني، ويشهد بعينيه، الاستعمارَ الحديث، والقائم غالبًا على احتلال عسكري مباشر. كما بدأ المسلمون يقرأون، ويترجمون أطروحات نقاد الإسلام من المفكرين، والساسة الغربيين، وقبل ذلك بدأوا في تلقيها بجدية واعتبار؛ فقبل العصر الحديث، قبل الحملة الفرنسية بالذات، كان التواصل مع الغرب محدودًا من جهة، وكان الغرب متخلفًا نسبيًا من جهة أخرى بما لا يسمح لأطروحاته النقدية بوجاهة معينة.

وهو كذلك ما يعني أن استنباط «الموضوع» من القرآن إنما يتم في سياق التفسير الموضوعاتي بناءً على مراعاة الضرورات العصرية من جهة في مواجهة التخلف الداخلي، والاستعمار الخارجي، وعلى ردّ النقد من المعسكرات المضادة، التي غالبًا ما كانت علمانية، من جهة أخرى. ولذلك يمكن القول إن «عصرية» التفسير الموضوعاتي، بما قد يؤدي إليه على مدى أبعد من «إصلاح» الإسلام، هي المبدأ المؤسس له.

ومع ذلك فلهذا التفسير أصول بعيدة نوعًا في تنظير أبي إسحق الشاطبي الأكثر إسهابًا ونسقية لمقاصد الشريعة؛ فإن الأصول الخمسة عند الشاطبي هي أصول للشريعة ككل، تستهدفها بشكل مباشر، وغير مباشر، عن طريق الأحكام الجزئية. ورغم اختلاف أصول الإسلام الثمانية عند محمد عبده (انظر ما يلي) عن أصول الشريعة الخمسة عند الشاطبي، فإن المبدأ واحد؛ وهو الرؤية العامة التأصيلية، التنسيقية، للدين.

صحيح أن الشاطبي يتحدث في سياق التشريع، ولكن «أصل الدين» من الأصول الخمسة، الأصل الأهم فيها بحسب تنظير الشاطبي، هو أصل عقدي، بما يجعل سياقه متشابكًا مع سياق عبده تشابُكَ الجزء مع كله. هذا إلى حد أن بعض المفسرين الموضوعاتيين كعابد الجابري يستلهم الشاطبي صراحةً في مسألة فهم المدني على المكي.[5]

محوَر المنار

يمكن القول إن محمد عبده (ت 1905م) كان المؤسس لهذا النوع من التفسير في سياق رؤيته للإصلاح الديني في الإسلام بين العرب. وكما هو معروف فقد كان عبده منخرطًا في بداية سعيه في السياسة، ولم يكن كاتبًا نسقيًا على أي حال، ولكنه تمتع برؤية نسقية واضحة، نجدها مثلاً في «الإسلام بين العلم والمدنية»، وبخاصة في الفصل المعنون بـ«أصول الإسلام».[6]

إذا طالعنا تفسير المنار فسنجده لا يكاد يخرج عن «تدعيم» تلك الأصول بالتفسير، وقد توقف عند الآية 125 من سورة (النساء) كما هو معروف، ليستأنف رشيد رضا القيام بالمَهمة حتى الآيات العشر الأواخر من سورة (يوسف).[7] وقد وضع عبده مقدمة منهجية للمنار، يحدد فيها وظيفة الدين في الحياة، ودور المفسِّر، وأهم أصول التفسير كاللغة، والأساليب، والتاريخ، والسيرة.. إلخ.[8]

ونشعر حين نقرأ مقدمة المنار وكأننا أمام مرحلة تحول جوهرية في تاريخ التفسير؛ فعبده ينظم التفاسير في سياق واحد، وينكر عليها إفراط كل منها في جانب معين: كالمرويات، أو القصص، أو اللغة، أو الأحكام الشرعية،.. إلخ.[9] ومن هنا يبدأ تأسيس موقفه الخاص في المواجهة، وهو موقف يعتمد أساسًا على ضرورة تحقيق إصلاح إسلامي يقدر على مواجهة تحديات العصر، ومن هنا رؤية التفسير الموضوعاتي عمومًا للإسلام كأيديولوجيا.

 ومن هنا أيضًا علاقته بالإسلام السياسي، كنموذج سيد قطب مثلاً، وعلاقته بالماركسية واليسار عمومًا كنموذج حسن حنفي في اليسار الإسلامي. وقد غطّى المنهج الموضوعاتي كامل التفاسير تقريبًا الصادرة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، فهو إذن التفسير «المعاصر» أو «الحديث»، إذا أردنا تحقيبه في مرحلة تاريخية. والسبب بطبيعة الحال في نشأة هذا التفسير، وارتقائه، في هذه الفترة بالذات هو الضغوط الغربية، النظرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، التي عانى منها العالم الإسلامي في هذا العصر.

تكوين السياق التفسيري

إذن يبدأ التفسير الموضوعاتي أولاً بتحديد السياق، البنية العامة للدين، ودوره في المجتمع، وفي تحقيق سعادة الإنسان الدنيوية والأخروية. ويضع الآيات في سياق نظري، قد يمكن استنباطه بقدر من الموضوعية من نص القرآن، ولكنه في كل الحالات «مضاف» إلى القرآن، وغير مصرح به فيه؛ وذلك أن السياق الموضوعاتي للتفسير لا يعتمد كليةً على نص القرآن، بل كذلك على أطروحة نظرية تخدم هدف الإصلاح الديني-الاجتماعي.

بعد ذلك –كما رأينا مع النماذج السابقة وكما سنرى لاحقًا- يقوم بتفسير الآيات طبقًا لموقعها في السياق النظري، ويستعين على هذه الخطوة بالرواية أحيانًا، أو التحليل اللساني، أو الرمز. وبهذا يشكّل الموضوع السياقَ الأعمّ، الذي تنشط فيه بقية الأصول التفسيرية في تناغم أوركسترالي. وبهذا يكون الفرق بين تفسير وآخَر من التفاسير الموضوعاتية هو مدى تماسك النسق الناتج، ومدى قدرة المفسِّر على البرهنة عليه من خلال القرآن والسنة والمرويات واللغة والرمز، وأخيرًا، وربما أولاً، الأيديولوجيا، التي يدين بها هذا المفسِّر/المفكِّر؛ فمع التفسير الموضوعاتي تكاد تتماهي الحدود بين التفسير والإبداع بدرجة أعلى بوضوح مقارنةً بالتفاسير، التي تعتمد الأصول الثلاثة السابقة كأصول أساسية.

المُساوَقَة والتَّبْعِيد

مثلما كانت عوامل اعتماد الأصول التفسيرية السابقة متجذّرة في الضرورة، التي شعر بها بعض المفسرين من مدارس مختلفة، لتأكيد عقائدهم، وتأصيلها، وتمريرها، فقد كان الداعيَ الأساسي للتفسير الموضوعاتي هو الحاجة إلى تأصيل مشروع الإصلاح الديني الإسلامي الحديث في معاني القرآن نفسها. وبالتالي كان الدافع الخفي وراء ذلك هو الشعور بخلل ما في دور الدين في المجتمع في عصور الانحطاط، في العصر الذي فيه عاش المفسرون الموضوعاتيون أنفسهم.

ولا نستطيع كذلك أن ننفي أثر التأثر بأنماط الكتابة الحديثة المفهرسة النسقية للكتب والأبحاث، وبأنساق الفلسفة الحديثة، ولا أن ننفي قدرة هذا التفسير النوعية كذلك على مخاطبة جمهور، أو باحث، غير مسلم، فهناك إذن عامل (حوار الحضارات)، الذي يسمح التفسير الموضوعاتي به بدءًا.

وربما كان من العوامل كذلك قُدرة التفسير الموضوعاتي النوعية، مقارنة بغيره من التفاسير، على مساوقة ثقافة الحداثة، واللغة المعاصرة، والبيئة المحلية، وتجنبه التلقائي للخلافات المذهبية، والتوغلات الرمزية، وللبحوث اللسانية المفرِطة.

لكنْ أهم من ذلك قدرته على «التَّبْعِيد» Dimensionierung قدرته على إضافة بُعد أعلى للتفسير، هو سياق الدين-المجتمع، المضاف إلى سياق القرآن نفسه، بل الذي يقرَأ القرآن في سياقه، ويفسَّر. هذا بينما تتحرك الأصول التفسيرية السابقة كلها (داخل) النص القرآني بما هو نص، لا بما هو نسق نظري، هذا رغم ما ذكرناه من الطبيعة النسقية للتفسير الرمزي، التي هي محدودة كما قلنا.

النتائج لا المناهج

يحظى التفسير الموضوعاتي حاليًا فعلاً بقبول عام، يفسر اتساع انتشاره، وطول امتداده. وحين يتم التعرض له بالنقد فإنما يقتصر الناقدون عادةً على النتائج، لا المناهج.[10] الشعور بالخلل السابق ذكره، الخلل في علاقة الدين-المجتمع، شعور عام بين المسلمين اليوم، يفسرون به سبب تخلفهم بما هم مسلمون، وبالتالي كان الداعي إلى مثل هذا التفسير معاصرًا، وقويًا، ومنتشرًا. لكن حتى التفسير الموضوعاتي كانت له حدوده، التي عليها انكفأ، كما سنرى.

تعقيب: الطائفة الأيديولوجية

كما كانت حدود التفسير الرمزي هي حدود طائفته في المجتمع، فإن التفسير الموضوعاتي كذلك قد حدد نفسَه في طائفته الأيديولوجية إن جاز التعبير. إن التفسير الموضوعاتي ليس تفسيرًا على الدقة، بل هو أقرب إلى «تطبيق» لأيديولوجيا جاهزة على القرآن، أقرب إليها من مجرد محاولة «تفهيم»، أو «شرح». صحيح أن كافة المدارس التفسيرية سابقة الذكر كانت لها كذلك أهدافها الأيديولوجية في ترسيخ عقيدة معينة، واستبعاد غيرها، لكنها لم تكن على هذا المستوى من النسقية، النسقية المضافة على القرآن كما قلنا، لا مجرد النسقية (فيه).

ونظرًا لقوة ارتباط التفسير الموضوعاتي بالنسق الأيديولوجي؛ الإصلاحي الإسلامي (عبده نموذجًا)، أو الليبرالي (العقاد مثلاً)، أو اليساري (حنفي ومحمود طه مثلاً)، ونظرًا لأنها أنساق (مضافة) كما ذكرنا، فإن النقد يأتي عادة من خارجها، من المعسكر المضاد، من خارج القرآن نفسه، ولكنه نقد يتذرّع بمناهج تفسيرية أخرى وبنصوص من القرآن، والسنة، والروايات.

لكن المفارقة أنَّ المدرسة الموضوعاتية التي تقوم على مبدأ دور التفسير في الإصلاح الديني، هي نفسها التي أدّت إلى مزيد من المخاطر، التي تريد هي نفسها درءَها؛ فقد تغيّا المفسرون الموضوعاتيون الحريةَ، حرية المجتمع من الاستعمار بمعناه العام، وحرية الفرد من الاستبداد، بينما تراجعت تفاسيرهم خطواتٍ إلى الوراء على هذا الطريق؛ فهذا التفسير الأيديولوجي-البراجماتي للقرآن قد سمح تلقائيًا باستغلاله من قبَل الإسلام السياسي، سواءً كان جماعات معارضة، أو تمثل في حكومات رسمية سنية وشيعية؛ لأنه يقر الصلة بين الدين والدولة عمليًا، لا نظريًا فحسب، في عملية التفسير ذاتها، ويضعف التوجهات العلمانية المتسلّحة برؤى تقدمية، يهدف بعضها إلى تحرير المجتمع والفرد، ويشكّل في النهاية سلطة مجتمعية جديدة مستبدة، كان هو نفسه يروم القضاءَ عليها.

ولا تخفى الطبيعة الديماجوجية لهذا التفسير؛ فهو تفسير نفعي في أساسه، «يستعمِل» القرآنَ قبل محاولة فهمه، وبالتالي فالهدف يبرر الوسيلة، والأيديولوجيا تبرر التفسير، مما زاد الفارق –الذي حاول التفسير الموضوعاتي نفسه أن يقرّبه- بين قارئ القرآن، ونص القرآن؛ حيث حالت بينهما الأيديولوجيا، ولم يتم تلقي النص على بكارته، وأُجهِضت في سياقه الخبرة الدينية الأصيلة.[11]

المراجع
  1. المنار: 5-67.
  2. السابق: 5/68-69.
  3. الطبري: 6/687-689، ابن كثير:4/20-26.
  4. الجابري: فهم القرآن الحكيم: 1/14-15.
  5. الجابري: فهم القرآن الحكيم: 1/9.
  6. محمد عبده: الإسلام بين العلم والمدنية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2012، ص 75-84.
  7. المنار: 1/14.
  8. السابق: 1/17-31.
  9. السابق، نفسه.
  10. انظر مثلاً النقد المسهب لمدرسة المنار (خلفاء محمد عبده): الرومي، فهد بن عبد الرحمن بن سليمان: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، مؤسسة الرسالة، بيروت ط2، 1983، ص 733-780.